عرش الروايـة

عرش الروايـة

عبد الباقـي يوسـف

abdalbakiuosf@gmail.com

 تحولت الرواية عبر مراحل تطورها وتكاملها إلى سجل حافل وغني لسيكولوجية الإنسان، ولتأريخ الحدث البشري.

استطاعت الرواية أن تلج الأبواب المحكمة، وتفتحها بقوة، ذلك أنها تمكنت بجدارة من امتلاك المفاتيح الذهبية التي تفتح من خلالها أبواب سيكولوجية الإنسان، وتقدمه إلى نفسه على حقيقته، تقدمه بكل نجاحاته، وبكل إخفاقاته، بكل بطولاته، وبكل هزائمه.

وظيفة الرواية

الأحداث العظيمة هي التي تفرز روايات عظيمة، وليس بالضرورة أن تكون هذه الأحداث عامة على مستوى الدول، بل قد تكون الأحداث العظيمة فردية وشخصية حتى تولّد عملا أدبيا عظيماً، فمعظم الأعمال الروائية الجيدة كانت نتيجة معاناة شخصية.

وهذا يذكرنا بالحياة القاسية التي تعرض لها دستويفسكي – أحد أعمدة السرد الروائي في العالم –  والذي من خلالها عزز حب الحياة والأمل في نفوس قرائه من مختلف أنحاء العالم .

بعد قراءة رسائل دستويفسكي التي كتبها لأخيه، والتي حرص أن تكون سرية ولم يطلع عليها احد لأنه كان يفرغ فيها معاناته الشخصية التي كالت تفجر لديه تلك العبارات الملتهبة التي سحرت الملايين من قرائه من مختلف أنحاء العالم وبغالبية لغاته الحية نتوقف أمام حقيقة اقتران الإبداعات العظيمة بالمعاناة العظيمة،  فيمكن ملاحظة أن معظم مراحل العباقرة والنوابغ كانت معاناة في معاناة، والمعاناة تقترن بالابداع في كافة ألوانه وأشكاله . لقد كان أبو لينير – صاحب ذاك المسرح المذهل –   يعاني طيلة حياته من شعوره بأنه ابن غير شرعي، وكان كافكا – مبدع رواية المسخ –   لايستطيع أن يتخلص من شعوره الأعمق بأنه حشرة كبيرة غير مرغوب فيها ، ولم يتلق رامبو –  مبدع تلك القصائد الرائعة –   قبلة حب حقيقية من شخص ، وعانى بودلير  الأهوال من زواج أمه، وأمضى المركيز دي ساد خمسا وعشرين سنة في السجن،  وانتهى سويفت إلى الوهن العقلي أواخر حياته ، وانتهى نيتشه بالجنون، و يقول سترندبرغ : إنني أجد بهجة الحياة في صراعاتها الأكثر حدة . إن هؤلاء الذين يسميهم / ستيفان زفايج بـ / بناة العالم /  يبلغون مراحل متقدمة من الألم حتى يقدموا كل تلك الاشراقات للقراء

ويمكننا معرفة جانب من آلام مخاض الكتابة من خلال ما يتحدث به ماريو بارغاس يوسا إلى روائي شاب يريد أن يشق طريقه نحو الرواية .

في إحدى رسائل دستويفسكي يقول : لا أملك كوبيكا واحدا لكتابة رسالة . لقد بلغ الفقر بالسيد دستويفسكي إلى أقصى مراحله يقول :  لدي مشروع أن القد عقلي.

بقوة عظمى يستخدم الكتابة للتعبير عن نفسه إذ لا يملك غيرها، إنه  يرمز إلى الإنسان الفقير، بل هو لسان حالهم ورسولهم، يروي تاريخهم ربما دون قصد عندما يروي تاريخه.  لا شك أن الكثيرين يعانون الحرمان مثل دستويفسكي نفسه،  وهو من هذا المنطلق يتضامن معهم ويطرح مآسيهم، ومن هنا فإنه يكتب الجملة الصادقة إلى أخيه في إحدى هذه الرسائل التي  يقول فيها : وما تبقى لي سوى هذا القلب والدم اللحم، هذا الذي يعاني ويشفق ويتذكر ويبدع الحياة رغم كل شيء. لم أشعر بها مطلقا بهذه الخواص الملأى بالقسوة والغنى الفكري من قبل كما أشعر بها الآن.

