عاشورائيات

hassan-nawab

كلام مسموع

حسن النواب

كانت‭ ‬أمي‭ ‬رحمها‭ ‬الله‭ ‬،‭ ‬تستعد‭ ‬لطقوس‭ ‬عاشوراء‭ ‬مبكّرا‭ ‬،‭ ‬إذ‭ ‬كان‭ ‬مأتم‭ ‬عزاءها‭ ‬النسوي‭ ‬الذي‭ ‬تقيمه‭ ‬في‭ ‬منزلنا‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬عشرة‭ ‬أيام‭ ‬؛‭ ‬مشهوراً‭ ‬لدى‭ ‬نسوة‭ ‬أهالي‭ ‬قضاء‭ ‬‮«‬‭ ‬أبو‭ ‬صخير‮»‬‭ ‬،‭ ‬وكنَّ‭ ‬يطلقنَّ‭ ‬عليه‭ ‬‮«‬‭ ‬عزاء‭ ‬أم‭ ‬علي‭ ‬الكربلائية‭ ‬‮«‬‭ ‬،‭ ‬وبرغم‭ ‬عسر‭ ‬الحال‭ ‬كانت‭ ‬تذهب‭ ‬الى‭ ‬كربلاء‭ ‬لتشتري‭ ‬‮«‬‭ ‬بخصماً‭ ‬خاصاً‭ ‬‮«‬‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬الكعك‭ ‬غير‭ ‬متوفر‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬‮«‬‭ ‬أبو‭ ‬صخير‮»‬‭ ‬بذلك‭ ‬الوقت‭ ‬؛‭ ‬بغية‭ ‬توزيعه‭ ‬مع‭ ‬الشاي‭ ‬في‭ ‬يوم‭ ‬تاسوعاء‭ ‬،‭ ‬وبسبب‭ ‬شحة‭ ‬الحال‭ ‬أواخر‭ ‬الستينيات‭ ‬،‭ ‬كانت‭ ‬تضطر‭ ‬الى‭ ‬صبغ‭ ‬ملابسنا‭ ‬الملونة‭ ‬بلون‭ ‬أسود‭ ‬لنرتديها‭ ‬حزناً‭ ‬على‭ ‬إستشهاد‭ ‬الإمام‭ ‬الحسين‭ ‬‮«‬ع‭ ‬‮«‬‭ ‬حتى‭ ‬إنتهاء‭ ‬طقوس‭ ‬زيارة‭ ‬الأربعين‭ ‬،‭ ‬إذ‭ ‬كانت‭ ‬تشتري‭ ‬من‭ ‬العطاّر‭ ‬‮«‬‭ ‬خُدادات‭ ‬‮«‬‭ ‬ربع‭ ‬مثقال‭ ‬من‭ ‬الصبغ‭ ‬الأسود‭ ‬بدرهم‭ ‬واحد‭ ‬وتغمر‭ ‬دشاديشنا‭ ‬وثياب‭ ‬أخيّاتي‭ ‬بقدر‭ ‬يفور‭ ‬باللون‭ ‬الأسود‭ ‬،‭ ‬وكنت‭ ‬حالما‭ ‬أرتدي‭ ‬دشداشتي‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬بألوان‭ ‬زاهية‭ ‬في‭ ‬عيد‭ ‬الأضحى‭ ‬ثم‭ ‬أصبحت‭ ‬سوداء‭ ‬في‭ ‬عاشوراء‭ ‬؛‭ ‬حتى‭ ‬أبدأ‭ ‬بقضم‭ ‬ياقتها‭ ‬متذوقاً‭ ‬حموضة‭ ‬الصبغ‭ ‬،‭ ‬ولما‭ ‬نصل‭ ‬الى‭ ‬آخر‭ ‬يوم‭ ‬من‭ ‬الأربعين‭ ‬تصبح‭ ‬دشداشتي‭ ‬بلا‭ ‬ياقة‭ ! ‬

‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬أبوصخير‭ ‬مترع‭ ‬طفولتي‭ ‬،‭ ‬كانت‭ ‬تقام‭ ‬في‭ ‬أيام‭ ‬عاشوراء‭ ‬طقوس‭ ‬التشابيه‭ ‬،‭ ‬تبدأ‭ ‬من‭ ‬اليوم‭ ‬الرابع‭ ‬بمسيرة‭ ‬لركب‭ ‬الحسين‭ ‬عليه‭ ‬السلام‭ ‬القادم‭ ‬من‭ ‬الحجاز‭ ‬الى‭ ‬كربلاء‭ ‬،‭ ‬حيث‭ ‬يحتشد‭ ‬الناس‭ ‬لرؤية‭ ‬الركب‭ ‬الحسيني‭ ‬الذي‭ ‬تتقدمه‭ ‬جوقة‭ ‬من‭ ‬الطبالين‭ ‬والنقّارة‭ ‬ونافخي‭ ‬البوق‭ ‬وقارعي‭ ‬الصنوج‭ ‬،‭ ‬وكان‭ ‬مايدهشني‭ ‬ملابس‭ ‬الفرسان‭ ‬الزاهية‭ ‬ودروعهم‭ ‬وسيوفهم‭ ‬ولامة‭ ‬الحرب‭ ‬التي‭ ‬يرتدونها‭ ‬على‭ ‬صدورهم‭ ‬،‭ ‬وبراعة‭ ‬الشمر‭ ‬‮«‬‭ ‬شلتاغ‭ ‬‮«‬‭ ‬بتأدية‭ ‬دوره‭ ‬الشرير‭ ‬،‭ ‬مثلما‭ ‬تبهرني‭ ‬حركة‭ ‬خيول‭ ‬الركب‭ ‬لتناغمها‭ ‬مع‭ ‬صوت‭ ‬الأبواق‭ ‬وتساوقها‭ ‬مع‭ ‬إيقاع‭ ‬قرع‭ ‬الطبول‭ ‬والصنوج‭ .‬

