عزيز السيد جاسم وكتابة القصة القصيرة -2- الرمزية لتأكيد دلالات الواقع رزاق ابراهيم حسن واذا كانت (منتزهات المدن المقفرة) تتخذ من الفضاء الواسع امكنة لها، فان قصة (عدوى الطبائع) تدور في صالة لعرض الافلام السينمائية، فقد جاء مصطفى الى هذه الصالة طلبا للهدوء والراحة، ولكنه عندما يحدق في وجوه المشاهدين لا يرى (شيئا يذكر، كل واحد كان منطويا على نفسه ببلاهة كاملة، وبحركات رتيبة تكاد ان تكون متماثلة، واحد يحك جلد عنقه، واخر يحدث خرخشة في جيب سترته، واصوات تقشير (الحب والفستق) تبث مفرقعات صغيرة، تجلد بلا رحمة اعصاب المتعبين الذين يدفع بهم فرط الاحساس الى اماكن صغيرة هادئة في الظل العريق، وتتوالد احاسيس خفية تنطوي على غضب شديد وعداء متبادل بين الذي تطحن اسنانهم (الفستق) والاخرين الذين يريدون ان ينعموا باحاسيس هادئة. لم يفت مصطفى ان يلاحظ حركات بعض رواد السينما وكانها صادرة عن اناس منومين يغطون في عدم اكتراث مطلق، لا شيء سوى افعال بسيطة تصدر لوحدها، وتتوقف لوحدها، بينما كانت الروؤس تشترك في اهتزازات كسلى، رخوة، لا معنى لها، ونظرات جانبية حاقدة يتبادلها اشخاص لا يعرف الواحد الاخر، قال لنفسه ما من اهمية لذلك على الاطلاق، قد يكون الامر بفعل التعب او بفعل الطبائع المكتوبة . ص 86). وفيما يصف القاص رواد الصالة بهذا الوصف فانه يجد في الجهة الثانية من الصالة رجلا يرتدي سترة جلدية، وكان ينتقل من كرسي لاخر، وكان سلوكه يؤدي الى اصطفاف الكراسي بتواتر حاد، وفجأة وجد مصطفى ان هذا الرجل يتعقبه، وسحابة ضجيج الكراسي تلفهما كدوامة واحدة، و (عندما انهزم مصطفى من دار السينما، ولم يكن قد مضى على الفيلم الا ثلث ساعة كان ذو السترة الجلدية واقفا عند الباب يتصيده بنظرة جرذية اكولة، متكورة.. ملموما.. مشبعا بالبغض، متدورا لقفزة افتراسية واحدة.. ومنذ ذلك الحين.. لم يمتنع مصطفى عن ارتياد دار السينما فقط.. بل اخذ يتحاشى المرور في الشارع الذي تجثم فيه . ص 91). ومع حرص القاص على اخفاء المغزى من هذه القصة، فانه يبدو سياسيا، فعندما يسيطر على الناس عدم اكتراث مطلق، ولا تصدر منهم سوى اهتزازات كسلى رخوة، لا معنى لها، ويتبادلون نظرات حاقدة فان الكراسي تكون لعبة بيد اناس لا يعيرون مصالح وحقوق وارواح الاخرين اهتماما، والكراسي في هذه القصة رمز للسلطة، وصاحب السترة الجلدية هو المسيطر على السلطة، والمتلاعب بها. وقد قدمت القصة من خلال الراوي السارد في اغلب اجزائها مع اتاحة فرص قليلة لمصطفى، لان القاص اراد ان يجعل للشخصيات الممثلة للسلطة والرامزة لها هيمنة على السياق، وان يعزز فيها قوة الفعل والتاثير، وان يجعلها تداعيات وحوار داخلي وردود افعال داخلية، وان يجعل للكرسي مكانة اساسية في السياق. وقد جاءت هذه القصة متماسكة، مشدودة بقوة، غنية بالرموز والايحاءات، خصوصا وانها لم تعتمد الكثير من الشخصيات كما هو حاصل في قصص اخرى، وانها اعتمدت شخصيتين هما مصطفى وذو السترة الجلدية، ولعل مصطفى هو كاسمه واصطفي للتعرف على واقع العلاقة بين السلطة والشعب، وصالة السينما هي المرآة التي تعكس هذه العلاقة. ولعل عنوان القصة (عدوى الطبائع) لم يتم اختياره لتحقيق التطابق بين العنوان والمتن، وانما من اجل التمويه على المضمون السياسي للقصة، وعدم لفت الانظار الى هذا المضمون في ظروف كتابة القصة نفسها.