شيء يشبه الضجيج

قصة قصيرة

شيء يشبه الضجيج

حميد الربيعي

الآن ينام في بيته، لكنه ظل مع الورود والحديقة، دائما يشكلان له حلمه، فالورد يبصره كل صباح، يسقيه الماء ويشذب بعض الوريقات والأغصان الذابلة. يزرع شتلات جديدة، غالبا ما يطعمها ببعض الأنواع الرائقة الرائحة، حتى أن الوردة السوداء التتويج ما زالت ماثلة أمامه رغم أنها أخليت من تربتها عنوة.

الحديقة صباحا يبكر الحضور أليها، منذ عقدين لم يئن يوما أو يتأخر عن موعده. لا احد يراقبه، لكن شغفه بالورد يجعله حريصا على المواظبة، وكأنه يرعى ابنا، هو لم يلد بعد بيد انه سيرعاه بنفس الاهتمام.

قلما يقلم السيقان، يرغب بنموها العفوي، يرى في ذلك امتدادا للطبيعة التي أعطت الوردة رائحتها ، فلم التدخل في ما سينمو بإرادته؟ .

 الآخرون ينظرون لأمره وكأنه ما زال ذلك الفلاح الذي قدم من الكوت، يلف كوفيته المرقطة وذات اللون الأبيض الناصع دائما، والذي شذب شيئا من شاربه لزوم السكن في العاصمة وبعد سنة أطلق لحية، تنمو كحشائش مرسومة بحدين فتشكلت واحة جميلة.

المدير السابق جلب جزمه طويلة هدية له ، عندما أينعت وردته الأعجوبة السوداء. لم يعرف كيف يرتديها، بيد أنها صارت على مر الأيام جزءا من مظهره.

اسمه الحقيقي غاب بمضي الأيام واعتاد زملاؤه والناس على مناداته باسم عمو حسن، هو يقبل التسمية أذا قيل عنه البستاني، حتى أصبح حسن البستاني أشهر من نار على علم في عموم حدائق العاصمة.

الحديقة تمثل عالمه الفسيح والخيالي، دائما ما يحدث الآخرين عن ولهه في الأزهار، وأجمل الأوقات للمرح معه في بداية أيار، شباب المدارس يتلاطفون عندما يحل الشهر:

 – فرحك بيوم الكذب العالمي .

 – تقصدون يوم اللطف..

فيكفون عن المزاح ليأخذهم إلى أشذى الشتلات التي تتفتح بهذا اليوم.

 – عمو حسن، أنت سومري أصيل.

لم يك يعرف ما القصد من الفكاهة، بيد انه يفرح ما دام التلميذ يطلقها بروح مرحة وتداعب طيبته، والتي غالبا ما تفيض إلى كل التلامذة، الذين أعتادوا المطالعة في الحديقة. هم ليسوا قلة، آذ بدأوا منذ العام الماضي المجيء غب المعرض السنوي للزهور الذي اشرف عليه في متنزه الزوراء.

من “كراج الأمانة” يوميا يخرج صوب عمله، بعدما تكون الزوجة قد أعدت الفطور، نادرا ما خرج من دون أن يبل ريقه، كيف للزهرة أن تتفتح أذا لم تعانق ندى الصباح.

 توقظه الزوجة بحذر، كونه يخشى المفاجآت، فقد اعتاد الحياة بنظامها الدقيق الذي لا يحيد، الموازين تختل عندئذ، ذلك هو النظام الكوني فلم العبث به؟

 – وردك ينتظرك.

يبتسم لها ، كما ريحانة تفوح عطرا عابقا.

 – طعامك اليوم رائحة النرجس فيه.

 – والأقحوان.

 – كان بالأمس.

