محمد الحافظ في (مجازاً أحاول إغراء اللحظة)
صراع الواقع والخيال – وجدان عبد العزيز
حينما دخلت الى عوالم ديوان (مجازاً أحاول إغراء اللحظة) 1 للشاعر محمد الحافظ وجدته يعيش حلماً خالصاً من نوع خاص في ديوانه هذا، بعلة الانشغال عن حقيقة الواقع المرّة، فبدءاً من العنونة وفيها قضية المجاز، فالمجاز في اللغة هوالتجاوز والتعدّي، وفي الاصطلاح اللغوي هوصرف اللفظ عن معناه الظاهر إلى معنى مرجوح بقرينة، أي أن اللفظ يُقصد به غير معناه الحرفي، بل معنى له علاقة غير مباشرة بالمعنى الحرفي، الى الاهداء لي وبخط يده الذي قال فيه : (باقة حلمي بين يديك)، فجعل قصائد الديوان هي عبارة عن حلم، الى المفتتح الذي يقول فيه : (أحملْ عني عبء أربعين خطيئة، وأعرني كأساً ارتل فيه مأساة وجودي)، فكل هذه المعطيات تؤكد ان الشاعر يحاول الابتعاد عن الحقيقة، بل هو يعيش عالما آخرا، وبالاعتماد على القراءة، نجد هناك دلائل تقودنا الى المعنى، باعتبار القراءة، هي الفضاء الذي ترتسم فيه كل الاقتباسات التي تتألف منها الكتابة، دون أن يضيع أي منها، فليست وحدة النص في منبعه وأصله، وإنما في مقصده واتجاهه، بيد أن هذا الاتجاه لم يعد من الممكن أن يكون شخصيا: فالقارئ إنسان لاتاريخ له ولا حياة شخصية ولا نفسية بالنسبة لمبدع النص.. إنه ليس إلا ذاك الذي يجمع فيما بين الآثار التي تتألف منها الكتابة داخل نفس المجال، من هنا عاش الشاعر الحافظ اشكالية المحسوس واللامحسوس، واشكالية الجسد والروح، حيث قال عمالقة الفلسفة كثيرا بخصوص اشكالية الجسد والروح، فمثلا ديكارت الذي توصل إلى أن الروح والجسد كلاهما يشكلان الإنسان، بينما هناك عمالقة اخرون قالوا بالنظرية المادية وأن الحياة كلها عبارة عن سلوك فقط، ولا وجود لشيء خفي اسمه الروح، باعتبار ان الروح شيء لايمكن ادراكه، وقد استطاعوا النجاح في مواقع من الاشكالية، ولكنهم فشلوا في قضية فهم الادراك، وبتطور العقل البشري ثبت أن الحقيقة ليس من الضروري أن تكون محسوسة دائماً، وإنما يمكن أن تكون فقط ذاتية الادراك، وهذا يعني أن الحقيقة يجب أن نراها، ولكن التساءل القائل: إذا أنت تتألم وتشعر بالألم فكيف للآخرين أن يعرفوا هذه الحقيقة ويشعرون بما تشعر به؟ لا يمكن ذلك بالطبع، لان انت فقط من تشعر بهذا وحدك، وهذا ينطبق على الشعور بالسعادة والفرح والأمل والحب، لذا ومن هذه الاشكاليات عاش الشاعر الحافظ في حلم سرمدي يقوده صراعه الى بحث عن المعنى المخفي، لكن فضحته الصور الشعرية وكشفت سرَّه لنا، فقوله في قصيدته (المرأة التي دخنتها ذات يوم) :
(أقلعي عن تدخيني
في سهراتك الماجنة
واضربي بي بين كؤوسك
تلك التي لمستها شفتاك
رأيت …،
إني لا أملك سوى بياض
أرّقته ضحكاتك)