ان قصة (عدوى الطبائع) من القصص العراقية التي تحقق قوة العلاقة بين الرموز والمضمون، وتعبر عن طابعها الرمزي بشكل موفق يبعدها عن الاضطراب والتذبذب، والقصة بدون التفسير السياسي تكون غامضة، معقدة، لا تبوح بمعنى او قصد معين، ولذلك امكن التعرف على رموزها من خلال هذا التفسير. وتتركز قصة (الكتابة على جدران الهواء) على شخصية واحدة، هي شخصية معلم كان (الابعاد السياسي هو السفينة التي قادته الى هذه المدرسة النائية،النابتة في الصحراء كشتلة جهنمية، وهو المعلم الوحيد في هذه المدرسة، وبالطبع لم تكن غرفة الادارة سوى هذه الصريفة التي يرقد فيها ليلا، الدم يصعد في عروقه ويمسك بتلابيب عنقه وهو يستمر بنظراته المحمومة، هاربا الى الامل، ولو لا انه يتدارك نفسه، بحسرة عميقة، لكان الفرح بعيدا عنه، جرب ان يقرأ، فادار راسه الى حيث ترقبه بصمت، كان هناك (هكذا تكلم زرادشت) لنيتشه. و (بطل عرق) . وتفاحة مكسوة بجلد متعفن ص 94). ارادة القوة ويرمز (هكذا تكلم زرادشت) الى ارادة القوة، والتفاحة المكسوة بالجلد المتعفن الى الشيخوخة ونضوب الطاقة الجنسية او الرغبة في الحياة، فيما ترمز قنينة الخمر (بطل العرق) الى التخدير، وعدم التوازن في التعامل مع الاشياء.ورغم لجوء المعلم الى شرب الخمر، الا ان ارادة القوة والرغبة الجنسية تتسللان اليه وهو يواصل الشراب، ويمتزجان مع ارتفاع حدة، صوت المطر المتساقط على الصريفة، وعلى الاماكن المحيطة بها. فهو كما هو حال نيتشه يرفض الانصياع للمراة، وهو مثل نتيشه يظهر نفسه بمظهر المتحدي للسلطة والساخر من رموزها، كالشرطة والاقطاعي (اجخيري)، كما انه يظهر بمظهر الساخر من الموت، وغير المؤمن بالدين. وهو من ناحية اخرى يواصل انحداره النفسي مع استمرار وتصاعد اصوات سقوط المطر، اذ يفترضه صوت ذئب او صوت عاصفة، والذئب يرمز ايضا الى نيتشه وفكره الاقتحامي، وغدره بمن آمن به من معاصريه، ولكي يتعرف المعلم على مصدر الصوت فأنه يخرج ليجد (السماء داكنة الظلمة.. والارض غرقى بالماء.. والريح مدوية.. الكون طائش.. باكمله.. اتكأ على جدار الصريفة متراخيا.. واستقر في جلسته مفعما بالحياد بين الرفض والقبول.. والماء يغطي جسده وملابسه الى حد الصدر، ورأى في البعيد سيارات طامسة في الطرقات الطينية.. واضويتها تناديه من بعيد، وراى نجوما ملتمعة، وعيون ذئاب شرسة من الجوع تومض باشتعال، اختلطت الاضوية والالتماعات في عينيه، فاصبحت جميعها نجوما، او عيون ذئاب فالكل سيان. وفي الصباح نقلته الوجبة الاولى من التلاميذ الى غرفة الادارة وكان ميتاً . ص105). والمطر عادة يكون رمزا للخير، ولكنه في هذه القصة رمز للشر والموت، وعندما يكون المعلم وهو رمز العلم بهذه الحالة، وتكون المدرسة بهذا الفقر، ويكون الابعاد السياسي تعبيرا عن احتقار الدولة للقرية واهلها فان من الطبيعي ان يكون المطر وبالا، ويكون السبب في دفع المعلم الى الموت غرقا في المياه. وقد تراوح سياق القصة بين الحوار الداخلي والسرد الى الحد الذي يكون فيه السرد حوارا وتداعيات، ليسيطر التوتر الداخلي للشخصية على سياق القصة، ولتكون المظاهر والمشاهد الخارجية مطروحة من خلال هذا التوتر، بل ان قصة (الكتابة على جدران