في‭ ‬اليوم‭ ‬السادس‭ ‬من‭ ‬عاشوراء‭ ‬،‭ ‬تقام‭ ‬في‭ ‬مركز‭ ‬مدينة‭ ‬أبوصخير‭ ‬واقعة‭ ‬مسلم‭ ‬بن‭ ‬عقيل‭ ‬عليه‭ ‬السلام‭ ‬،‭ ‬وكان‭ ‬الناس‭ ‬يفدون‭ ‬مبكراً‭ ‬للحصول‭ ‬على‭ ‬موقع‭ ‬مناسب‭ ‬يتيح‭ ‬لهم‭ ‬رؤية‭ ‬فصول‭ ‬الواقعة‭ ‬التراجيدية‭ ‬،‭ ‬وبعضهم‭ ‬يجلس‭ ‬على‭ ‬سطوح‭ ‬المنازل‭ ‬المحيطة‭ ‬بمكان‭ ‬الواقعة‭ ‬،‭ ‬كان‭ ‬أشدّ‭ ‬مايرعبني‭ ‬بهذا‭ ‬اليوم‭ ‬هو‭ ‬مفوض‭ ‬الشرطة‭ ‬لطيف‭ ‬بأنفه‭ ‬الضخم‭ ‬؛‭ ‬الذي‭ ‬يحمل‭ ‬رتبة‭ ‬‮«‬‭ ‬تختة‭ ‬خضراء‭ ‬‮«‬‭ ‬على‭ ‬ياقته‭ ‬،‭ ‬إذ‭ ‬كان‭ ‬عدوانياً‭ ‬بطريقة‭ ‬مقززة‭ ‬ومفزعة‭ ‬،‭ ‬ويضرب‭ ‬بخيزرانته‭ ‬حشود‭ ‬الناس‭ ‬عشوائياً‭ ‬وبقسوة‭ ‬بحجة‭ ‬تنظيم‭ ‬جلوسهم‭ ‬،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬كان‭ ‬ما‭ ‬يبهرني‭ ‬بهذه‭ ‬الواقعة‭ ‬الرجل‭ ‬الوقور‭ ‬بملامحه‭ ‬السمحاء‭ ‬و‭ ‬الذي‭ ‬يجسّد‭ ‬شخصية‭ ‬مسلم‭ ‬بن‭ ‬عقيل‭ ‬،‭ ‬وهو‭ ‬نفسه‭ ‬من‭ ‬يجسّد‭ ‬شخصية‭ ‬الحسين‭ ‬في‭ ‬اليوم‭ ‬العاشر‭ ‬،‭ ‬أذكر‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬السنوات‭ ‬حدث‭ ‬موقفاً‭ ‬طريفاً‭ ‬،‭ ‬حين‭ ‬دخل‭ ‬الأمير‭ ‬عبيد‭ ‬الله‭ ‬بن‭ ‬زياد‭ ‬على‭ ‬فرسه‭ ‬الى‭ ‬ساحة‭ ‬العرض‭ ‬راكباً‭ ‬جواده‭ ‬وهو‭ ‬يرتدي‭ ‬جبّة‭ ‬ذهبية‭ ‬تخطف‭ ‬الأبصار‭ ‬،‭ ‬فتوّهم‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬المتفرجين‭ ‬أن‭ ‬الذي‭ ‬أمامهم‭ ‬هو‭ ‬مسلم‭ ‬بن‭ ‬عقيل‭ ‬،‭ ‬فتعالى‭ ‬النحيب‭ ‬والصراخ‭ ‬،‭ ‬لكن‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬أخبروهم‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬إبن‭ ‬مرجانة‭ ‬،‭ ‬فتحوّل‭ ‬نحيبهم‭ ‬الى‭ ‬غضب‭ ‬عارم‭ ‬وإنهالوا‭ ‬عليه‭ ‬بالحجارة‭ ‬،‭ ‬فلم‭ ‬يكن‭ ‬أمامه‭ ‬سوى‭ ‬النزول‭ ‬من‭ ‬جواده‭ ‬بسرعة‭ ‬وهرع‭ ‬لاهثاً‭ ‬الى‭ ‬قصر‭ ‬الأمارة‭ ‬،‭ ‬وحالما‭ ‬جلس‭ ‬على‭ ‬العرش‭ ‬أمسك‭ ‬بالحاكي‭ ‬وخاطب‭ ‬الناس‭ ‬معاتباً‭ : ‬أيها‭ ‬الناس‭ ‬كدتم‭ ‬تقتلونني‭ ‬بحجارتكم‭ ‬،‭ ‬فأنا‭ ‬مثلكم‭ ‬أحب‭ ‬الحسين‭ ‬ومسلم‭ ‬بن‭ ‬عقيل‭ ‬عليهما‭ ‬السلام‭ ‬،‭ ‬وقد‭ ‬جئت‭ ‬أمثّل‭ ‬دور‭ ‬الأمير‭ ‬عبيد‭ ‬الله‭ ‬بن‭ ‬زياد‭ ‬لعنة‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬،‭ ‬بعضهم‭ ‬إقتنع‭ ‬بكلامه‭ ‬بينما‭ ‬ظل‭ ‬آخرون‭ ‬يلعنونه‭ ‬ويرجمونه‭ ‬عن‭ ‬بعد‭ ‬بالحجارة‭ !‬

