شؤون نزار قباني الصغيرة
محفوظ داود سلمان
بغداد
كثيرا ما يتوحد الانسان بأشيائه الصغيرة او بممتلكاته المهملة ، او المفقودة او التي لا تثير انتباهه ولاسيما اذا كانت هذه الاشياء الصغيرة تعود لأحباء افتقدهم وقد يكون التوحد مع هذه الاشياء والحفاظ على ملكيتها نوعاً من التعويض وهي ظاهرة سيكولوجية اهتم علم النفس بدراستها ووضع لها رموزاً ومفردات.
وقد كتب نزار قباني قصيدة اسمها شؤون صغيرة حاول ان يفسر لنا لماذا هو يهتم بهذه الشؤون ويتوحد مع هذه الاشياء وهو يرى انها تساوي جميع حياته رغم ان الحبيبة لا تعيرها اهتماماً وانه يغزل منها حكايات وجزراً رغم كونها شؤوناً صغيرة وهو يسرد على لسان الحبيبة هذه الشؤون رغم ان الشاعر هو المعني بها وليس حبيبة الشاعر منها حالة كون الشاعر يمارس التدخين ويترك لها الاشياء الصغيرة رائحة التبغ وحطام السجائر وصحن الرماد ومنها الورود الجميلة التي يحملها الشاعر لها او نداؤه في الهاتف الذي يشبه سقوط الحلي . او استعارة كتاب من مكتبة الشاعر يضم عبارة حب قصيرة او حين يطوقها بذراعه في الطريق . فالشاعر في هذه القصيدة تستهويه الممارسات العابرة والشؤون الصغيرة وهو في هذه القصيدة كأنما ينظّر لها تنظيرا مقصوداً ويحولها الى مواد شعرية تدخل في بناء القصيدة وقد فعلها نزار قباني في ثلاث قصائد جميلة ومهمة من انجازه الشعري وهي قصائد رثاء افتقد في الاولى أباه ، وفي الثانية ابنه توفيق وفي الثالثة حبيبته بلقيس ، فحين يموت أبوه يقول مستنكراً موت أبيه ان أباه لايموت ولذلك يتوحد مع ممتلكات أبيه الصغيرة والحميمة والدافئة التي تجعل من أبيه حياً لا يموت وهذه الاشياء هي روائح رب وذكرى نبي ، ثم يجرد اشياءه او بقاياه وهي ركنه ، وجريدته وتبغه والمتكأ الذي يلوذ به ، وصحن الرماد وكوب القهوة بعد لم يشرب ونظارتاه ، وبقاياه في الزوايا وحديث الكؤوس في المشرب ، وهو يرى ان اباه مازال في ابنه وهو الشاعر لذلك لا بد يوما أن يعود.
اما حين يرثي ابنه توفيق فماذا يفعل نزار وهو وحيدٌ في شوارع لندن يجمع كل ثيابه ، ويلثم قمصانه العاطرات . ورسمه فوق جواز السفر ويتذكر انه كان صديق الخراف الصغيرة والعصافير ، ثم تثيره ذكريات القاهرة : السرير ومكان الجلوس ، ولوحاته وثوب القطن وشاي الصباح والزهور على الشرفات وكتب الطب وثوب الطبيب وهو يتساءل عما اذا كان سيرجع في اخر الصيف وكان في قصيدة أبي يعتقد ان اباه لم يمت . وقد جرد نزار في هذه القصيدة الممتلكات الشخصية لأبنه المفقود . اما في قصيدته بلقيس فلم يستطع الشاعر نزار قباني الخروج من هذا الاطار وهو الاتصال العضوي او الجدلي بأشياء الحبيبة وشؤونها الصغيرة فهو يخاطبها بشكل صريح ان التفاصيل الصغيرة تذبحه في علاقته بها ، ثم يسرد هذه التفاصيل بشكل منظم بأن لكل دبوس صغير قصة ، ولكل عقد قصتان ولملاقط الشعر امطارٌ من حنان . وانها اي الحبيبة تطلع من المرايا ، او من الخواتم ، او الشموع او من الكؤوس او النبيذ ثم يسرد مايسميه وجع المكان وهو متعلق بالحبيبة وجزء من شؤونها فلدينا مكان للتدخين ، وآخر للقراءة وهنا تمشط شعرها مثل نخلة ، او تدخل على الضيوف مثل سيف وهو يرفع هذه الملامح وهذه الاشياء الصغيرة التي كانت تمتلكها بلقيس الى مستوى آخر سياسي فهو يقول ان الخواتم هذه والاساور والمرايا والضفائر واللعب التي جردناها اعلاه كان العرب وهو يقصد النظام السياسي يأكلونها .
وحينما يدين النظام السياسي الذي آغتال بلقيس يخاطب المحققين بأنهم تقاسموا فيروز عينيها واخذوا خاتم عرسها ، وخطفوا شعرها الذهبي والورد والعنب في فمها ،
للشاعر نزار قباني إحساس حاد بالاشياء الصغيرة فهي جزء من حياته لايستطيع الخروج منها وهي بالتاكيد جزء من حياة الناس الذين يعشقهم ويتوحد بهم مثل الاب والابن والحبيبة وكأنهم جسد واحد وتبقى اشياؤهم وشؤونهم التي يسميها الصغيرة اشياء مهمة واساسية في حياته اليومية وهو يعترف في هذه القصائد بأهمية هذه الاشياء لذلك نراه يقدسها ويجملها ويجعلها معادلاً اساسياً او موضوعياً للحياة اليومية التي يعيشها فهو منها يطل كأنها نوافذ تضيء صورة الناس الذين احبهم وعاش معهم ولم تكن هذه المفردات او الاشياء الصغيرة ترد على ذاكرته عندما يرثي شخصاً مثل جمال عبد الناصر او يحاور في مرثية شخصا مثل طه حسين لكنه قد يتذكر بعضها عندما يتعلق الأمر بطفولته في دمشق فيستذكر الحبر والطبشور او صوره على الحيطان ولعبه المكسورة ويستعيد كل هذه الاشياء الصغيرة في رسائل خمس الى امي . أو حين يعود لاحقاً الى دمشق ويستذكر الظواهر الطفولية الصغيرة .