إن دستويفسكي يكون أقوى في وضعه، يكتب بقوة هائلة يقول  :  نعم إنهم منعوني من الكتابة، إنني أفضّل أن أ ُسجن خمسة عشر عاما شرط أن أحتفظ بقلمي في يدي.. إنني لم أفقد الأمل. ويختتم خوفه : أنا مسكون بالخوف من أن يُصاب حبي الأول للعمل بالفتور  قبل انطلاقه على الورق.

متعة قراءة  الروايـة

إن أي كاتب في العالم لايستطيع أن ينجح في مهمته قبل أن يتوحد في حالة إنسانية عامة مع الآخرين في كافة أنحاء العالم، فالكاتب يقدم نزعات إنسانية عامة، ويسعى إلى تبرئة الإنسان والصلح العام بينه وبين الطبيعة ببساطة شديدة، انه يدعو لان يكتشف الإنسان الطبيعة التي ولد فيها، ويتعرف فيها على ما لايعرف، وان يسافر إلى أخيه الإنسان المحتاج في أبعد بقعة محملاً بالهدايا.

الرواية المميزة هي تلك التي تبني علاقة شخصية وسحرية شديدة الخصوصية مع قارئها ، يتعرف من خلالها على العالم من حوله، وعلى نماذج لم يكن يخبرها من الناس، وبعد أن يفرغ القارئ من هذه الرواية المميزة، ينتابه إحساس بأنه عرف شيئاً جديداً لم يكن يعرفه من قبل. الدخول إلـى عالم الرواية الرحب، هو خروج من عالم الواقع الضيق، عالم الرواية يفتح أمام المخيلة مجالات ورؤى أوسع أفقا.

 في عالم الواقع أنت محكوم بل بالأصح أنت مقيد ومكبل بتابوهات الواقع التي تكاد ترسم لك كل خطوة تخطوها، وكل كلمة تفه بها، وكل نظرة تنظرها، بيد أنك في عالم الرواية تحلق في فضاءات الإنسان الرحيبة، ترى الإنسان كما هو بفطرته ومدركاته، تراه بخيره وشره، تراه بقمة نجاحه تراه بذروة فشله . فالروائي المتمكن من عمله  عليه أن يكون فيلسوفا، وشاعرا، وفقيها، وحكيما، وقاضيا يكون واقعيا إلى أقصى حد، ويكون خياليا إلى أبعد  مدى ذلك أنه يكتب كتاب الحياة، فالقارئ لايطلب من الروائي كما يطلب من الشاعر، أو الفقيه، أو عالم الفلك، أو الفيلسوف، إنه يطلب من الروائي عالما كاملا بكل تلك المعارف، وكل رواية جديدة عليها أن تحمل عالما جديدا  حتى بفراشاته وهبوب رياحه،  وإلا فإنه يخفق  في مهمته، ويخفق في أن يكون له قراء . يقول د. هـ. لورانس عن مهمته الروائية :  (بما أنني روائي، فإنني أعد نفسي أسمى درجة من القديس والعالم والفيلسوف والشاعر، فالرواية هي كتاب الحياة المشع).

ويقول الناقد لايونل تريلنيج : (إن الرواية بحث مستمر وميدان بحثها هو العالم الاجتماعي، ومادة تحليلها هي عادات الناس التي تتخذ دليلا على الاتجاه الذي تسير فيه نفس الإنسان).

عندما يمد الروائي الخطوة الأولى نحو نسيج عالم روائي جديد فإنه بذات اللحظة يكون قد سحب الخطوة الأخيرة من عالم الواقع،  ينسى تماما بأنه سيخرج غدا ليجالس الناس وسيحدثونه عما قدم في عمله، ولذلك ترى بأن الإدانات المختلفة  تثار على الروائي بعد أن يفرغ من عمله ويجالس الواقع.

 هنا يمكن القول أن عالم الرواية يحقق مساحة أرحب للشجاعة وانطلاق الفكر  من عالم الواقع الذي يعيشه، ودوما فإن الروائي يقول عبر روايته ما لايجسر على قوله في المواجهة الميتافيزيائية.

