شارع العدالة.. صورة مكان ـ عبد الله البدراني
اواه لو عادت الايام واسترجعت السنين ذكرياتها وتسابقت الليالي بحثا عن الذكرى واسترجعت الموصل عافيتها الربيعية الربيعينية وهدأت الاقدار المعصفة بكل شيء حتى في الورود. ارأيتم ورودا وزهوراً غادرت رياضها؟أرأيتم امواجا تبحث عن شاطيء تلوذ به؟ارايتم النوارس والطيور والبط الابيض والاسود تحلق فوق دجلة كل صباح وهي تتدافع للبحث عن لقمة تساعدها كي تطير وتحلق في سموات الله؟ اوفقتم برهة بالقرب من تمثال ابي تمام وهو يذرف اّخر دمعة لموت شقيقه في الفكر والابداع ابي العلاء المعري بعد ان وقع فريسة لافكار اخرى؟ هل وقفتم فوق رصيفي الجسر العتيق وامعنتم النظر في ملامحه العتيقة التي سٌكبت نطفته قبل ما يقارب قرن من الزمان وهو يختزل الصمود والتحدي لغابرات السنين وعاتيات الزمن؟
اليس من العدالة ان نخشع امام الجامع الكبير عندما يسبح بحمد الله وملائكته وكتبه ورسله ومنارته التي احدودبت ولا نعرف علمياً وفنياً سبب الاحديداب والانحناء؟. أرايتمباشطابيا وقره سراي وهما يحتضنان دجلة البهي الذي لا يهمه زمجرات المد وهدوء الجزر؟. اوقفتم ولو قدررمشة عين امام مقام سيدنا الخضر الياس الذي كساه الله سبحانه لباس التقوى والغياب؟.
اليس من العدالة ان نقرأ سطراً واحداً عن سنحاريب واشور وسور نينوى الذي فقد بياضه الاخضر وتلفع بملفع غيره؟.
اّن لنا ولكم ان ننحني اجلالا واكراما لنينوس وسميراميس الذين بنيا لبنة الحضارة في قلب هذه المدينة التي كتب عليها ان تبعث ثلاث مرات في العصر الاشوري الاول والثاني وفي مبعث الرسالة الاسلامية عندماحررها الخليفة الراشدي الثاني عمر بن الخطاب واضاء لها شمعة الاسلام.
اوووه.. ذهبت بعيدا عن الموضوع الام لحبي وغرامي وافتناني بهذه المدينة. سأرجع معكم الى شارع العدالة.
شارع العدالة طوله 300 متر رأسه يتوسد سوية شارع حلب على اريكة واحدة.
كان رمزا للعمل والأدب والفن رغم قصر مسافته كان في منتصف السبعينيات والى اواخر التسعينيات حلم الموصليين والزوار القادمين الذين يبداون به لينتهوا الى مراب باب الطوب وباب الطوب هذا هو قلب المدينة وهو احد ابواب الموصل السبعة التي يتفاخر بها الموصليون ومدينتهم. كان كتابا بحجم دواوين ابي تمام وابي العلاء كان سبيكة من الذهب بحجم سوق الصاغة الموصلي الذي لم يفقد رونقه لحد كتابة هذه السطور رغم الانفلات الامني الذي يحدث بين الفينة والاخرى كان بضاعة تهبها السماء لاهل الارض كانت الاصوات العندليبية تهزنا ونحن نصل الى اول خطوة من هذا الشارع اصوات كل المطربين القدامى الذين كانوا بيعثون لنا الحياة وينفثون سرها فينا وكنا نفطر باجمل مطاعمه ونحتسي قدح الشاي قبل ان يلقي الليل بكلكله ليتنفس الصباح كان فيه خيرة الفنادق والتي تغيرت ملامحها الان بتغير ساكنيها الكاولية والغجر كنا نحتضن كتب المرحلة المتوسطة والاعدادية انذاك بعد افطارنا لنقرأ ونتحاور وكنا الاوائل على غيرنا في العلم والادب والعلاقات الاجتماعية والحب. من يعيد لشارع العدالة مصابيحه وزيته؟ من يعيد له النفس الحقيقي الذي يشرح صدره؟ من يعيد له قامتة الفرعاء التي اوشكت على الانحناء ان لم اقل انها انحنت؟ لا اخفيكم سادتي انني سردت كل هذه الموجعات وكانت برفقتي ام عيالي التي صاحبتني في صباح هذا اليوم ونحن نلف شارع العدالة وباب الطوب والسراي والكورنيش والجسر العتيق ودجلة العظيم الذي حييناه بدمعتين صحراويتين ذهابا وايابا نعم حيينا الطيور والأمواج والموصل بكل بهائها وتاريخها اما انا فقد اغرورقت عيناي لاني لم اقدر على فعل شيء لان شارع العدالة يصرخ فيه في الصباح باعة البالة ويلعب فيه في المساء كرة القدم نفر من الكاولية والغجر والمكادي الذين سكنوا الفنادق التي كانت ناصعة في يوم ما اليس من حق دموعنا ان تهطل ولو مرة واحدة على تاريخ قد لا يعود ورغم ان بلدية الموصل مشكورة حاولت ترميمه ولكن باعة البالة والكاولية متفقان على تخريب هذا الترميم بأفعالهم المشينة وسلوكهم الجاف. وادري كما تدرون بان هؤلاء هم نفر من خلق الله ولهم حقوق انسانية وقانونية ومن حقهم ان يعيشوا ويستمتعوا بحياتهم ولكن ليس على حساب قدسية الآخرين وقدسية مدينة هم ليسوا منها اصلاً. وكما تعرفون بان الغجر وقد كتبت عنهم مقالاً سابقاً منشوراً في جريدة الزمان هم شريحة تختلف بطقوسها عن بقية الشرائح لها كيانها وهذا الكيان لا يتلاءم مع الكيانات الاخرى فهم لم يدمنوا الاستقرار او السكن كانت تعج بالسياح لانهم لا يحرصون على نظافة الاشياء والطرقات والشوارع والاجواء ولا يتقنون لغة العيش والتعايش مثلما يفعل الآخرون ولهذا يجب على الحكومة المحلية في نينوى ان تجد حلاً لهم فإما إبعادهم عن مركز المدينة الذي يعبثون فيه والذهاب بهم الى الاطراف أو بناء مخيمات لهم أو إرجاعهم الى احيائهم التي كانوا يقطنون فيها قبل أن يحل الخراب في البلد ويصبح الخوف هاجس الجميع والخوف وحده هو الذي حدا بهؤلاء أن يجتمعوا في مكان واحد. ثم كيف يقبل اصحاب الفنادق والمشرفون عليها ان يملأوا بهكذا عوائل وهم مشتركون في هذه المعضلة ومشتركون في إتيان مثل هؤلاء الناس الى مركز المدينة والى شارع العدالة بالذات.
لقد نسيت انني ذاهب الى عيادة السونار ليعلمني الطبيب كيف حال احشائي التي اختصرت سنين العمر في صباح واحد.
AZP09