هي اعتادت مداعباته حتى أضحت جزءا من حياتها،

 من ولهه الشديد عرفت أنواع الورد وعطورها وباتت من سويقاتها وأوراقها تصنع نكهات طبخها، جاراتها يشممن الروائح عندما يلجن البيت في أثناء تسلية الصباح المخصصة للنميمة والعصرية التي يغلب فيها تناقل الأخبار العامة. لم تفرط بخاصيتها أبدا، لكنها على استعداد أن تطبخ لأي جارة من دون أن تفرط بوصفاتها السحرية، في داخلها تضحك وتنتشي فرحة بزوجها الذي صار أسطورة.

لا يبرح كراج الأمانة ألا بقدوم الباص ذي الطابقين، يستقله ثم يترجل في باب المعظم منتظرا الآخر ذا الطابقين، أيضا، كي ما يصل الحديقة. هي ليست ببعيدة عن كورنيش الاعظمية، تلك التي اقرب إلى المقبرة الملكية.

يظل طوال المسافة يفكر بزراعة نبتة ألجوري أو إزالة الأعشاب الجافة أو أن يشذب بتله زهرة القرنفل، تطوف به وسط روائح الأرض وندى الصباح، الذي تكاثف عند طرفي شاربه، صانعا خطا لذيذا، يرطب أسفل الشفة والذقن الدقيق.

يتذكر ذلك اليوم عند هبوب العاصفة، إذ اقتلعت الأشجار، كأن صوتها يخرج من حنجرة جافة بأنات موحشة ودورانها يشبه وجعا يتقطر من الخاصرة، ثم يتسرب إلى بقية الجسد فيتبع تلوي الأوردة والأعصاب، مثل مبضع يتوغل عميقا باتجاه القلب، كان حزينا بالضبط كيوم فقده لابنه الأول قبل عامين.

يباشر عمله بهمة، وكأنه يستعيد أتراحه القديمة، عند منعطفات الجسد، رقص تحت الآباط، أيام كان يلوح بمنجله، عند الركبة والمرفق، ذلك البزخ الحار مثل الرطب، الذي يتناغم مع الجسد كله ليتشكل الانزياح في ملكوت الرضا والنور. يرافقه تلوي الرقبة، كجناح فراشة تصفق للهواء مروحة وملوحة بانتعاش أعضاء الجسد. عندها تبدأ الأكتاف في الميلان، كرايات في طرفها جلجل، يصدح فيتعالى في الأفق أنغاما وسموا، مثل ارتداد نبات الدفلى، متسلقا خيوط الظل وفارشا أوراقه كعناقيد عنب اسود يلمع للشمس. شرنقة دودة الحرير تلتم ثم تتفتح بهية وضاحكة.

كان يقف في طرف الحديقة، تحت الأوراق الملتفة. الأرض تعبق برائحة الصباح، التي تشبه انبثاق شقائق النعمان. من الأعالي يتنزل برد خفيف، يذوب قطرات في سيقان الأشجار وخريره فوق الأوراق يشبه انسياب الدفء في جسد أنثى.

عبقت الروائح مختلطة في انفه فأحس بالانشراح، أمامه ثماني ساعات من العمل المتواصل كي ما يجعل الحديقة جنة دانية القطوف وتستقبل ربيعها القادم سريعا هذه السنة.

شمر عن ساعدين ما زالا  فتيين في تفتلهما، نفخ في كفيه وانحنى يلتقط المنجل. سمع شيئا يطن فظن أن الريح تكنس الشارع. كان الصوت قريبا وكاد أن يلامس طرف أذنه، استغرب أن يخدش سكون الصباح شيء.

مذ أن قدم إلى هنا والصباحات تمرق ملقية تحيتها بمودة. بين يديه غصن شجرة قرنفل تهدل فأهطل واسترخى فوق التربة وكأنه لا يقوى على الصعود، أسنده ببرعم شب وأينع وبزغ مثل صبي مرح.

 الطنين دنا حتى اقترب من فوده. لا يبصر شيئا، لكنه يسمع الضجيج عن كثب، كأنه قاب قوسين من التجسيد أمامه، زوبعة أو حيوان خرافي، حتما سيمسك به، من قرنيه أو أذنيه وان ابتعد فمن كوعيه، المهم أن لا يفلت ويوقف توحشه الذي لا يشبه شيئا ألا الموت.

