شذرات من العامي والمولد
لم أر مبدعا يستمر في دفقه الإبداعي حتى بعد موته، ربما لأنه لم يمت فعلا فما مات منه، جسده فقط، لأنه حاضر معنا في كل حين، حاضر بما تركه لنا من إرث علمي وأدبي، وبما نهلناه من معينه، من خلال نصائحه وارشاداته وتوجيهاته العلمية والاكاديمية والانسانية والأدبية، فكان المنجم الموسوعي الذي لاينضب . وربما لأن العالم لايموت فهو عالم بامتياز، ولا أدل على ذلك من مؤلفاته القيمة من نحو (الشعر في الكوفة، والصراع بين القديم والجديد، وفن التمثيل عند العرب، وجهاز المخابرات في الحضارة الاسلامية …..) إلى غيرها من المؤلفات، وتحقيقاته الغنية من نحو (ديوان الحماني، وديوان بكر بن عبد العزيز العجلي، وديوان أبي حكيمة الكاتب، والأمثال المولدة لأبي بكر الخوارزمي) فضلا عن ديوانه الشعري (رؤيا أوروك)، ومقالاته المبثوثة في مختلف الصحف والمجلات . فقد آلى على نفسه أن لا يترجل عن صهوة ابداعه حتى في أيامه الأخيرة، وظل متمسكا في ناصيتها آخذا بعنانها صوب ميادين اللغة والأدب، وهما المتلازمين عنده، إذ لم نجدهما يفترقان، فلم يفصل بينهما يوم من الأيام، ولم يقدم عنايته بأحدهما دون غيره فجعلهما صنوين . هذا هو العلامة محمد حسين الأعرجي (رحمه الله)، ونحن إذ نتحدث عنه اليوم، فلمناسبة صدور كتابه الذي أراد منه أن يكون كتاب العمر والذي أسماه بـ (شذرات من العامي والمولد). وكان عكف على تأليفه في أيامه الأخيرة بعدما داهمه المرض الذي لم يعبأ بخبثه واستمر في تأليفه إلى أن حانت ساعة رحيله لمثواه الأخير قبل الشروع في نشره . لكن الابداع يريد أن يتم نوره ولو كره الجاهلون، فهاهو ينشر بعد وفاته وعلى نفقة وزارة الثقافة من ضمن اصدارات بغداد عاصمة الثقافة العربية، وجاء الكتاب بـ (368) صفحة من القطع الكبير، تصدرت الكتاب كلمة للاكاديمي سعيد عدنان، ومن ثم مقدمة المؤلف . والكتاب عبارة عن مفردات من اللغة العامية والمولدة وبيان لها، مع ذكر شواهد عنها من الموروث، أو هو بتوصيف أدق معجم لغوي جمع فيه الأعرجي ما أغفلته المعاجم الأخرى، فحري بنا أن نطلق عليه خاتمة المعاجم . ومما جاء في كلمة عدنان التي تصدرت الكتاب (وإذا كانت المعاجيم قد أخلت باستيعاب المستحدث من الدلالة فإن كتب الأدب والتاريخ والفلسفة وما إليها قد حفلت بالمستجد من معاني الكلمات، وبقي أن ينهض من يلتقط تلك المعاني المستحدثة، وقد تهيأ ذلك في محمد حسين الأعرجي إذ التقى لديه الأدب بالعلم) . ومن يتتبع الكتاب يجد الأعرجي قد تنبأ بموته القريب، فاختار (شذرات من العامي والمولد) عنوانا لكتابه ولم يطلق عليه عنوانا عاما من نحو (القاموس المحيط، أو كتاب العين، أو لسان العرب)، لأنه أدرك حتمية الأجل الذي لم يمهله كتابة جزء آخر للكتاب كما كان يأمل من الله . فشذرات تدل على المحدودية وإن كثرت وهذا ما جاء في مقدمة المؤلف (يجب علي القول الآن : إنني لا أبري الكتاب من أوهام أو نحوها من مواد فاتته، وأخرى أرجأها إلى جزء آخر، إن أنسأ الله في الأجل) . والمفارقة التي يحملها الكتاب في إهدائه إذ أهدى المرحوم الأعرجي كتابه إلى الطبيب الذي أجرى له العملية التي خلصته من الورم الخبيث في المرة الأولى بقوله (إلى الذي استلني من يدي أجلي، فأعانني على استئناف الحياة، إلى الجراح البارع أغاي دكتر : سيد بهزاد بوستي اعترافا بفضله الباذخ على صنيعته الذي ما يزال حيا يكتب) . ومن مواد الكتاب مفردة (ليش) التي قال فيها : (في ترجمة العز بن عبد السلام من طبقات المفسرين للداوودي قوله : ” وقال (عز الدين…) للرسول : ياولدي ليش تفعل هذا ؟ ….” أقول إن كلمة ليش مركبة من اللام، وأيش، وأصلها : لأي ؟ ويهمني منها أنها كثيرة الدوران على ألسنة العراقيين في عاميتهم، وإن العز (ت:660 هـ) كان من مستعمليها) . بقي أن نشير إلى أن غلاف الكتاب جاء مزينا بصفحات من مذكرات الأعرجي المخطوطة والحاوية على اشارات لهذا الكتاب . كما تجدر الإشارة إلى أن الأديب الشاعر حسين القاصد قدم هذا الكتاب إلى وزارة الثقافة لغرض طبعه وفاء منه لشيخه وشقيق روحه كما اعتاد أن يناديه .
رؤى جعفر
AZPPPL