أيشكل جيمس جويس خطراً؟
صرخة بوجه الأزواج والزوجات من السياسيين
مارا سربانسكو
ترجمة – فضيلة يزل
في القرن التسع عشر، كانت الرواية الأنكليزية برجوازية في جوهرها، ووفقاً للمقياس الذي وضعه مبكراً مجموعة من الروائيين من أمثال جين اوستن والأخوات برونتي وتوماس هاردي، ترسخ السرد بقوة في عالم اجتماعي معين وطبقة اجتماعية معينة، كان الروائيون الأنكليز يعتمدون عليهما بشدة.
وقد أثرت التغيرات الاجتماعية بأساليب وثيمات الرواية الحديثة وشكلت وجهة نظر مختلفة اتجاه العالم. وقد عرفت الرواية سلسلة من الابتكارات لم يسبق لها مثيل ابتداءاً من اختيار مواضيعها وحتى الطريقة التي كانت تقدم بها. أخذت هذه التغيرات صيغة الأثنين، فالأكتشافات مهمة جداً في الأدب الحديث: مفهوم “الأدراك المفاجيء” وأسلوب “تيار الوعي”. وقد وضع روائيو القرن العشرين هذه الأساليب موضع التنفيذ، وأكثر من كان قريبا من هذا الأسلوب فرجينيا وولف وجيمس جويس.
لم يكن هناك شيء في طفولة جويس يوحي بما سيكون عليه. لقد ولد في عام 1882 في احدى ضواحي دبلن، أنحدر من أسرة كاثوليكية وتعلم في مدارس يسوعية وبعدها في الجامعة. لقد كانت حياة اسرته، رغم الدفء والسلام الذي كانت تنعم بهما، مستغرقة بسياسات العصر الآيرلندي المشاغبة والمناقشات المبكرة التي كان يستمع اليها جويس عن القيادات الآيرلندية المختلفة التي عبدت الطريق لأدبه ورواياته.
كانت تجارب جيمس جويس الآيرلندية ضرورية جداً لكتاباته، وقد قدمت كل المستلزمات لرواياته والكثير من موضوعاتها الجوهرية. فجاءت مجموعته القصصية الأولى “الدبلنيون” تحليلاً متغلغلاً في ركود وشلل مجتمع دبلن.. فقد كانت قصصه تجسيداً للأكتشافات، كلمة كان جويس يستخدمها بالتحديد وكان يقصد بها الوعي المفاجيء لـ “روح” شيء ما والمقدرة لحدث ما أو شخصية ما على ان تكون مهمة أو تافهة حسب تحولها في وجة نظر الكاتب.
حددت المجموعة القصصية “الدبلنيون” كل عيوب المجتمع في بداية القرن العشرين، دون ان تضع نفسها ضمن حدود “دبلن” فقط، بل أصبحت الشخصيات الدبلنية عينات يمكن ايجادها في كل مدينة تقريباً.
على اية حال، لقد اعتقد جويس ان دبلن هي ” مركز الشلل”، ” بعد ان قضى طفولته فيها ليقارنها فيما بعد بمجتمع باريس الذي كان أكثر تحرراً.
لقد أصبحت مغادرة دبلن شيئاً ضرورياً بالنسبة لجويس لأنه كان يؤيد بشدة فكرة انفصال الفنان عن موضع ألهامه، كي يضمن موضوعية تامة: ” فالفنان مثل الأله في الخلق والإبداع يبقى ضمن أو خلف أو وراء أو فوق عمله اليدوي، ويبقى غير مرئي وإذا ظهر فهو نقي وغير مبالي”. ولكي يفهم الصورة كاملة لدبلن، كان جويس بحاجة للخروج من اطارها وقد فعل ذلك فجعل من تريست وباريس وزيورخ أوطانه الحقيقية مع القليل من الزيارات المتقطعة لدبلن. ملئت الفضيحة كل القصص القصيرة المنشورة لجويس، فقد اعتبر المجتمع الدبلني مجتمع فظ وغير مبالي وعديم الأخلاق مما شكل تهديداً للمجتمع الذي كان قائما آنذاك، كما شكل خطراً على كل القيم الأخلاقية الصادقة.
رد جويس ببساطة : “ان عدم الشعور بالمسؤولية جزء من المتعة في كل الفنون، انها جزء من المدارس التي لا تستطيع الأعتراف بذلك”.
كانت قصص جويس ببساطة تمثل خطراً في موازنة العصر الهشة، لأنهم بينوا ان مجتمعهم تصدع بشدة وبدلاً من محاولة اصلاح هذه التصدعات قاموا بإهمالها، والأسوأ من ذلك قاموا بتغطيتها تحت ذريعة التقاليد.
وعلى الرغم من ان جويس نشأ في عائلة كاثوليكية، إلا انه اختار ان لايبقى عضواً في الكنيسة الكاثوليكية: إذ انه كان يرفض النفاق الديني واحتفظ بكل الأمتيازات التحررية التي رفده بها تدريسه اليسوعي وكان نفوره هذا نتيجة واضحة لفقده الإيمان بالكنيسه الحديثة وكان يؤكد بأستمرار ان الخطر في فقدان الكنيسة لمصداقيتها بات وشيكاً.