خطأ ظنونه وانساق وراء منجله يحش، مثل الدودة التي تزحف قريبا من الأرض كان يؤدي عمله. الضجيج في الأعالي بدأ يهبط ثم يدور حلقات، زوبعة تتطاير الأوراق من لفحها.

ما ظن ولا فطن ولا سمع أن ضجيجا يقترب من انفه وكأنه مرتع عسل، يحط هنالك لثوان ثم ينسحب كريح. الثواني شدهته، بيد انه تنفس الصعداء عندما لاحظ أن الحديقة لم تخرب، وان الذي جرى كان في مكمنه قد اندلع، إذ شبت النيران فيه، ابتدأت في منخريه وصعدت كالبرق إلى خياشيمه، مما اضطره للقبض على انفه خوف الطيران والانفصال، حدث الذي لم يك في حسبان العم حسن البستاني. لقد لدغ في عقره وخرب انفه، إذ صار كرة مدورة ومنتفخة،حمراء ترصع اسمرار بشرته .

الآن ينام في بيته، زوجته تندب الحظ العاثر، ردد الحكاية عشرات المرات ولم تصدق. من الغريب أن تحصل حادثة كهذه وهو الرجل الذي تحسده الزوجة على الحس المفرط، أنها حقا مصادفة غريبة أن يصاب في انفه دون سائر الجسد، تعد ما جرى كان نكاية بسعادتها، وأنها من تدبير فاعل متعمد، خاصة وأنها كل لحظة ترى تورم الأنف يزداد غلوا ، عنادا بلهفتها ولوعتها.

الجيران يتوافدون كل حين ويخرجون غير مصدقين الإصابة في الأنف بالذات، دموع الزوجة تتقد بين الرموش الطويلة ومرات تتكسر فيظهر بريق العينين أخاذا، ترتعش من الحنق وتقرر لفه ببطانية على عجل وحمله عنوة إلى الطبيب.

في الطريق، من تحت البطانية، يشعر بدفق الثدي. كان ينبض لاهثا، حاول تشمم رائحته، كما يعرفها، فلم يرتعش منخراه كما العادة، شعر بالحرقة في مريئه كأنها حنظل، لكنه تذكر طعمه، كما الحليب الساخن، فهجع ساكنا طوال الطريق.

أمام الطبيب ممدد على سرير ويمسك بدفء أنامل زوجته.

 – شيء يشبه الضجيج، فعل بأنفي ما فعل.

 – يجب إيقاف زحف اللدغة، حتى لا تشمل بقية الأنسجة.

يبتسم الطبيب له، خيوط الابتسامة لا تشفع أمام اللوعة.

في الدار تتكور الزوجة ملتاعة حزينة، تتراقص أمام عينيها أطياف سوداء، يغلفها الألم فتزحف إلى جواره. من العسير التحدث ليد ودفء كبير يتمدد على الجانب الأيمن،

 تحتضن وجهه، يداعب خدها، لكنه يتراجع عندما يلامس الأنف. تتقلص شفته وان شققها الحزن.

في الأسبوع التالي اخبره الطبيب بالإمكان التعويض عن طريق بقية الحواس كالأذن أو العين.

الزوجة اجتاحتها الفرحة وكأن رد أنفه المفرط الحساسية له، بيد أن العم حسن، وبعدما قرف من الرقود تحت البطانية، قرر الخروج إلى الشارع.

الجيران ينبهرون، ثمة ما يثير الغرابة، كانوا يودون الاستفسار عمن شقلب الحالة، كانت الصورة مبهرة وان بدت غرائبية بعض الشيء، توقف هنيهة ليرد:

 – ستعرفون، لاحقا، من جعل عاليها سافلها.

حسن البستاني كان مقلوبا ، شاقوليا  يمشي على يديه وساقاه معلقتان عاليا.

مشاركة