الهواء) تتوافر على حالات شديدة وموحشة ورهيبة من التوتر فالمعلم يستدعي احباطاته والضغوط المفروضة عليه، ومعاناته من السلطة، ووحدته القاتلة، وانهيار ارادة القوة لديه وهو محاط بالطوفان، ومهدد به، وهو في لحظة يلتقي فيها البؤس الانساني. بأشد حالاته مرارة وقسوة مع غضب الطبيعة، ان عزيز السيد جاسم وهو يتناول شخصية المعلم السياسي المناضل الذي يدير برغم انه مبعد سياسيا، ومكروه من قبل شيخ واقطاعي القرية مدرسة لوحده، وفيها يمارس تدريس التلاميذ مختلف الدروس، انما يريد بذلك ان يقدم اوسع ادانة للنظام القائم الذي هو المسؤول عن هذه المدرسة، وحالة هذا المعلم، وهو المسؤول عن غرق القرية بمياه الامطار، وتعرض المدرسة ومعلميها ومديرها الى الغرق ايضا. ومع ان القصة تظهر المعلم وحيدا، منفردا، معزولا، مشغولا بحياته وذاته، ووقائع الحزن والفرح في علاقاته، الا ان هذه الوقائع تأتي وتتدافع في داخله مع سقوط المطر، ليكون الخارج اشد ضغطا وعنفا من الداخل كما هو حاله في الماضي، وليطبق على المعلم بإغراقه في المياه. وقد جاءت قصة (الكتابة على جدران الهواء) رثائية حزينة، وشديدة الحزن للمعلم والعلم والمدرسة، يرثي المعلم بها نفسه، وهل يوجد غير الحزن لمن يستدعي الحزن في لحظة اقترابه من الموت..؟! كما ان القاص كان في صميم ولوعة هذا الحزن، اذ تناول المعلم بشكل يقطر حزنا وتوترا وصراعا وبؤسا واحباطا، وبشكل ياتي فيه كل شيء من الداخل، ويبكي ويكبر حزنا فيه، ويلتصق به، دافعا المعلم نفسه الى الخوض فيه، وعدم الخلاص منه. وفي قصة (محضر ناقص عن مقتل عصفور) يتناول القاص البراءة في مواجهة السلطة وادواتها وارهابها من خلال قسمين، الاول يخص عصفورا والثاني يخص شخصا متهما بالعداء للسلطة. والعصفور هو المعادل لهذا الشخص، (فعندما يقتل البريء تقتل معه العصافير والورود والاشياء الجميلة.. فإذا ما سقط الكوكب، تسقط توابعه المنيرة. ص235) وهناك متشابهات عدة بين العصفور وبين ماجد وهو اسم هذا الشخص فماجد يرمى في زنزانة غير (معروفة الحدود، لفرط الظلمة وانطفاء النظر، وفي زاوية منها كان جسد ماجد يطفو في مسافات لا حدود لها. ص231) ، وبالنسبة للعصفور (كان الصياد يملأ القفص بالانارة المتوهجة حيناـ وينشر عليه الظلام الدامس حينا آخر.. وبين الوهج والعتمة تعرضت عينا العصفور الى تمرين رهيب خبأ التماعها بسببه. ص226). وماجد عندما رموه في الزنزانة (اخذت حواسه تفقد وظيفتها، بل لعلها بدت وكأنها في طور التكوين، او في طور الذوبان الاخير منذ ايام وهم يعذبونه بفظاظة الى ان كسروا كاحله. ص 231). (وظل العصفور المدوخ مرميا على شبكة الحديد الامامية، معميا، مشوشا ومن ضربة واحدة من مخلب قط متربصة في الخارج.. تنتظر الفرصة.. تفجر الدم منه والريش، وخيم الظلام من جديد. ص230). ويقول ماجد: (ماذا يريدون شيئا.. وانا الذي لا املك شيئا، لا اعرف شيئا، ولم اعد قادرا على لم نفسي.. وحتى وطني وشعبي لم اقدم لهما الا النزر اليسير؟) وعندما ضبطوا بقيا العصفور (وجدوا عبارة صغيرة في القفص: لماذا اغرى القطة بقتلي.. كلما تراني تتحرك صوبي مقتربة ومبتعدة ومتوحدة تريد هلاكي؟ لماذا الأني ضعيف؟ ربما.. ولكن هناك مخلوقات اضعف مني.. اذن، لماذا؟ لأني اغرد؟! ص245). والعصفور بالنسبة لماجد هو الامل ايضا، والسلطة في قمعها لماجد، واعتقاله وتعذيبه وتعريضه للموت لا تقتل البراءة وحسب، وانما تقتل الامل، وتقتل الجمال، لأن ماجد كان جميلا، وكان اصدقاؤه يغارون من تعلق الفتيات به. ويبدو ان القاص اراد من البراءة في العصفور وماجد ان يتناول قضية القمع ودورها في الحيلولة من دون القدرة على حرية التعبير، فالعصفور وماجد ليسا القصة بأكملها، وانما جزء منها، وعندما (وصل كاتب القصة الى هذا الحد من قصته التي وضع عنوانها سلفا (محضر ناقص عن مقتل عصفور) شعر بالدوار، وتندت جبهته بالعرق. وارتجفت اصابعه، واصبحت لا تقوى على مسك القلم.. اطبق على قلبه حزن غامض. فر من القلم واسلم جسده لطوفان الذاكرة، فلسنوات عدة وهو يحاول اتمام قصته هذه، وتدور فكرتها بشأن البراءة القتيلة، حيث يموت ماجد بسبب التعذيب، ومعه يقتل عصفور في مكان آخر، كما تقتل الوردة. ص235). والقاص لا يستطيع اكمال القصة بسبب الخوف من القتل، والخوف من قمع السلطة، وهذا ما يؤكده احد اصدقائه، فعندما سأل هذا الصديق (وهو كاتب قصة، ومثقف بوهيمي، عن هذه الحالة التي تصيبه وتجعله عاجزا عن اتمام القصة، فأجابه ذلك: من حسن الحظ، فلو اتممتها لكنت انا قد كتبت عنك قصة بعنوان: محضر ناقص عن مقتل كاتب، الا تعلم ان هذه الكتابة مدمرة ممنوعة؟ ص138). وعلى اساس ذلك فأن سلطة القمع والاستبداد اذ تتعامل مع البراءة على انها حالة معادية، فأنها تتعامل مع حرية التعبير بما هو اقسى وابشع من القمع والاستبداد. ان قصة (محضر ناقص عن مقتل العصفور) لم تقف عند حدود تأثير القمع على الانسان فقط، وانما على انه تدمير لكل القيم الانسانية، وممارسة ضد الحرية بكل اشكالها، وانه يقود الى الجنون والانسحاق، وانتزاع الانسان من وضعه الطبيعي والسوي. وقد استطاعت هذه القصة ان تكشف عن مقاصدها من خلال رموز وتعابير غاية في الشفافية، كما استطاعت ان تمرر هذه المقاصد بلغة موحية، بعيدة عن الشعارية والتقريرية، ولم تكشف القصة عن مقاصدها دفعة واحدة، وانما تدرجت في التعبير عنها من الغموض الى الوضوح، فقد كانت غير واضحة في القسم الذي يتناول العصفور، ثم اصبحت اكثر وضوحا في تناول شخصية ماجد، واكثر وضوحا وجرأة عند تناول شخصية كاتب القصة، نفسها. وقد سيطرت النزعة التحليلية على هذه القصة، ولكن هذه النزعة لم تطرح نفسها بشكل مباشر، وانما من خلال الرموز والتعابير الايمائية، ومن خلال السرد المشحون بالتوترات الداخلية للشخصيات، ومرارة وقسوة التجارب التي تعانيها. برجوازي هذه الايام عرف عزيز السيد جاسم بكتاباته الفكرية والسياسية التي يقف فيها متعاطفا مع العمال والفقراء والفلاحين، ويقف فيها ضد اصحاب رؤوس الاموال واصحاب السلطة والنفوذ الاداري والسياسي، ولم يكن في القصة القصيرة بعيدا عن هذا الموقف، بل انه جعل منها وسيلة لفضح وتعرية هذا النمط من الناس، ولم يسلم منه حتى الذين كانوا من الفقراء والعمال، وتسلقوا المواقع العليا لاسباب مختلفة، واصبحوا من الميديرين والبرجوازيين. وهذا ما نلاحظه في قصة (الحدود المقدسة للعلاقة) فمع ان الشخصيات فيها ذات بداية واحدة، ثم توزعت بها السبل الى شخص لا يملك شيئا وآخرين من اصحاب المال والنفوذ، الا ان القاص يتعاطف مع الاول، ويتهم الصديقين الآخرين بسوء النيات والتصرفات