سيّدة المشهد السياسي والعسكري

الفوضى الخلاّقة في العراق

سيّدة المشهد السياسي والعسكري

سامي الزبيدي

القرار الذي اتخذه الحاكم المدني الأمريكي للعراق بعد الاحتلال بول بريمر والذي اعتبرته بعض الدوائر الأمريكية أنه خطأً ستراتيجياً فيما بعد هو في حقيقة الأمر لم يكن خطاً بل كان مخططاً له بعناية لان إدارة كالإدارة الأمريكية التي يعمل في أقبيتها ودهاليزها ومعاهدها ومراكز أبحاثها خيرة الخبراء العسكريين والسياسيين والستراتيجيين لا يمكن أن تخطا خطاً ستراتيجياً كهذا ولو نسلم أنها أخطأت فعلاً فهل تعزز خطأها بخطأ أخر أم تعمل على تصحيحه ، إن الإدارة الأمريكية عززت قرارها و ما سمي بخطئها هذا بقرار أخر أكثر خطورةً منه وهو قرار دمج الميليشيات في الجيش الجديد والقوات الأمنية التي شكلتها بعد حل الجيش العراقي .                  إن الإدارة الأمريكية كانت تخطط بعناية كي لا يكون للعراق جيشاً قوياً كما كان قبل الاحتلال يمكن أن يهدد مصالحها ومصالح إسرائيل في المنطقة  من جديد لهذا قامت بحل الجيش السابق ثم عملت على تأسيس جيش جديد قوامه الميليشيات وضباط الدمج والضباط المطرودين من الجيش السابق لعدم كفاءتهم أو ممن هربوا إلى إيران خلال الحرب الإيرانية_ العراقية 1980_1988 كما أنشأت بعض المراكز  والمعاهد التدريبية لتدريب منتسبي هذا الجيش لا تتوفر فيها أهم معايير المعاهد والمؤسسات التدريبية وهي المعلمين الأكفاء والقاعدة المادية الجيدة ومنحت الرتب العسكرية  وحتى العالية منها جزافاً إلى أشخاص لا يملكون مؤهلات علمية أو أكاديمية كما منحت شارة وشهادة الأركان إلى ضباط  لا تتوفر فيهم أبسط مقومات ضابط الركن تبوأوا لاحقاً قيادة الفرق وقيادة العمليات التي تعادل قيادة فيلق وللمتابع أن يتخيل جيشاً يقوده قادة وضباط بهذا المستوى كيف تكون نتائج عملياته ومعاركه وكيف يكون مستوى انضباطه،  والمشكلة الكبرى إن الأمريكان اعتمدوا في تشكيل وزارة الدفاع ورئاسة أركان الجيش على ضباط تنقصهم الخبرة والتجربة وتنقصهم الموصفات القيادية قبل ذلك فرئيس أركان الجيش ومعاونوه وضباط الركن في رئاسة أركان الجيش وضباط ركن وزارة الدفاع غير مؤهلين لإشغال مثل هذه المناصب المهمة  التي تحتاج إلى موصفات خاصة إضافةً إلى التدرج في الرتب والمناصب زائداً الخبرة والتجربة والممارسة، فهل بعد هذا كله يخرج علينا من يقول أن أمريكا أخطأت في حل الجيش السابق وأنها تسعى لبناء جيش جديد،  والحقيقة إن أمريكا لم ولن تخطأ أبداً لكن الأمور تجري وفق ما مخطط لها بعناية وبمراحل والغاية من هذا كله هو تحقيق نظرية الفوضى الخلاقة التي أعلنتها الإدارة الأمريكية قبل وبعد احتلالها العراق عام 2003 عبر استنزاف طاقات وقدرات العراق المادية والبشرية وإبقاء العراق متخلفاً مفككاً ضعيفاً مشغولاً بصراعات سياسية محمومة على المناصب والكراسي وصراع طائفي دمر نسيج المجتمع العراقي المتماسك ووحدته الوطنية وبمعارك وحروب عبثية لا طائل منها إلا الخسائر البشرية الكبيرة  المتمثلة في أكثر من مليون شهيد من أبناء هذا الشعب المظلوم غير الجرحى والمعاقين والمشردين والمهجرين والنازحين إضافةً إلى نهب و حرق  أمواله وثرواته وتدمير مدنه ومنشأته وبناه التحتية .