شعريّة العتبات الأولى

شعريّة العتبات الأولى
في مرواة أنا بغيابك ماء يضنيه العطش
فاضل عبود التميمي
تُحيل المرواة الأخيرة للمرواتي د. عمّار أحمد أنا بغيابك ماء يضنيه العطش الصادرة عن دار سندباد للنشر، والإعلام في القاهرة 2012 على جملة من الخصائص الأسلوبيّة التي تتقدم واجهة نصّها السابح في بحر من التشكيل النسقي الذي سعى المؤلف خلاله إظهار الهويّة النوعيّة للمرواة بوصفها شكلا يجمع بين دفتيه أنواعا أدبيّة، وفنيّة معروفة يصعب جمعها في حيّز لساني واحد.
تلفت المرواة وهي نصٌ أدبيٌّ يجمع بين الموسيقى، والرواية نظر المتلقي من الغلاف الذي يمكن أن يُعدّ نصّا بصريّا يمنح القارئ فرصة توجيه القراءة حين يشير إلى عدد من المدونات التي تبدأ بـالعنوان، وتمرّ بآسم المؤلف، و دار النشر، لتنتهي بالصورة الإيقونيّة التي تتربّع واجهة الغلاف، وهي للمؤلف نفسه بهيأته الجادّة المجتهدة، والصارمة في وجه كلّ ذبول وسأم، وقد تداخلت في تشكّلها الإطاري، وما يجاوره مع بعض الألوان التي تجمع الأحمر، وقريباته لتضفي بريقا خاصّا يمنح الغلاف تشكيلا جماليّا يوحي بالفتوة، ونضارة الشباب، فضلا عن وجود آلة موسيقى العود التي تشكّل جواز مرور المرواتي إلى الحياة التي تتكامل فيها إنسانيّة المبدع.
يشكّل الغلاف بمجموع موجوداته كناية تشكيليّة متّسقة الشكل، والمحتوى تعبّر بامتياز عن تواصل المؤلف المرواتي المعرفي مع أمّ الفنون الموسيقى ، و تحديده لأهمّ خصّيصة أسلوبيّة يريد المرواتي أن يعلنها تعالق الموسيقى بالسرد، فهو في سفره الدائم المنفتح على الكتابة، والموسيقى يريد النهوض بجماليات الوجود علّه يسهم في درء خطر الموت المحيق بحافّاتها، وأحسب أنّ هذا المرواتي يعيش حياة ممغنطة في تضاريس الكتابة، والقراءة، والاستماع اليومي لكل صوت يتساوق في وتريات الروح الحالمة بالحب والحياة.
يشكّل عنوان المرواة أنا بغيابك ماء يضنيه العطش نصّا كامل الدلالة لا تهمني الإشارة إلى كونه عتبة ينظر إليها عبر تفوهات نقديّة جاهزة، إنّما يعنيني منه نصوصيّته المفارقة لما هو اعتيادي وحقيقي في الوجود، المفضية الى التأويل الممكن، والمغاير في طبيعة التشكّل الصوري القائم على الإمضاء التشبيهي البليغ المبني على حذف الأداة، ووجه الشبه أنا…ماء الذي عقد الصلة القياسيّة بين أنا المتكلم، و الماء ليخلق فجوة دلالية بعيدة مشحونة بأسلبة مفارقة.
والعنوان الذي سرعان ما تجري الاستعارة المكنيّة في مفصله الأخير العطش يضني الماء يكشف عن حضور سرديّ تام للمتكلم، لكنّه يوحي بـ غياب واضح لشخصيّة المرأة التي تبحث عنها فلا تجد لها أثرا إلا في المتن مع أنّ وجودها الفني ّ شرط لوجود نص المرواة نفسها، وهذا ما تنبه عليه المؤلف فيما بعد حين جاء بجملة اعتراضيّة وضعها في نص العنوان الذي تناسخ في المتن ليلفت نظر القارئ إلى ما غاب في العنوان الرئيس.
فالاستعارة بإجرائها القائم على توخي المشابهة المخيّلة تشكّل مفارقة بلاغيّة تنتمي إلى النمط الأعلى من الكلام ؛ فهي تجمع بين شيئين متعارضين الماء ، و العطش ، بمعنى أنّ اللغة فيها بُنيت على انحراف ايحائي مهمّته نقل الدلالة من مجالها المعجمي إلى المجال التأويلي الذي يكون بسبب البعد بين المستعارين ، فهو الإنحراف يثير الإستغراب، والإدهاش ليوسّع من نطاق تلقي النص.
إنّ تجاور المفارقة التشبيهيّة، والاستعاريّة في نصّ العنوان من شأنه أن يخلق مفارقة تشبيه تتّسع لمزيد من الدلالات تتخذ من العنوان حيّزا مراوغا يمنح المتلقي تخييلا مبنيّا على ثنائيّة تضاديّة الشكل تحفّز الذاكرة، وتعمل على إيقاد الدلالات البعيدة المنتمية بالضرورة إلى عالم الشعر.
العنوان يتناسخ تناسخا خطيّا يتجه نحو فائض دلاليّ، وشكليّ واضح أنا بغيابك ماء يضنيه العطش ،ليصبح في الغلاف الداخلي أنا بغيابك ماء يضنيه العطش.. ،بزيادة نقطتين، وعلامة تعجب، النقطتان دليل حذف يمكن تأويله، أمّا علامة التعجب فهي دليل لا ينقصه برهان.