‭ ‬صبيحة‭ ‬يوم‭ ‬العاشر‭ ‬تقام‭ ‬‮«‬‭ ‬الدائرة‭ ‬‮«‬‭ ‬خلف‭ ‬منزلنا‭ ‬الحكومي‭ ‬،‭ ‬في‭ ‬ساحة‭ ‬لكرة‭ ‬القدم‭ ‬،‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬ضمن‭ ‬الذين‭ ‬يشتركون‭ ‬بواقعة‭ ‬الطف‭ ‬أخي‭ ‬علي‭ ‬النوّاب‭ ‬مؤدياً‭ ‬دور‭ ‬أحد‭ ‬جنود‭ ‬بني‭ ‬أميّة‭ ‬بملابسه‭ ‬الحمراء‭ ‬،‭ ‬وكانت‭ ‬توجيهات‭ ‬المشرف‭ ‬على‭ ‬إخراج‭ ‬الواقعة‭ ‬لجميع‭ ‬جند‭ ‬بني‭ ‬أميّة‭ ‬،‭ ‬أن‭ ‬يسقطوا‭ ‬على‭ ‬الأرض‭ ‬صرعى‭ ‬حالما‭ ‬يقترب‭ ‬منهم‭ ‬الحسين‭ ‬‮«‬ع‭ ‬‮«‬،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬أخي‭ ‬علي‭ ‬النوّاب‭ ‬كان‭ ‬مشاكساً‭ ‬،‭ ‬وكان‭ ‬كلما‭ ‬سقط‭ ‬صريعاً‭ ‬ينهض‭ ‬من‭ ‬جديد‭ ‬لمبارزة‭ ‬الحسين‭ ‬‮«‬ع‭ ‬‮«‬،‭ ‬مما‭ ‬أثار‭ ‬حنق‭ ‬الرجل‭ ‬المشرف‭ ‬على‭ ‬الواقعة‭ ‬؛‭ ‬فهجم‭ ‬على‭ ‬أخي‭ ‬غاضباً‭ ‬وأمسكه‭ ‬من‭ ‬تلابيب‭ ‬قميصه‭ ‬الأحمر‭ ‬وأسقطه‭ ‬أرضاً‭ ‬وهو‭ ‬يردد‭ ‬بعصبية‭ : ‬‮«‬شنو‭ ‬أنته‭ ‬بسبع‭ ‬أرواح‭ ‬مثل‭ ‬البزون‭ ‬؟‭ ‬‮«‬

هذا‭ ‬العام‭ .. ‬اذا‭ ‬كنت‭ ‬قد‭ ‬ذرفت‭ ‬دمعاً‭ ‬على‭ ‬فجيعة‭ ‬الحسين‭ ‬‮«‬ع‭ ‬‮«‬‭ ‬إسوةً‭ ‬بباقي‭ ‬الناس‭ ‬ممن‭ ‬يعشقون‭ ‬إبن‭ ‬فاطمة‭ ‬الزهراء‭ ‬‮«‬ع‭ ‬‮«‬،‭ ‬فأن‭ ‬دمعي‭ ‬كان‭ ‬أكثر‭ ‬غزارة‭ ‬ومرارة‭ ‬على‭ ‬تلك‭ ‬الرضيعة‭ ‬التي‭ ‬شج‭ ‬رأسها‭ ‬الرقيق‭  ‬بطقس‭ ‬‮«‬‭ ‬التطبير‭ ‬‮«‬‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬عائلتها‭ ‬؛‭ ‬والتي‭ ‬فارقت‭ ‬الحياة‭ ‬بعد‭ ‬ساعات‭ ‬نتيجة‭ ‬نزف‭ ‬الدم‭ ‬؟‭! ‬الا‭ ‬تبّاً‭ ‬للجهلة‭ ‬وللذين‭ ‬خلت‭ ‬قلوبهم‭ ‬من‭ ‬الرحمة‭ .‬

مشاركة