عجلة .. وطائرة بلون التركواز  – كاظم المقدادي

رواية الذاكرة   (5)

عجلة .. وطائرة بلون التركواز  – كاظم المقدادي

الذكريات .. واقع هارب ،  لا نستطيع استحضاره .. الا بالعودة  الى زمان ومكان الطفولة .

 ولا شيء .. يسعد  طفولتنا الغضة ويبهرها ، غير  طائرة ورقية .. بلون زاه وجميل ، تتحرك برشاقة في رحاب الفضاء ، تربطنا بخيط سري ، يكون عادة مغمسا  بطحين زجاج لاصق .. ينتهي عند راحة اليد ، والعيون مسمرة بفرح نحو السماء .

كانت لعبة الطائرات الورقية .. لسهولة تصنيعها  ورخص  ثمنها .. لعبة رائجة ومحببة عند الاطفال ، فالتحليق في الاجواء .. يعني مشاركة الاطفال في رياضة التسلية ، وتقوية العمود الفقري ومفاصل الرقبة ، وتحفيز البصر في القدرة على التحديق ، تؤججه سباقات نحو التحليق ، و عرض خجول  لمهارات تنقش على ورقة صماء .. وهي في النهاية مشاركة ممتعة  مع  الطيور والعصافير ، بفضائها الرحب و طيرانها الوضاء .

كان اطفال المحلة .. يختارون الالوان الصارخة ، الاحمر والاخضر والاصفر .. وكنت انا  مأخوذا بلون واحد .. هو التركواز .

كانت متعتي الوحيدة .. في تحريك كل ماهو حولي ، وعدم الرضوخ  لحالات السكون .. لهذا انتقلت من لعبة الطيران ، الى لعبة العجلة .. دون التوقف كثيرا  عند العاب تفتقر الى الحركة وشحن الذاكرة  مثل ( لعبة الدعبل .. ولعبة چعاب الطنب المثقلة بصهر الرصاص ، والصگلة ، وبلبل حاح ) وغيرها .

 لقد استهوتني ( العجلة ) بشكل عجيب ، وساعدتني على امتصاص الحركة الزائدة .. التي تميزت بها عن اشقائي الخمسة ، وظلت العجلة ، رفيقة عمري ، تتحرك في داخلي ، بتراتبية  عجيبة .. كأنها ارادة  حياة ، وقيم  وذاكرة متقدة .

كانت مدهشة .. الى الحد من استحضار  الاماكن المتخيلة والبعيدة ، وكشف عوالم غرائبية ، فكانت اكثر من هواية ،  تتكاثف .. وكأنها فصلا من  فصول رواية .

دراجة قديمة

يستحضرني المكان بفطنة ويقظة .. كان هذا قبل  بلوغي سن الرابعة ، حينما عثرت على ( چرخ ) لدراجة هوائية قديمة ، في مكان ما قريبا من بيت الولادة  في الرحمانية .. لا اتذكر كيف و اين وجدته ، رغم ان ركوب ( البايسكل ) في  تلك الايام الغابرة ، لم يكن رائجا ، لغلاء ثمنه ، ولخوف الاباء من مخاطره .

كنت اخفي هذا ( الچرخ ) اللعين عن عيون امي .. كانت تراقبني باستمرار  ، خوفا من ضياعي وذهابي الى جهات مجهولة .. وكنت بحذر  وخفة أخفي ( چرخي ) واخرجه من  والى الباحة الكبيرة .. لبيتنا  دون ان يشعر بي احد .

كان  تحريك ( الچرخ ) ، ودفعه  بآلة  معدنية  ملساء ، كثيرا ما يصدر عنه  صوت نشاز .. الامر الذي دفعني لحمله  بيدي ..كلما دنوت من البيت ، خوفا من انتباهة وغضب  امي .

