عسكرة المجتمع إلى متى ؟ – ماهر نصرت

عسكرة المجتمع إلى متى ؟ – ماهر نصرت

الصناعة هي الوسيلة الوحيدة التي يتم من خلالها تطور الشعوب وارتقاء الامم، وتلك العلوم التي يتلقاها الطلبة في الجامعات تكون غاياتها السعي وراء التطور العلمي الذي يصب بالنهاية في الحصول على قاعدة صناعية متقدمة تتوافق مع التطور الدولي على اقل تقدير الذي صار يعدو سريعاً كما نرى ما وصلت اليه تكنلوجيا الدول الصناعية وشركاتها الكبرى من تقدم وارتقاء عظيم وكأنهم في سباق معلوماتي لا يتوقف.

ان دولة استهلاكية بلا صناعة تعتمد على الاستيراد بشكل مطلق سيكون مصيرها الانحدار والسقوط نحو الهاوية عاجلاً أو آجلاً فلا بد من ان يأتي اليوم الذي ينفذ ما لديها من ثروات وموارد لتجد الحكومة نفسها مفلسة تستجدي الخبز من أجل سد رمق مجتمعاتها ، عندئذ سيتمزق كيان الدولة من وراء انتفاضات شعوبها الجائعة ويكون غنيمة سهلة بيد دول الجوار او الدول الاستعمارية القادمة بجيوشها المتطورة من وراء البحار وينتج عن ذلك الانحطاط والتراجع المتواصل الى فقدان اراضيها تباعاً وتدخل كل من هب ودب بشؤونها الداخلية والخارجية الى ان يصل مصيرها الى السقوط والتشتت كما سقطت الامبراطوريات والمماليك والدول الضعيفة المفلسة عبر التأريخ المليء بتلك الاحداث المزلزلة  .

عسكرة المجتمع

ان هذه المقدمة الدراماتيكية التي جئت بها هي تمهيد لما انوي الدخول اليه في موضوع عسكرة المجتمع بل هي تعريف لقيمة الصناعة ودورها الأول في الحفاظ على قوة الشعب ووحدة اراضيه فأن أكثر دول العالم تسعى الى أن تكون منتجة من خلال مؤسساتها الصناعية القائمة في البلاد لكي تتنوع لديها مصادر الدخل التي تصب جميعها في واردات الدولة وخزائنها من اجل ان يصيبها الاكتفاء والانتعاش.

فليس من المعقول ان تُستنزف طاقات الشباب الهائلة في بلدنا من خلال تسويقهم بين فترة وأخرى الى وحدات الجيش والشرطة تلك  الوزارتان الاكثر استهلاكاً لأموال الدولة وغيرها من قوات امنية التي اصبحت اليوم فائضة عن الحاجة امام الحجم المتضائل للمخاطر التي تهدد أمن البلاد فهناك تشكيلات الحشد الشعبي قادرة لوحدها على ما يبدو بسلاحها المتطور القيام بمهام قتالية معقدة امام أي خطر ارهابي قادم من هنا وهناك ، أذن  ماهو السبب الذي يجعل الدولة تفتح باب التطوع لدورات الضباط والمنتسبين بين فترة واخرى على الرغم من وجود اعداد هائلة من قوات عسكرية وغير عسكرية من الممكن ان تسد الفراغ الأمني الذي يدعيه البعض لو وزعت بشكل تعبوي مدروس قائم على اساس علمي ، أن وضع بلدنا اليوم آمن باستثناء بعضاً من الهجمات المحدودة في بعض المناطق المشخصة تقوم بها عصابات متحركة لاتهدد امن الدولة الى درجة الخطر العظيم الذي ينشده البعض .

