صناعة العدو.. أي عدو؟ – عبدالمنعم الاعسم
ثمة وصفة من مشتقات سايكولوجية العنف وهوس الحرب وجيزها أن تَقتل (أو تُقتل) بضمير مرتاح وسمعة طيبة في سجل الاموات، ولكي يبقى ضميرك في ملكوت السعادة يجدر ان تختلق عدوا، نِمرا، تنفخ في شراسته ولا رحمته، ثم تنازله، منازلة طاغوت جبار، برغم انعدام توازن القوى، تـَقتلُ، فضميرك مرتاح، وتُقتل فانت بطل. تلك هي الوصفة السحرية اللاهوتية التي اختلقها “سياسي” في مكان ما، مهووسٌ بالسلطة التي وصلها (او التي يسعي اليها) اما الجمهور الحالم بهوية جمعية طوباوية فيلزمه عدو يستفزه في موضع الهوية تلك في وجدانه.. عدوٌ موجود او مُختلقٌ.صناعة العدو مهنة عريقة في التاريخ، احترفها العقل القبلي لرص بنيان القبيلة بمواجهة الاجتياحات، وذلك قبل ان تدخل في سوق التداول مع العصر الاستعماري وحروب اخضاع الامم والشعوب الى مشيئة القوة العسكرية العمياء، فلكل طرف في الحرب عدو، ولكل شعب مقهور اعداء، ولكل ضحية عدو أمعن في أهراق الدماء، وثمة دائما تعريفات غامضة للعداوة والصداقة، تزداد غموضا مع تحولات مضامين الصراع، وانتقال ساحاته والاختراقات بين جبهات القتال. وفي حدث له مغزى كان مجلس شيوخ الامبراطورية الرومانية قد اطلق توصيف “عدو الناس” على نيرون، ثم استخدم مصطلح العدو خلال الثورة الفرنسية، وجاء في خطاب لروبسبير قوله “ان الثورة تضمن الحماية للمواطن الصالح لكنها لا تضمن سوى الموت للاعداء”.
في علم نفس الاعلام المعاصر تسوّق صورة العدو، أياً موقعه والمسافة معه، باعتباره جهة منزوعة الانسانية والرحمة فيما يجري بنائها الوصفي على الاختزال والتضخيم والتحيز والتعميم.. حتى يفقد العدو شكله العياني المحدد ليحل محله “معنى” يتسع لما حصر له من الجهات والاشخاص، فهو دولة، أو جمعية، أو فئة من اصحاب العقائد والتفكير، او هوقومية او ديانة او طائفة شاء الصراع الضاري بين السياسيين ان يأخذ طريقه الى افئدة الأنصار، وتتحول مذماته الجمعية، وشتمه والتوعد له، الى دروشة، وضجيج، وتنافس على افتداء النفس في قتاله. وفي حالة فاصلة في تاريخ العنف كان الكاتب نجيب محفوظ عدوا يلزم القضاء عليه.
اصناف الاعداء
الخبير العسكري الفرنسي بيير كونيسا في كتابه “صناعة العدو” يذهب الى ان صناع القرار (الرؤساء) وراء الانشغال بالتخويف دائما من “عدو” ويؤكد بأنّ النماذج التي يطرحها للاستدلال على هؤلاء الأعداء غير نقية تمامًا؛ إذ يكون العدوّ في أغلب الأحيان مزيجًا من عدّة أصناف. و”من بين أصناف الأعداء: أعداء الحدود، والمنافس الكوكبي، والعدوّ الحميم (في الحرب الأهلية) والعدوّ الخفي أو نظرية المؤامرة، والعدوّ المتصوَّر، والعدوّ الإعلامي، إضافة إلى أنواع أخرى من الأعداء، لكن الباحث يقترب من اشكالية صناعة العدو باثارة السؤال التفصيلي: هل يُمكن العيش من دون عدوّ؟ ثم كيف يستطيع البشر تفكيك العدوّ في المستويين الوطني والدولي؟ اما الفيلسوف والكاتب الإيطالي “أمبرتو إيكو” فيذهب في دراسة له بعنوان: “اختراع العدو” الى “إن وجود العدو مهم ليس لتحديد هويتنا فحسب؛ وإنما -أيضاً- ليوفر لنا وسيلة لاكتشاف العيوب في قيمنا” مستذكراً مرحلة الحكم الفاشي بزعامة موسوليني (1922 -1943)، الذي تولى مقاليد السلطة في إيطاليا في فترة ما بين الحرب العالمية الأولى والثانية، وأسس حكمه على أساس التفوق العرقي وكراهية الآخر، العدو، وضرورة السطو والاستيلاء على مقدراته؛ كشرط لتحقيق “نهضة قومية”. *في بعض خطابات ساسة المرحلة العراقية يستطيع المراقب ان يحدد ملامح العدو الذي يهدد البلاد، الامر الذي لا جدال فيه، لكن المشكلة “العويصة” تتمثل في ان العدو المشار اليه كان قد حمل السلطة والمناصب الى اصحاب تلك الخطابات.. ولولاه ما كان سينقلب الحال ليقبضوا على الاحوال.