صوت الخال جمال
عبدالكريم يحيى الزيباري
دهوك
أهي اللغة الكردية تتعثر في الفضاء موجات متعرجة من برج يبث أغنيات كردية وأخبار وبرامج منوعة صباح مساء؟
هل للجمال صوت؟ وأي جمال هذا الذي كان صوته لنصف قرن تقريبا: رذاذا للغة الكرد: والريح أدراجها، وطلبات البسطاء معراجها، والتمزق شراعها، والفجائع إيقاعها، والمرارات رحيقها؟
الساعة السادسة مساء موعد بث برنامج “مع المستمعين”: الأب يشرب الشاي بعد العشاء مفتخرا بلغته تذاع من بغداد. الأم تفتخر بشقيقها المتصل يطلب أغنية عيشه شان. البرنامج يعاد في الساعة الحادية عشر صباح اليوم التالي ليستمعونه بلهفة أشد من الأولى، الأب يعود من الحقل ليستمع البرنامج للمرة الثانية، الأم تترك تؤجل تنظيف قن الدجاج وتهرع لتسمع صوت شقيقها مرة ثانية. وعشرات المتصلين يتصلون بأقربائهم وأصدقائهم. اللغة الكردية كانت لذيذة وطازجة، وكان قن الدجاج نظيفا. سائق أجرة في شارع الرشيد يقلب موجات الأثير. مدير مدرسة الأمل في منطقة عرفة قرب باباكركر يستمع نشرة أخبار دهوك أربيل السليمانية كركوك: من الإذاعة الكردية في بغداد، كانت قبل أن تزول: ملاذا للأدباء والشعراء والفنانين، وللطلبة الكرد، وأسهمت في إعداد وتخريج ملاكات إعلامية متميزة. فلاح في قرية نائية يشعر بالفخر. سائق الأجرة في بغداد يتسلى عن غربته بأغان فلكلورية لئلا ينسى لغته وموطن الأجداد، وفي المدن العمال، وفي المطابخ ربات البيوت، وآخرون أيضا.
ذلك المساء البعيد من سبعينات القرن العشرين، كان العالم يطوى كل مساء بلسان الخال جمال مرتين: نشرة أخبار السابعة، والعاشرة. وكانت بغداد حلم الشعراء، حلم الطفولة، لقد كان لبغداد (في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور) وقومها طيبون، احتوت قلوبهم أبعاد التسامح، لا تنتهي أعراسهم والاحتفالات، وعيونهم تقرأ أبجدية الفرح أينما التفتت. كانت دار سعد لم يدم حزن بها ولا ترح. واليوم: دار سوء لم يدم أنس لامرىء فيها ولا فرح. عجيبة يا بلد، ماذا جرى؟ اختلطت الأعراس بمجالس العزاء!!
وثنى الراوي قال: تأخر جمال برواري، نعم الخال جمال تأخر عن موعده كثيرا، فهو يخرج من بيته في السادسة والنصف مساء كل يوم، قبل الساعة السابعة بعشرة دقائق هبط مسرعا سلالم الطابق الثاني: شقة واحدة من غرفة واحدة وصالة. يتسابق مع موسيقى رقاص الدقائق لا يريد أن يتأخر عن نوبته، ليس خوفا من أحد، الوظيفة كانت هي الرقيب. وصل ناصية الشارع، وكان على عجل، رفع يده اليمنى: السلام عليكم. عيني أبو آفا. حبيبي أبو آفا. هاي وين؟ اش بيك مستعجل؟ كانت لغة الطبقات الشعبية التي تعيش حياة بليدة وبطيئة غالبا ما تكون جميلة، ولا تخلو من معان ومفارقات طريفة، كان أهل هذا الفرع من حي الصالحية، وهو الفرع الثاني المجاور لبناية وزارة الحكم المحلي العملاقة. كان الأمر بسيطا للغاية، كل واحد منهم يضع عائلة أمام عينيه، ويضع نفسه فيها، الكل في واحد، والواحد في الكل، يتعاملون مع بعضهم كأنهم عائلة واحدة، يعرف بعضهم عن بعض كل شيء، يعني كل شيء، متحدون في الأفراح والأتراح. ناصية الفرع الثاني، ثانية: رفع يده اليمنى: السلام عليكم. كانت الردود أهدأ. انتهى الفرع الثاني عبر شارع المتحف العريض ليبدأ طريقه في شارع الإذاعة، هذا الطريق نفس الطريق الذي سلكه كل يوم لأربعين عاما. في كل الأوقات، في كل الفصول، ذهابا وإيابا كانت الحياة أبسط وأجمل من أن تمل أو تفسح للضجر طريقا.
المذيع السابق يترك للمذيع اللاحق موجز نشرة الأخباء على الطاولة ويغادر، بعد الساعة السابعة مساء بدقيقة واحدة، كان الخال جمال يلتقط أنفاسه على الطاولة، يبحث عن ورقة الموجز، فلم يجد شيئا. الكثير من الكرد المبتعثرون في بلاد الله ينتظرون نشرة الأخبار، في الأنبار ومدينة الصدر والموصل وقريبا من السلاسل الجبلية وأنا لم أكن منهم، نصغي إلى الأخبار، كانت نشرة الأخبار ذلك المساء غامضة، لم يعرف أحدهم أن المذيع السابق نسي أن يترك له الموجز، وأن الخال جمال أنقذته طيبته وسرعة بديهيته فالتقط من تحت قدميه جريدة قديمة، رماها المذيع السابق بعدما تناول غداءه، واقتبس منها ثلاثة أخبار غامضة وقديمة ومرتبكة. كانت نشرة الأخبار تجعل الكلمات العنيفة أليفة وحميمة، كأنها أغنية. كانت نشرة الأخبار تعبر مئات الكيلومترات شمالا وجنوبا بالألم الإنساني، عن أشياء تهم الجميع وما من أحد يعرف أسبابها، أو ظروف قراءتها. الناس المتجمعون حول جهاز الراديو ينصتون بخوف بلا أمل في قرارات العفو التي تترى، وليس ثمة بعدها غير جبهات القتال، كل الطرقات مفتوحة إلى الجبهة. بين كل هؤلاء كانت امرأة تنتابها ارتعاشات الفرحة كلما سمعت صوت المذيع يقرأ الأخبار بلغتها، بلهجتها، بصوت أليف تلك المرأة الجانحة مع موجات الراديو لا يعرفها المذيع وتعرفه جيدا، وفي بريق عينيها المتلألئ بالصبابة والهوى، حكايات لا تنتهي، ضاعت في ضوضاء المدينة.
كان السيد المذيع يعيش حياة هادئة وهانئة، لم يطمح يوما بكرسي المدير، فهو أكثر طيبة من أن يتأمر على زملائه، أو يتآمر. لم يطمح يوما بثراء طاغ، يشغله عن الاندهاش بخفقة من نعال أحد أبنائه، وكركراتهم على سلالم الشقة. لم يكن عبدا للدرهم والدينار، كان عبدا لله، وهو الله الذي في السماء إله وفي الأرض إله، وفي قلبه إله. ارتدى الحياء ثوبا، والحياء ليس ضعفا كما يظن الماكرون، الحياء كله خير. والخير صنعة الجمال، وكان يا ما كان، كان جمال برواري وبيته الخان: فندق واستراحة ومكتبة، والبراءة والضحكات والطرائف وقهقهات الضيوف حتى الصباح. والليل في بغداد كالليل في ديريشكي يرنو بعينيه دوما إلى أشجار التفاح والجوز الأخضر كأنه يمد أغصانه إلى قلبه فيكتسب خضرة أبدية.