هذا هو الهدف الكبير والخطير من احتلال العراق فلا أخطاء إستراتيجية ولا عملية سياسية ولا ديمقراطية ولا حياة ولا حرية ولا بناء ولا أعمار ولا خدمات إنما قتل وانفجارات واغتيالات وحرب طائفية وميليشيات متنفذة ونزيف دماء لا يتوقف وإزهاق أرواح بريئة بدون رحمة وتهجير ونزوح آلاف العوائل عن مدنها ومنازلها في أوضاع إنسانية غاية في الصعوبة وتعطيل للحياة بكل أشكالها وصورها والاستحواذ على نفط العراق عبر التراخيص التي منحت للشركات الأمريكية والغربية واستنزاف أمواله في شراء الأسلحة والتجهيزات والآليات والمعدات وحرقها في معارك وحروب داخلية طائفية لا نتيجة ترجى منها غير تدمير الشعب العراقي وتفكيك عرى وحدته الوطنية وابقائه متخلفاً عن ركب العالم الذي يشهد قفزات كبيرة في التطور والتقدم في شتى مجالات الحياة . وهناك هدف أخر مهم يسعى الأمريكان تحقيقه الآن وهو عودة التواجد العسكري الأمريكي إلى العراق بعد أن أجبرت قواته على الخروج منه عبر لعبة داعش صنيعة المخابرات الأمريكية والبريطانية والإسرائيلية التي هيئوا لها الظروف والإمكانيات واختاروا لها الزمان والمكان المناسبين لتعمل عملها وجرائمها البشعة ضد أبناء شعبنا المغلوب على أمره بعد أن تمكنت من احتلال العديد من مدنه ومناطقه في عملية لم تكشف خفاياها السياسية والعسكرية حتى الآن،  فكان التحالف الجديد الغير متجانس (أمريكي _ غربي_ عربي ) لطرد داعش من العراق وسوريا بعد أن استخدموه  كورقة رابحة و حققوا غايتهم وهدفهم المهم و هو التواجد العسكري في العراق من خلال ما أسموهم الخبراء العسكريين أولاً بعد احتلال داعش للموصل وصلاح الدين ثم وحدات الكوماندوز التي وصلت بغداد وأربيل بعد تمدد داعش في سنجار وسهل نينوى وتهديدها لاربيل،  وبعد ذلك وصول الطائرات الحربية الأمريكية إلى قواعد عسكرية في أربيل وتهيئة قواعد أخرى في بغداد كل هذا لتدمير وطرد داعش من العراق وحتى من سوريا ، هذه هي الغاية من لعبة داعش وهذه هي الفوضى الخلاقة التي لم تتوقف عنها أمريكا  قبل أن تحقق الأهداف المرسومة لها فهل استوعب سياسيونا الجدد  وحكومتنا الجديدة الدرس جيداً  والذي لم يستوعبه سلفهم  ؟ فالأوضاع الأمنية التي ظلت متردية طيلة أحد عشر عاماً والتي تسببت في قتل مئات آلاف الأبرياء وتدمير الممتلكات العامة والخاصة واستفحال نفوذ الميليشيات وجرائمها الطائفية،  فكل جرائم عصابات القتل والخطف والاغتيالات والسرقات الكبرى وكل المعارك والاقتتال بين العراقيين وكل حرائق المدن والبساتين والمزارع ، وكل أعمال التهجير الطائفي ، وكل مآسي النازحين ومعاناتهم وكل نزيف الدم العراقي الذي لم يتوقف ، وكل الصراع القومي والطائفي الذي دمر نسيج المجتمع العراقي ولحمته ووحدته الوطنية ، وكل الصراع السياسي المحموم على المناصب والكراسي والامتيازات والمنافع وكل السرقات الكبرى للمال العام وسوء الخدمات والفقر والجوع والأمراض التي يعاني منها الشعب،  كل هذه المآسي والكوارث والمصائب التي حلت بشعبنا ما هي إلا نتائج وافرازات سياسة الفوضى الخلاقة التي أدخلها الأمريكان مع أول جندي وطأت أقدامه أرض العراق الطاهرة وما زالت تعمل عملها إلى يومنا هذا وفق تخطيط دقيق وسيناريو معد أفضل إعداد فلا أخطاء ستراتيجية كما يروج البعض ومنهم أمريكان ولا هفوات ارتكبها بعض الأمريكان ولا تصرفات شخصية من قبل بريمر وغيره  إنما هي سياسة ومصالح كبرى وأهداف ستراتيجية تنفذ وفق تكتيكات مرحلية لكل مرحلة تكتيكها الخاص وما داعش واحتلالها للموصل وصلاح الدين ومناطق أخرى وقبل ذلك العمليات العسكرية في الانباروالفلوجة إلا مرحلة من مراحل الـــــفوضى الخلاقة .