فكل ما دونه هنا هي تصورات، فـ(القصيدة الحديثة تحاول بوساطة تقديم بناء متميز من الصور ان تقوم بهذا الدور التأثيري، اما عن طريق الشكل التراكمي، اي حشد الصور وترتيبها على نحو يذكرنا بالمونتاج السينمائي، او بوساطة الشكل التكاملي، اي الشكل الذي يهتم بوجود نوع من المنطق السببي الترابطي في العلاقات بين مختلف عناصر العمل الفني)2 واضاف الاستاذ الدكتور محمد صابر عبيد في هذا الجانب قائلا : (أو بطرق وسبل اخرى تتعدد وتتنوع بتنوع تجربة الشاعر ووعيه الجمالي وحساسية خياله)3 فكل ما حصل عليه منها هي صورة البياض (إني لا أملك سوى بياض/أرّقته ضحكاتك)، هذا الامر دلّ بما لايقبل الشك ان الشاعر يملك وعيا جماليا، نقله خياليا لنا، فـ(الأخيلة التصويرية تكشف لنا عن تشبيهات خارجية تنعش حواسنا على الدوام وتثير البهجة في نفوسنا، وهي لاتتعدى الحواس، ولكن الاستعارة تكون أكثر عمقا في الشعر، حين تلتئم الفكرة أو العاطفة مع الصورة الحسية)4? وهكذا الشاعر يحلق في احلامه بعيدا، غير انه يصطدم بالواقع، فيستعير منه ماهو حسي الى ماهو غير حسي .. يقول :
(على عتبات الليل
سار مرتديا حلمه
قدماه تشي به للطريق
ينضوي العشب مصفراً على لونه
تترنح مساحة اليأس وليداً
آه ….،
ما لهذا الغبار يئز في اذنيّ
لعله هو من يحمل
لغز الصمت)
وهكذا تترى الصور على قصائده، لتؤكد حقيقة ما ذهبنا اليه، في تكوين صور حسية واخرى لاحسية، وصور مغايرة لواقع اللغة متخطيا حدود الاشياء من خلال هذه الصور الى الكشف عن اعماقه الانسانية في التعامل مع قضايا الحياة، كونه حالما محلقا يروم الابتعاد عن الواقع كما هو، انما محاولا صناعة واقع جمالي يوازيه في الخيال.. فكلنا نعيش فى عالمين متضادين : عالم نراه فى صحونا نُجبر على الوجود فيه والتعامل معه، وعالم آخر نذهب إليه فى منامنا، لذا نتمنى ألا نتركه أبدا، نذهب إليه برغبتنا وكلنا أمل أن يصير هذا العالم واقعاً وحقيقة، فنحلم باليوم الذى نعيش فيه فى سعادة لا نهاية لها، ونحلم باليوم التى تنتهى فيه آلام قلوبنا وعذابات أرواحنا ودموع أعيننا، وهكذا نعيش مع الشاعر الحافظ الواقع هذا الذى كسر الفؤاد وحطم الأمل وأطفئ شمعة الغد التى أشعلناها بشق الأنفس وتضحية الأيام، وذاك الخيال الذى أعادنا إلى برائتنا وطهارة أحلامنا وبسمة أعيننا وسعادة قلوبنا، وبين هذا وذاك نعيش صراعات وجودنا، ولكن فى خضم ما نحن فيه من ألم الواقع وحلاوة الخيال، نغفل عن أمر ما وحقيقة لا مفر منها، هي أن الواقع رغم قسوته وتعاسته يظل واقعا، والخيال رغم جماله يظل خيالا، ويظل الواقع نحاول دوماً الهروب منه ويظل الخيال دوما هو ما نسعى إليه… ويؤكد هذا في قصيدته (وشوشات تعانق الغروب) :
(تعال كما انت
ان اردت المجيء
تعال متأبطا
وساوس خرافاتك
إقرأ طالعنا
في فنجان أخرس
كُتيبك ذاك
الذي علته الصفرة
يراوح بين حروف يابسة
تكاد أن تتكسر
على أمكنة غده
إقذف به في شواطيء خوفك
وأمطرني بوابل اشواقك
ربما يجود غيثك بيومٍ فاضح)
هكذا يدلنا الشاعر بلغته الشعرية الشفافة على المعنى في ديوانه (مجازاً أحاول إغراء اللحظة)، فهو اي الشاعر محمد الحافظ اغرته لحظات الحلم، فعاش في عوالمها مكوناً عالما افتراضياً ..
هوامش
1ـ ديوان (مجازاً أحاول إغراء اللحظة) للشاعر محمد الحافظ/دار امل الجديدة/ سورياـ دمشق/الطبعة الاولى 2017
2ـ دراسة (الشمس والعنقاء) النقدية في المنهج والنظرية والتطبيق/خلدون الشمعة/دمشق 1974 ص32
3ـ كتاب (عضوية الأداة الشعرية) أ.د.محمد صابر عبيد سلسلة كتاب جريدة الصباح الثقافي رقم 14 2008 م ص90
4ـ المرجع نفسه.