كانت شخصيات قصص “الدبلنيون” تشبه شخصيات “غرايس Grace ” : فالسيد باور Power والسيد كيرنان Kernan أو السيد كوننغان Cunningham الذين يذهبون الى الكنيسة بعيداً عن أي ألتزام اجتماعي وبسبب الشعور بالفخر فقط؛ فهم فخورون كونهم كاثوليكاً ويريدون ان يتأكدوا بأن البروتستانت يعرفون هذا، بالإضافة الى ان النساء كن يستخدمن الكنيسة كمفزعاً لهن من ازواجهن الذين كانوا يسيئون معاملتهن، فهن يلجئن لها عندما يجدن حياتهن الزوجية لم تعد محتملة. لم يعد الاتصال بالله الدافع الرئيسي وراء ذهاب الناس الى الكنيسة، فالكنيسة فقدت صلتها باتباعها واصبحت مؤسسة قديمة عديمة الفائدة وفقدت السبب الذي أسست لأجله.
فقصة “الميت” تصور قصة الشاب مايكل فيري الذي يقوم بزيارة طائشة لحبيبته فيموت على أثرها لأن حالته الصحية كانت متدهورة. ان هذا التصرف وفقاً لمقياس اليوم، يمثل شيئاً أحمقاً وعديم الجدوى. على أية حال، يشير جويس هنا ضمناً الى ان القيام بمثل هذه البادرة المتهورة جعلت من الشاب بطلاً متميزاً: ” كان أفضل دخول لذلك العالم الآخر بشكل جريء وبزهوٍ تام مع بعض العاطفة أفضل من الأضمحلال والذبول بشكل موحش مع تقدم العمر” ” بإقامة ما يعرف بنصب الشهيد للشاب مايكل فيري أصبح خطراً على السلوك الراقي الذي يعتبر سمة مميزة للرجل المحترم”. كما ظهر “أغناتيوس غالاهار” في قصة “غيمة صغيرة” رجلاً ارتكب ذنباً بحق وطنه قبل ان يصبح رجلاً ناجحاً في لندن وقد تلقى صديقه الحميم (لتل تشاندلر) خبر عودته لبلده على انه تصرف مشين، مع ان لتل تشاندلر ليس لديه الشجاعة للأفلات من ذلك النظام لذا بقي ليصبح جزءاً منه ومن “حالة الشلل” فيه متخلياً عن كل طموحاته واحلامه. كان الخطر حقيقياً، اذ ان نموذج غالاهار يمكن ان يتبعه الأخرون، الذين قد يبدأون بالتساؤل عن “السعادة” التي جلبها “الأمان” الى دبلن.
اما بالنسبة لشخصيات جويس النسائية فجميعها كانت تمثل حياة ذات نهاية مسدودة، فهن يمثلن نموذج السيدة الفكتورية المثالية التي تتحمل تقلبات الحياة، بأسم القانون الاجتماعي. فالأحترام لا يتحقق الا من خلال الزواج، والحب والاحترام الحقيقيان ليس لهما علاقة بالأسرة، لأن المظاهر الخارجية للأحترام كانت أكثر أهمية من فحواه.
ان حالة “الحقد” لدى السيدة كيري والاحباط لدى السيدة كيرمان تصور للقارئ امرأتين تعيستين تماماً، ولا يمكنهما عمل شيء لتغيير وضعهن، إذ كان هذا هو الطريق الذي تتبعه جميع النساء. كان جويس يشكل خطراً على مؤسسة الزواج ومؤسسة النظام الاجتماعي المزيف الهشة بعرضه تعاسة هؤلاء النسوة. اما شخصيات جويس النسائية الأخرى فكن شابات لم يتزوجن بعد وكان الزواج بالنسبة لهن الخيار الوحيد حتى اذا كان لدى بعضهن نية في الهرب مثل إيفيلين، تبقى محكومة بمجتمع ابوي متصلب ويعتقد ان رحيلهن المفاجئ او هربهن سيسبب ضرراً لا يمكن اصلاحه في ميزان المجتمع، والأسوأ من هذا كله، سيلومهن الجميع حال مغادرتهن، لأن مهمتهن الأساسية هي العناية بالاباء والاخوان. لكن “حالة مؤلمة” كانت القصة الأكثر خطورة، حيث تظهر للوجود صورة الرجل الآيرلندي المثالي الذي لا يرغب بالعيش بعيداً عن المدينة التي ولد فيها. وعلى الرغم من ذلك ما زال يحمل النماذج الآيرلندية القديمة الى حد كبير. كان مستاءاً بسبب انتحار عشيقته السابقة وبسبب حقيقة انهم اقاموا مرة علاقة حميمة، لكنه في نفس الوقت يعترف بحقيقة وجود رفيق فيه عيب أفضل من عدم وجوده نهائياً: “كان يشعر لم تكن قصص جويس محض “خطر مفيد”؛ انها دعوة يقظة للعالم اجمع وليس لآيرلندا فقط. انها صرخة بوجه رجال الدين والدولة القساوسة والسياسيين الأزواج والزوجات، وفي وجه الرجال والنساء. وعليهم جميعا ان يعوا ويحدثوا تغيراً، فيحاولوا ان يكونوا اخلاقيين بالنسبة للجيل القادم كي لا يعيدوا الأخطاء ذاتها، وبعد كل شيء يقول : “أنا الغد، أو أنا بعض يوم في المستقبل القادم، وما اسسته اليوم. فأنا اليوم، ما اسسته البارحة او ما اسسته في بعض يوم من الأيام الماضية”.