شعراء الهايكو يقدمون زناد الإبداع – نصوص – ســــامي طـــه

فيسبوك أداة تواصل وسلام دواي نموذجاً

شعراء الهايكو يكدحون زناد الإبداع – نصوص – ســــامي طـــه

سبق لي القول مرة أن شروط الهايكو (الياباني في نظر البعض ـ الصيني في نظر البعض الآخر) لا يمكن توفرها في النص العربي ، لأنه ـ كما فهمت مما تيسر لي من القراءات المترجمة حوله ـ يرتبط بما أسميه الانعكاس الصوتي للحرف حتى وان لم يكن منطوقاً ، كذلك فانه كباقي الفنون اللغوية يرتبط بالبنية الذهنية العاطفية وبالتراث الأدبي لكل لغة وهذه كلها أشياء لا يمكن استعارتها الى لغة اُخرى ولا ترجمتها لذلك اقول ان ما يكتبه شعراؤنا الأحبة تحت مسمى الهايكو انما هو شيء خاص و فن يمكن أن يكون مضافاً الى الأدب العربي حتى لو كانت الاضافة جزئية .. و اذن فعلى مبدعي هذا النوع أن يبتكروا له تسمية عربية تناسب خصائصه من حيث الشكل و المضمون .. هنا عليَّ القول أن سلام دواي ربما بسبب تجربته الشعرية العراقية ثم الاسترالية وبفضل قدرته الواضحة على التواصل والتلاقح مع الثقافة الأجنبية فان هذا الفتى النحيف الذي كانه سلام يوماً ما في الربع الأخيرمن القرن الماضي يمثل الى حد بعيد شاعراً قدم أفضل التجارب في التعامل مع كتابة الهايكو .. ليس بناءً على النمط التقليدي الياباني ولكن بنمط يمكن أن يكون تأسيساً لابداع جديد في الأدب العربي

عن صديقنا يقول الشاعرالعراقي الكبير سامي مهدي … (سلام دواي شاعر متفرد في مشهدنا الشعري . هو مختلف عن جميع شعرائنا . ينظر إلى العالم بعين شعرية صافية ويلتقط الشعر من حيث يكون ، وهو يجده حتى في الهواء ).. وهذا ما نجد مصداقاً له في نتاج هذا الشاعر ..

أما عن الهايكو فإن سلام دواي ذاته يقول في مدخل يقترحه لمطالعة مجموعته (الهايكو دفتر) بعد أن يصف ضمنياً ما يصوره الهايكو بأنه اللحظة السعيدة التي تتنقل فيها الفراشة والنحلة بين الزهور وعلى الشاعر أن يصطنع مدخلاً لولبيا الى عمق هذه اللحظة التي تستحيل اذن الى .. مختبر وهو يقول نصاً :

(مختبر اللحظة هذا داخل عقلي وعاطفتي الجمالية ، هو عقل الهايكو، فاللحظة في عقل الهايكو زمنا شاسعا يتبلور بدقة متناهية وصفاء خالص.

في الهايكو الياباني القديم كانت عناصر الطبيعة هي من تحمل رسائله لانها بحد ذاتها تأملات في الرحمة والسلام، ولكن الهايكو شأنـــه شأن بقية الثقافات والفنون خاضعا لقوانين التطور ، لذلك بدأنا نألف قصائد هايكو تخرج من الطبيعة والتأملات البوذية الى فضاءات الحياة الاخرى ،كما انها لم تعد ملتزمة بالشكل التقليدي سبعة عشر مقطعا في ثلاثة جمل (5-7-5) فهناك قصائد هايكو طويلة، وهناك الهايكو المتسلسل، مع الحفاظ على روح الهايكو ،وخاصية التامل والتكثيف وانفتاح اللحظة في العقل على الحاضر والمستقبل، وهذا هو الفرق الجوهري بينه وبين قصيدة الومضة، والقصيدة القصيرة المبنية على التصور وعلى اللعب اللغوية،)

والشاعر ينقل لنا عن كاتبة أميركية تدعى باتريشا كونجان مقتبساً نظرياً عن الهايكو تتحدث فيه عن اتساع العقل البشري في لحظة شاعرية ليصبح مع القلب منفتحاً الى درجة بسعة انفتاح السماء و تتحدث عن الايمان البوذي والتيبتي تحديداً بوجوب أو امكانية تحقيق هذا الانفتاح وهذا الاتساع الذي تعتبره حضوراً و يمكن لي أن أعتبر خلاصته تتمثل في قولها (وعندما ” نحضر” سيكون بامكاننا رؤية عصير الخوخ او البرتقال على حافة النافذة المضاءة بنور الشمس قبل التقاطها لتناولها ) .