العنوان بتنقيطاته، وعلامة تعجّبه يصبح في الصفحة الخامسة والثمانين أنا بغيابك أنت حصرا ماء يضنيه العطش ،أي بزيادة الجملة الإعتراضيّة بغيابك أنت حصرا التي تستوقف القارئ بما تحمل من تنبيه يسحب الذهن المتلقي إلى قضيّة ما تستوجب الملاحظة، والوقوف بين عتبتيها، وهي تعبير قصدي غايته الوقوف بوجه جريان الدلالة الإعتياديّة في السياق لغرض الإحالة على دلالة حاضرة مفيدة التأكيد، ولفت النظر.
والعنوان الرئيس للمرواة يتصل بعنوان آخر مواز له التماعات ليؤدي الأخير أثرا دلاليّا تخيّليّا يتصل بالعنوان الأول ناقلا الدلالة نفسها إلى المتن في مهمّة مكرّرة تحاول الإحاطة بتلقي المقروء، ليحيل على دلالتين الأولى تتضمن معنى اللمع من لمع البرق، والصبح، وغيرهما لمعا، ولمعانا، فهو لامع، ولوامع، والجمع على الماعات ،و التماعات أي كثيرة اللمع، والأخرى تشير إلى بنية زمنية تتعلق بالوقت الذي استغرق كتابة المرواة نفسها.
تستهل المرواة فاعليّتها السرديّة بتخيّل تراسلي عماده التحول الوظيفي في الحاسة الإنسانيّة لغرض استيلاد وظائف جديدة في الادب تتمثّل في انتاج رؤية غير منمّطة، تعتمد سلطة التشفير الشعري المغاير لطبيعة الحواس المستقبلة عند مؤلف المرواة ،وغيره في جماليّة نصيّة تتماهى وايجاز الشعر، حيث تُستهل المرواة بنص يختزل الوظيفة الافتتاحية للإستهلال الحاثّة على القراءة، وتلقي المتن بوظيفة جماليّة تأخذ النص بأجمعه إلى سياحة تفاعليّة تَمْزجُ فيها رؤى الشعر، والنثر، والموسيقى، ويكون لتراسل الحواس فيها شكل مائز من التصوير النسقي الذي يدور في فلك الإنهمام بسرد المرواة نفسها.
يقول الاستهلال في عبارته الأولى سأختم على باب غرفتك بالشمع الأعطر ص4، وفيه تنهض حاستا اللمس، والبصر بتهيئة الفعل السردي المقترن بما يستقبل من الزمن لغرض إجراء فعل الختم بالشمع الذي لم تعتاده الذائقة اليوميّة للإنسان ، فالختم لا يكون إلا بالشمع الأحمر تأكيدا لمبدأ المطابقة الذي يزن الموجودات بمعيار التحقق المعتاد، لكنّ المغايرة الأسلوبيّة تريد من الشمع أن يكون أعطر بمعنى أن يدرك بالشمّ لا باللمس، وبالبصر مانح الذهن المتلقي فرصة إدراك المرئيّات، والملموسات شمّا.
ويحيل الاستهلال نفسه على صورة تراسليّة أخرى تتبادل فيها حواس اللمس، والسمع، والبصر وظائف الإدراك الحسي بمزايا الشعر المخيّل أنسج لحنا على نافذتك ؛ ليذوب النغم بالضوء ص4، فالنسج حيّزه اللمس، لكنّ التغاير النصيّ يفتح للملوس فضاء السمع ليكون اللحن سدى النسج، ولحمته في تبادليّة وظائفيّة مكانها عمل الحواس التي ترتضي لبنياتها تبادل المواقع، والتعايش في زوايا متناظرة.
إنّ خاصيّة النسج المسموع في النص السابق أنسجُ لحنا سرعان ما تتلقفها حاسّة البصر التي تعمل على إذابتها في تشكيلة شعريّة عمادها مدركٌ بصريٌّ واضح ليذوب النغم بالضوء ، وهكذا يتمظهر النصُّ بين حواس ثلاث تتبادل فيما بينها الإدراك الجمالي للأشياء.
وللمرواتي سياق آخر كتبه بصوفيّة عالية سُئل المرواتي ما الحبُّ؟ فقال شهقة الوقت من سحر اللقاء، واغتراف العطر من نغم النقاء ص35،وفيه يغترف العطر، وهو مدرك شميّ من التصويت المموسق في الوجود في إشارة تراسليّة توحي بخضوع الذاكرة للتأثيري الموسيقي المبهج.
ويمكن للمتلقي أنْ يقرأ ما جاء في نصّ المرواة وأسهم في رتوش قيافتك اللذيذة ص51،الذي يصف فيه الملموس، والمرئيّ بحاسة الذوق إمعانا في تحطيم الأطر التقليديّة المهيمنة على مفاتيح الخطاب الإعتيادي، واستبدالها بأنساق الشعريّة المؤوّلة.
مما سبق يتبيّن للمتلقي أنّ المرواة أنا بغيابك ماء يضنيه العطش بغلافها، وعنوانها، واستهلالها نصٌ تتزاحم في تفاصيله الدقيقة شعريّة قارّة في نسيج صوغه الذي ينفتح على رؤى سرديّة تتجه صوب متن يمور بمظاهر التنقيط، والتصويت الذي يتمثّل في أجواء الموسيقى، والجناس، فضلا عن الحوار، الرؤى الصوفيّة، والتناص القرآني والشعري، الاحالات المرجعيّة التي تحيل الكثير من النصوص على مظانها التي ابتدعها المؤلف.
AZP09

مشاركة