 وهنا تكمن متعة قراءة الرواية، وكذلك تكمن خصوصيتها وأهميتها، وأظن أن التعبير الأكثر دقة هنا هو أنه رغم كل هذا الخروج عن عالم الواقع إنما هو بذات اللحظة التصاق شديد الالتصاق بدقة تفاصيل الواقع  الذي يغدو مسبحة في كف الروائي.

يعتمد فرانز كافكا في معظم أعماله الروائية على حلم اليقظة، يستيقظ لديه / غريغوار سمسا / من الحلم فيرى نفسه وقد أمسى حشرة ضخمة، وهنا يمكن مقارنة الحلم بالواقع من خلال ساعي البريد الفرنسي الذي كان يجلب للسورياليين رسائلهم لمدة ثلاثين سنة وقد بنى قلعة صغيرة بحجارة كان يحملها من الطريق خلال يومياته في توزيع الرسائل  وقد أجاب على سؤاله عن سبب ذلك قائلا : عندما يكون على الإنسان أن يمضي ثلاثين سنة في الطريق نفسها، فلن يكون لديه سبيل إلى إنقاذ نفسه من الرتابة إلا بإبداع شيء حلم به.

  / ألف ليلة وليلة / العمل السردي الأكثر قدما الذي تم اكتشافه، وهو الأب الشرعي للرواية – فيما بعد – على كافة مستويات تطورها وتقنياتها وأشكالها في العالم برمته عبر تطور التاريخ الأدبي.

هذه السلسلة الروائية الأكثر خيالية والأكثر واقعية في ذات اللحظة،  ماتزال تتمتع بجماهيرية واسعة في مختلف بقاع العالم وبغالبية لغاته الحية، وماذلك إلا لأنها تقدم الإنسان لنفسه، وتقدم له صورا خفية عن الواقع الذي يعيشه رغم كل ماتتسم به من خيالية بالغة.

 لقد  استطاع  / غابرييل غارسيا ماركيز / أن ينتهح من ذاك الخيال الثر واقعيته السحرية التي اكتملت بـ / مئة عام من العزلة / التي قدمت له  /  نوبل / بجدارة  ويمكن ملاحظة مثل هذه الشذرات في / مغامرات هكلبري فين / وكذلك لدى أكثر روائيي مطلع القرن الثامن عشر واقعية،  إلى علاء  الدين والمصباح السحري، وحكايا السندباد،  والواقدي،  ثم إلى / الحكواتي / الذي يعتمد بالدرجة الأولى في / حكاياه / على السرد الروائي وتسلسلية / ألف ليلة وليلة / من ليلة إلى ليلة، إلى المقامة والسير والرسائل،  بل حتى كبار الرسامين تأثروا بتشكيلية العالم  الروائي في / ألف ليلة وليلة / حتى وهم في ذروة واقعيتهم التشكيلية كواقعية رامبرانت في لوحاته الزيتية ،  وفيما بعد غدت الرواية المصدر لعمل السينما والتلفاز  كل هذه المقومات تستقطب القراء على مدى العصور لقراءة الرواية التي هي أكثر الأجناس الأدبية قراءة ذلك أنها تحتمل أن تقدم بين صفحاتها معظم الأجناس الأدبية دون أن يؤذي ذلك فنيتها وخصوصيتها كجنس أدبي مستقل.

ولاننسى أن الرواية  حققت للأدب العربي جائزة نوبل للآداب على يد شيخ الرواية العربية نجيب محفوظ.

 لكن انطلقت الرواية بجنسها المستقل في العالم  العربي على أيدي روادها وهم حسب تواريخ إصدار رواياتهم : محمد المويلحي في رواية / حديث بن هشام / 1903 – أحمد فتحي في / جناية أوربا على نفسها والعالم / 1906 – محمود طاهر حقي في / عذراء دنشواي / 1906 – رفيق رزق سلوم في / أمراض العصر الجديد / 1909 – جبران خليل جبران في / الأجنحة المتكسرة 1912 – محمد حسين هيكل في / زينب / 1914 .