لاشك في أن انشغال الشباب بهذا النوع من الوظائف العسكرية سيتسبب في عسكرة المجتمع ودفن شهاداتهم الجامعية وسط مؤسسات ليست بحاجة الى شهادات عليا فلا ادري ماهي حاجة الجيش والشرطة الى شهادة الماجستير والدكتوراه أو حتى الدبلوم العالي وهناك الكثير منهم من الذي تصرف لهم مخصصات الشهادات والمخصصات الجامعية بلا فائدة ملموسة من شهاداتهم التي جائوا بها  فهذا النوع من الشهادات مطلوب في المؤسسات التعليمية او في المؤسسات الانتاجية التي تعتمد على الصناعة والزراعة والتجارة مثلاً ولا حاجة للوحدات العسكرية الى ذلك فهي مؤسسة تعمل بالأوامر الصارمة ( نفذ ولا تناقش ) وتأتي التعليمات والتبليغات من المقرات العليا لكي ينفذها الجميع بلا اعتراض بضمنهم اصحاب الشهادات العليا الذين بات حالهم حال أي منتسب ينفذ الاوامر بصمت ورضا وخوف من العقاب هو الآخر فما هو دور شهاداتهم أذن  وماذا  قدموا من خلالها لمؤسساتهم من اعمال خارقة تستحق كل هذا الاهتمام وحجم المخصصات الممنوحة لهم .

ان القيمة الحقيقية للشهادات العليا تكمن في الجانب المدني للدولة فالمدارس والجامعات بمراتبها وصنوفها بحاجة الى من يجيد فنون التعليم ومن الممكن ان نجد هذه الصفة لدى الكثير من اصحاب الشهادات الذين تبتلعهم مؤسسات الجيش والشرطة فتضيع هناك ثروتنا العلمية وسط العنف العسكري وضمور الشخصية الفردية وخضوعها الدائم للأعلى وطقوس ( اليس يم وتنكب سلاح وجنبك سلاح ) .

هناك من يقول بأن التطوع على وزارتي الدفاع والداخلية هو الوسيلة الوحيدة التي تضمن الحصول على الوظيفة فأكثر الشباب لهم الطموح في الزواج والحصول على مرتب شهري يضمن به مستقبله وينال به مراده ولم يجد أمامه طريق مفتوح غير طريق تلك الوزارتين فيرحل اليهما بشهادته المزروقة على امل ان تتلقفه احداهما وبهذا تخسر الدولة رجل من رجال العلم والمعرفة بعد ان رحل ورمى بنفسه يائساً محطم الأمل حيث اللوعة والأسى في مؤسسة الواجبات العنيفة والانضباط الدائم والطاعة المطلقة التي لا تحتاج الى هذا النوع من الشهادات الا في حالات نادرة تكاد لا تذكر.

لاشك بأن طاقات الشباب وافكارهم المعاصرة هي التي تبني الامم وترتقي بسببها الشعوب من خلال احتضانها بشكل مدروس في مؤسسات صناعية منتجة ، والحكومات الناجحة هي التي تخترع المصانع والمعامل والمزارع وتخرجها من العدم لامتصاص الطاقات السائبة من بطالتها وتسكعها لتعمل وتنتج فتلك الشهادات التي حصلوا عليها بجهدٍ غير قليل لابد من ان تستثمر في مؤسسات صناعية منتجة قائمة على أصول العلم والمعرفة ولا يمكن ان تذهب سدى في مؤسسات عسكرية من الممكن ان يعمل فيها اصحاب الشهادات الدنيا او حتى الذي يقرأ ويكتب فحسب .

تعبئة عسكرية

لابد من ان يعاد النظر في موضوع التعبئة العسكرية للشعب بعد ان  فاضت اعداده عن الحاجة فهذا النوع من التعبئة كما نراه  يصلح لأوقات  الحروب الكبرى والمخاطر الجسيمة التي تتعرض لها حدود الدولة وأركانها  فوضعنا آمن بفضل جيشنا الباسل مع ظهيره الاول قطعات الحشد الشعبي البطلة ولا بد من ان تستغل تلك الطاقات الشبابية في العمل المدني لبناء دولة متقدمة تتنوع فيها الصناعة والانتاج بدلاً من ذلك الفعل الكسول الذي ينحصر في تصدير النفط لتوزيع  الرواتب الشهرية فأعماق الأرض بركان ثائر وصفائح متحركة ومن الممكن ان تنزلق  بحور النفط  في يوم قادم من اعماق ارضنا الى أرض بلاد الشام او تهبط الى ارض الحجاز صوب الجنوب أو تبتلعها اعماق سحيقة في الارض بسبب الحركات التكوتنية المفاجئة التي تحصل هنا وهناك تحت انهيار الصخور اللاهبة ، عندها سيصيبنا الفقر وسنتوسل لقمة العيش بعد مجاعة كبرى وتذهب ارضنا وحياتنا للغير شأنا أم أبينا كما ترون ماحل بشعبنا في فلسطين … وسلامتكم .

مشاركة