في طفولتي .. كنت واعيا لاهمية  العجلة في حياتنا اليومية.. لكني كنت اجهل تاريخها  واهميتها في الحضارات القديمة ، وعلمت في مرحلة متاخرة من قراءاتي .. كيف ان السومريين ، صنعوا العجلة من الفخار  في القرن 3500  قبل الميلاد .. وكانت تحمل معها  رمزية خاصة ..  للاتصال والتواصل والحركة والانتقال .. الى ان اصبحت  ثقافة وحياة ، وحالة من الدوران المستمر الذي يشغل الجميع  عن حكايات الموت وشبح الجنازات .

بعد العجلة الفخارية .. صنع  السومريون  العجلة الخشبية ، لاستخدامها في الزراعة  وجمع المحاصيل .. وتطورت حالات الاستخدام  في زمن البابليين والاشوريين .. واصبحت عربة للقتال والمداهمة ، تجرها   الخيول المجربة ، وسط هول المعارك  الطاحنة .

  لم تكن العجلة سوى  امتدادا سريعا لحركة القدمين ، كما هو الناظور  امتداد للعيون ، ومكبرات الصوت ، هي الاخرى  امتداد حي لاصوات واهتزازات تزسلها الحنجرة .

طلاسم السكون

ومع الايام ..كنت اتساءل في سري :

عن سبب حبي وشغفي وتعلقي بالعجلة .. ولماذا انا  كثير الحركة ، وكثير الاحتجاج .. رافضا لطقوس وطلاسم السكون  .. حتى اني كنت ابحث عن اي شيء  تتجلى فيه حالات  الانتقال والحركة .. كالعربة الخشبية الصغيرة التي تسير  من خلال ( بوربنات ) مثبتة باسفلها .. ولم تكن  هذه العربة ذاتية الحركة ..   ولابد من  الاستعانة بصديق يدفعها  الى الامام ، او البحث عن مكان مرتفع ، للهبوط  منه عليائه بسلام  .. وكثيرا ما  تنقلب العربة ، و نصاب  برضوض وألام .

وفي العطيفية تغيرت طبيعة هواياتي .. بعد ان فرضت علي البيئة ، ممارسات وهوايات جديدة .. عشقت التصوير ، و تعلمت اصول  الخط .. واجدت ترتيل وتجويد القرآن ، وتقليد الشيخ عبد الباسط  ، وقد اكتشف معلم مادة الدين في مدرسة المسعودي  الاستاذ عبد المجيد هذه الموهبة عندي .. وشجعني الشيخ عبدالودود امام جامع المدلل ، وصرت مشهورا في العطيفية بصوتي الجهوري .

وسرعان .. ما رجعت الى العجلة بشكل اقوى .. وتركت  هوايات الطفولة في الرحمانية .. بعد ان  اشترى شقيقي الكبير ( سعدون ) دراجة هوائية ( هيركليس ) وقد طاف بي بجولة  ممتعة في شوارع العطيفية الرحبة ، التي شهدت اول شارع كورنيش في بغداد شيده الزعيم عبدالكريم قاسم في بداية حكمه .

كنت  اراقب سرعة العجلة المكسوة باطار مطاطي ، بدهشة ونشوة .. فاذا بي من يتمرن على  ركوب الدراجة الهوائية بوقت قصير  .. بعدها حصلت على  دراجة  نارية يابانية .. من نوع ( فيزبا ) الى ان ابتاع  لي والدي .. سيارة  ايطالية صغيرة  نوع ( فيات ) كي اوصله ( كاشخا ) راضيا الى ديوان العشيرة في الرصافة .

اتساءل احيانا ..

ان كان شغفي باستخدام العجلة بجميع اشكالها وطبيعة حركتها وسرعتها ، له علاقة بالصحافة  تلك ( السيدة  المستعجلة ) التي اغوتني واغرتني كثيرا ، فترسخت بذهني ،  وسط عالم يعج  بالحركة والنشاط ، والعمل والموهبة  .. انه عالم المعرفة .

مشاركة