صورة أمل دنقل ـ عوّاد ناصر

صورة أمل دنقل ـ عوّاد ناصر
روح أمل دنقل تحوم اليوم في سماء ميدان التحرير قلقةً على مصر من أقصى الصعيد حتى أعلى الدلتا، بينما تهتز أرض مصر تحت المصريين الذين يتوقون للحرية والموسيقى والشعر وصحن الفول الساخن في فجرية سيد درويش وللفقير رب كريم.
شاعر عربي عجن كلماته بوجع القرى النائية، فجاء رغيفه ساخناً مثل شمس الصعيد وشهياً كالنيل.
كابد أمل دنقل مرضين تفشيا في روحه الهشة الشعر والسرطان فراح ضحيتهما، مبكراً، في أربعينياته.
قصيدة أمل دنقل علامة فارقة في الشعر العربي لأنها جاءت متقنة، فهو اغترف من التراث الشعري العربي ليعيد إنتاجه في قصيدة حديثة وإن حملت ملامح خمسينات الشعر العربي المصرّة على الرومانسية الموزونة والمقفاة، ولا يتوانى عن استعمال كلمة ينطمس نظراً الى حاجته لحرف السين قافيةً وهي ملامح ما زال يحملها الكثير من الشعر المصري بأسمائه المعروفة، من جيل دنقل وما بعده، لكن قصيدة دنقل أكثرها إتقاناً وصدقاً وانتماء للذات.. الذات وعاءً لأحزان العالم، وعالم دنقل ليس كوسموبوليتياً إنما ما يتلامس عن قرب لنبضه المضطرب وحساسيته المفرطة إزاء اللاعدالة والقهر والألم.
شاعر سيئ الحظ.. الشعراء سيئو الحظ، غالباً، وأمل واحد منهم لأنه ابتلي بمرضين كان يمكن أن يشفى من أحدهما القاتل ليكابد الثاني، وإن كان رديف الأول.. الشعر، مرضاً مؤلماً، يولّد مناعات ضد أمراض أخرى.
ينتحي أمل جانباً ويختار مقعداً في مقهى شعبي ويطلب شاياً.. ثم يرسم صورته على علبة الدخان
هل أنا كنت طفلاً» أم أن الذي كان طفلاً سواي؟ » هذه الصورة العائلية» كان أبي جالساً، وأنا واقفُ .. تتدلى يداي»
رفسة من فرس» تركت في جبيني شجّاً، وعلَّمت قلبي أن يحترسْ
سرعان ما يغادر أمل دنقل صورته الشخصية إلى صورة خارجية أوسع، هي صورة الأب في لحظة موته، منطلقاً من الأولى التي لم تزل عالقة في ذاكرة القارئ
أتذكر» سال دمي» أتذكر» مات أبي نازفاً» أتذكر» هذا الطريق إلى قبره .
لم يخرج الشاعر تماماً من صورته الشخصية الأولى إذ تراه يعود إليها
أو كان الصبي الصغير أنا؟» أم ترى كان غيري؟» أحدق» لكن تلك الملامح ذات العذوبة» لا تنتمي الآن لي
والعيون التي تترقرق بالطيبة» الآن لا تنتمي لي» صرتُ عني غريباً» ولم يتبق من السنوات الغربية» إلا صدى اسمي»
وأسماء من أتذكرهم ــ فجأة ــ
بين أعمدة النعي .
.. ولكن ما الذي جعل الشاعر يفقد ملامحه العذبة ويغترب عن العيون التي تترقرق بالطيبة ؟
الشاعر لا يجيب ولا يفسر، فالتأويل متروك للقارئ. شخصياً، أحيل هذا إلى نضج القصيدة واغتناء الشاعر بالتجربة التي هي مدار أسئلة لا تولد غير اسئلة الاغتراب اللاحق.. أسئلة وعي الموقف والوجود ونشدان التلاؤم.
كأني به ضاق ذرعاً بصورته فها هو يغادرها، يمزق ما رسم ويبدأ برسم صورة القرين الذي يقاسمه كل شيء.. القرين» المعادل» المغاير» الرديف في الطريق اللاهب، الطويل
كان يسكن قلبي» وأسكن غرفته» نتقاسم نصف السرير» ونصف الرغيف» ونصف اللفافة» والكتب المستعارة» هجرته حبيبته في الصباح فمزق شريانه في المساء» ولكنه بعد يومين مزق صورتها ….. فجأة مات .
يختتم أمل قصيدته بهذا المقطع ــ هل نريد قليلاً من الصبر؟ ــ لا.. »فالجنوبي يا سيدي يشتهي أن يكون الذي لم يكنه» يشتهي أن يلاقي اثنتين الحقيقة والأوجه الغائبة .
هنا بعض ما يعيننا في العثور على بعض جواب، أو سر اغتراب الشاعر، إنه مفارقة الحياة بين ما كانه وما يشتهي أن يكونه، وهو نوع من الكدح الفكري لبلوغ الحقيقة والأوجه الغائبة.
AZP09

مشاركة