ولهذه التفاصيل الصغيرة التي تستولي على المشهد الشعري لنزار قباني وتمتلئ بها مخيلته جذور سابقة في قصائده وهي طريقته في تأثيث غرف النوم التي يرتادها فهو معني بجرد هذا الاثاث او استحضاره الى سطح القصيدة او تأثيث غرفة النوم وهذا يشير الى ان نزار قباني معني بالظواهر الشكلية او المظهرية واستعارتها في بناء القصيدة او تجميلها وقد يحلو للبعض ان يتهم نزار قباني بانه رجل برجوازي يهتم بالمظاهر الخارجية او أنه كما يقول فبلن عالم الاجتماع وصاحب نظرية الطبقة الفراغية واحيانا يسمونها المترفة بان هذه الطبقة نظراً لما تشعر به من فراغ اجتماعي او فكري تلاحق الظواهر الشكلية والممتلكات المادية والتطور الذي يطرأ عليها كون هذه الطبقة هي التي تصدر هذه الظواهر الى الطبقات الدنيا في المجتمع وتنقل اليها ثقافتها وتقاليدها ، وهذا الاهتمام في القصيدة بتأثيث غرف النوم يتضح منذ ديوان نزار الاول حيث وردت قصيدة باسم غرفتها ومنذ المطلع يفاجئنا الشاعر بان الحجرة زرقاء وانه يمسح المهد الذي ينام عليه وهناك منديلها الخمري وعطرها ورسالتها وخصلة من شعرها على الفراش فهذه الجزئيات هي بدايات دخوله الى غرفة النوم . وعندما يحل الشتاء لا ينسى موقد النار او حركة الستائر ، وذهول لوحة الجدار ،
وفي قصيدته الشهيرة البغي يرسم لنا المشهد الخارجي لغرفة المومس حيث القنديل نازف الشريان ، والغرف ضيقة وموبوءة وهو مشهد شكلي للمبغى العام لم يدخله نزار قباني ولم يعرض لنا الاسباب الموضوعية لهذه المأساة الاجتماعية وسبق ان نشرنا مقالا عن هذا الموضوع قلنا فيه ان نزار قباني رسم المظهر الشكلي الخارجي للمبغى العام بينما بدر شاكر السياب دخل المبغى الى الداخل ودرس الشروط الموضوعية لظاهرة البغاء وعلاقة ذلك بالاستعمار البريطاني و بالاقطاع والهجرة الى المدينة واستثمار النفط لانارة غرفة المومس العمياء من أجل عابرين لا تبصر هي هذا الضوء بينما كانت الشاعر نازك الملائكة في قصيدتها غسلا للعار قد قتلت البغي قبل ان تدخل الى المبنى .
وفي ديوانه طفولة نهد نقرأ قصيدة اسمها : غرفة يتحدث فيها عن جدران تروي الهوى ، واشياؤها الانثى منثورة وهي دورق العبير والوشاح والعقد والسوار والخاتم وهناك منديل في الركن واثواب لكل المواسم وقميص أحمر لا يقاوم وثوب فاقع واخر قاتم فهذه الاشياء الصغيرة تستحوذ عليه رغم ان الحبيبة موجودة ولكن الشاعر تثيره صورتها التي تلفها البراعم ، وعندما يزور أمراة يؤثث غرفتها بالشكل التالي :ـ كل ما فيها معطر لكن الموقد يبكي والرسوم تشتهي ويندى المقعد وحتى يكتمل ديكور هذه الغرفة فهناك شمعة مسلولة وهناك العقد فوق نهديها وشعرها مبدد ، واذا انتقلنا الى ديوانه الرسم بالكلمات نقرأ قصيدة ماذا اقول له ففي هذه القصيدة يستذكر على لسان الحبيبة ما يسميه أشياؤه الصغرى فهي تشبه شؤونه الصغيرة السابقة ، والتفاصيل الصغيرة في قصيدة بلقيس فماهي هذه الاشياء الصغرى التي تعذبه وكيف ينجو منها على حد تعبيره وهي : هنا كتاب قرأناه معا ، بعض السجائر على المقعد ، وفي الزوايا بقايا من بقاياه ، وهناك المرآة . وهناك جريدته في الركن مهملة ، ان لنزار شغفاً بالشؤون الصغيرة ذات العلاقة بشخصه والاشياء الصغيرة التي تثير المرأة من رؤيته الخاصة وكذلك ممتلكاتها وهي التي تسيطر على جميع شعر نزار قباني وكأن مافي غرفة النوم او مافي خزانة الثياب هو خلاصة شعر نزار قباني جميعه وجذوره الاولى التي اصبحت فيما بعد تنتشر في جميع مجموعاته الشعرية . وطبعا يمكن للناقد ان يستفيد من علم النفس في تفسير هذه الظواهر ولعلها صورة واضحة من نرجسية نزار قباني .