النموذج الأول : لحظات هايكو

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

استحم تحت شلال ضئيل

مثل غيمة صغيرة

تتبول أعلى الجبل

لايمكنني الغوص في نفسي

ابعد من قمر

يتوهج بين العشب،ويرتجف

بوذا في الحديقة

يتأمل

فراشة بيضاء طارت من فمه

رميت ساعتي الى النهر

فاصطاد يومي

سمكة.

صحيح أن كل مقطع من هذا النموذج يتكون من ثلاث جمل وبغض النظر عن مسألة الانفتاح على الواقع والمستقبل التي صار ينظـِّـر لها أكثر من منظر من دعاة الهايكو على صفحات التواصل الاجتماعي (الفيس بوك على وجه الخصوص) والتي لم يلتزم بها شاعرنا في المقطع الأخير .. فاستخدم الفعل الماضي المنغلق على الحدث الذي لايجوز عليه الشك والاحتمال ـ .. بدلاً من الفعل المنفتح على المستقبل وآفاقه وهو الفعل المضارع .. أقول ومع أنه أشار الى بوذا مرة لكن بوذا بقي رمزاً أصم في مقابل حركة شاعرية رمزية تفاعلية قدمها الشاعر مثلاً في العلاقة بين الساعة (الزمن) التي منحها الشاعر الى النهر فمنحه النهر بالمقابل سمكة .. ولولا قيد الالتزام الشكلي الذي تقيد به صديقنا فلربما كان بامكان هذه السمكة أن تخبرنا الكثير من القصص عن جداتها وعن الحوريات اللذيذات وعن العالم السحري الذي يتماوج هناك بعيداً عن أعيننا متخذاً من سطح الماء ستاراً سحرياً لا يستطيع أن يسبر أغواره الا الشعراء السحريون .. وربما كان لغير بوذا .. مثلاً أي امرأة فاتنة أن تزيد بهاء الحديقة والفراشة البيضاء التي يمكن أن تنطلق من فمها اذا تأوهت ويمكن لها أن تحوم حولها أو تحط حيث شاءت من محطات جميلة يمكن افتراضها على الملامح أو المهاد مابين الروح والجسد ..

ويبقى لدينا من سلام دواي ـ بعيدا عن الهايكو ـ تلك الصور المشرقة والكائنات المتحركة بلا قـــــيود لتصــل المدى البعيد البعيد .. انني أرى في شعر سلام دواي وصوره المرفرفة امكانية ابداع فني أصيل يكشف لنا زيف الالتزام بأنماط غريبة عن وجداننا مهما كانت التسميات ، وأنا من الذين يعتقدون أن تجربة شعراء المهجر التي أثمرت خلال أقل من قرن الموجة الحديثة من الأدب والشعر العربي الحديث يمكن لها أن تتكرر لتمنح الأدب العربي موجة ابداع جديدة قد يكون الهايكو وتجاربه وقوداً لمختبرها وتفاعلاتها الخلاقة أو شذىً لطلع جديد تنفثه أزهارها العبقرية المتوالدة من رحم ابداع وارهاص اضافة باهرة …. لا بد لي من القول أنني لست عدواً للهايكو .. وما أقترحه وأطرحه ليس فريضة مقدسة .. لكنه مقترح قد يكون مفيداً وفكرة قد تكون مانحة وشرارة قد تطلق طاقة منتجة .. تحية للشاعر سلام دواي ولكل المبدعين الذين يقدحون زناد الابداع الشعري في كل صوره.