والاخلاق، ويجعل حركاتهما واحاديثهما موضع شبهة وعدم ثقة. وفي قصة (الحدود المقدسة للعلاقة) تنتقل رواية القصة من شخصيتها الى المؤلف نفسه، وهو السارد ايضا من دون منع الشخصيات من المشاركة في السرد، والمشاركة في التعبير عن العلاقة بينها، وما يجمع بينها من اهتمامات. وتدور هذه القصة حول ثلاثة اصدقاء يلتقون بعد ان افترقوا مدة طويلة وهم جودي وبهزاد وميخائيل، اذ يظهر من القصة انهم كانوا زملاء في الدراسة الجامعية وكانوا متقاربين في العمر، وكانوا يمارسون العمل السياسي، ويظهر منها انهم خلال مدة الافتراق تركوا العمل السياسي، فأتجه جودي وبهزاد الى الصناعة والتجارة، وظل ميخائيل عاطلا عن العمل، حيث تكرس اللقاء لاستعادة الذكريات، ومحاولة كل واحد التعرف على ما وصل اليه الاخر، وما حققه على صعيد العمل والظروف الاجتماعية. واللقاء بين هؤلاء الاصدقاء يتم في احدى الحانات، اذ يندفع جودي وبهزاد في الحديث عن المثل العليا والاخلاق السامية والمواعظ الشخصية، ويندفع ميخائيل في عفويته وبراءته متعاطفا معهما، ومصدقا ما يدعيان، ولاسيما جودي الذي يتحدث عن حبه المثالي لزوجته المحترقة، وشقائه بعد احتراقها، وما يعاني من عذاب بسبب ذلك. ولكن ميخائيل لا يحصل على اية معونة من هذين الصديقين، ويكتشف بنفسه استقبال جودي للبغايا في بيته الذي ادعى احتراقه مع الزوجة، وجودي صاحب معمل وبهزاد يمتهن تجارة الاقشمة. وعزيز السيد جاسم في هذه القصة يريد ان يكشف كذب وزيف البرجوازية، وما تتصف به من نفاق وسوء نيات، وان الاخلاق بالنسبة لها ادعاء وسلعة، ويؤكد في الوقت نفسه طيبة وسمو اخلاق ميخائيل العاطل عن العمل المتطابق مع مبادئه وتاريخه السياسي، والفقير من كل المستلزمات المادية. وعزيز في كل ذلك لا ينطلق من مواقف اخلاقية وسياسية تجاه البرجوازية فقط، وانما يريد ايضا ان يتناول مخاطر التملك على اخلاق ومواقف الفرد، وما يحدثه من اثر سلبي ومن تدهور في السلوك، ومن تراجع، فجودي وبهزاد كانا على مستوى عال من الالتزام والاخلاق، ولكن التملك جعلهما حالة مناقضة لذلك. وقد عمد القاص الى انتقاء المفردات والتعابير والعلاقات بينهما للتعبير عن قوة تأثير التملك على شخصيتي جودي وبهزاد، وتأثير عدم التملك على شخصية ميخائيل بحيث يكون الفرق واسعا بين المتملك وغير المتملك على المشاعر والسلوك والاخلاق، وبحيث يمتد هذا الفرق الى الداخل، فيبدو (ميخائيل) طيبا، مهموما بالآخرين، متحسسا عذاباتهم ومشاكلهم، ويندفع (جودي وبهزاد) في النيل من الآخرين، وفي الكذب والنفاق والادعاءات الفارغة. ولكي يعزز القاص من قوة تأثير التملك في هذه الشخصيات، فأنه يدمج السرد بالحوار الداخلي الى الحد الذي يسيطر فيه الحوار على السرد، وتأتي فيه المشاعر والأفكار الدالة على التملك، وكأنها نابعة من الشخصيات، راسخة فيها. وليست هذه القصة هي الوحيدة التي يسخر فيها القاص عزيز السيد جاسم من اصحاب الاملاك والمواقع الكبيرة، وانما هناك قصص اخرى اشد سخرية، واكثر ايلاما، ومنها قصة بعنوان (ثلاث ليال في مخدع الزوجية من حياة بيروقراطي مبتدئ) والشخصية الاساسية في القصة تحمل اسم (جيري) وهو كما هو حال الشخصيات (جودي وبهزاد) لم يكن سليل عائلة برجوازية او بيروقراطية، وانما كان من الفقراء وكان عاملا.