سيرك بغداد..مذكرات دبلوماسي عراقي عن الحرب والسلام

روما‭ – ‬عدنان‭ ‬أبوزيد‭ 

صدر‭ ‬كتاب‭ (‬سيرك‭ ‬بغداد‭) ‬للدبلوماسي‭ ‬العراقي‭ ‬زيد‭ ‬العاني،‭ ‬يتناول‭ ‬فيه‭ ‬أحداثا‭ ‬ميدانية‭ ‬عاشها‭ ‬الكاتب‭ ‬بنفسه،‭ ‬تفسر‭ ‬الوضع‭ ‬السياسي‭ ‬والاجتماعي‭ ‬في‭ ‬العراق‭ ‬قبل‭ ‬وبعد‭ ‬حرب‭ ‬2003‭ ‬ومن‭ ‬خلال‭ ‬قصص‭ ‬عفوية‭ ‬تتضمن‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الحقائق‭ ‬التي‭ ‬عاشها‭ ‬الكاتب‭ ‬مع‭ ‬تجربة‭ ‬العراق‭ ‬الجديد‭.  ‬اختار‭ ‬الكاتب‭ ‬اسم‭ ‬‮«‬سيرك‭ ‬بغداد‮»‬‭ ‬لكتابه‭ ‬في‭ ‬جزئه‭ ‬الاول،‭ ‬في‭ ‬تعبير‭ ‬عن‭ ‬الاستعراض‭ ‬التراجيدي‭ ‬الذي‭ ‬يكشف‭ ‬عن‭ ‬المهزلة‭ ‬البشرية‭ ‬التي‭ ‬وجد‭  ‬الكاتب‭ ‬فيها‭ ‬نفسه‭ ‬كمتفرج‭ ‬ينقل‭ ‬الاحداث‭ ‬كما‭ ‬رأتها‭ ‬عيناه‭.  ‬و‭ ‬زيد‭ ‬العاني‭ ‬دبلوماسي‭ ‬عراقي‭ ‬يعمل‭ ‬في‭ ‬وزارة‭ ‬الخارجية‭ ‬العراقية‭ ‬منذ‭ ‬العام‭ ‬2000،‭ ‬ولديه‭ ‬اهتمامات‭ ‬اخرى‭ ‬منها‭ (‬الكتابة‭ ‬والرسم‭)‬،‭ ‬وشارك‭ ‬سابقا‭ ‬في‭ ‬معارض‭ ‬في‭ ‬بغداد‭ ‬ودول‭ ‬عربية‭ ‬واوربية‭. ‬

يعتقد‭ ‬العاني‭ ‬في‭ ‬حديثه‭ ‬لـ‭ ‬الزمان،‭ ‬إن‭ ‬‮«‬الكتاب‭ ‬يوثق‭ ‬مرحلة‭ ‬يحاكي‭ ‬فيها‭ ‬حياة‭ ‬جيل‭ ‬عراقي‭ ‬عاش‭ ‬فترات‭ ‬هي‭ ‬الأصعب‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬العراق‭ ‬المعاصر،‭ ‬فيها‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬جاد‭ ‬ورصين،‭ ‬وكذلك‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬ساخر‭ ‬وطريف،‭ ‬وتشمل‭ ‬جوانب‭ ‬اجتماعية‭ ‬وتاريخية‭ ‬وسياسية‭ ‬تعكس‭ ‬واقع‭ ‬العراق‭ ‬قبل‭ ‬وبعد‭ ‬حرب‭ ‬2003‭ ‬‮«‬‭.  ‬والكتاب‭ ‬هو‭ ‬نتاج‭ ‬دبلوماسي،‭ ‬يحمل‭ ‬معاناة‭ ‬شخص‭ ‬متعدد‭ ‬الثقافات،‭ ‬امضي‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬حياته‭ ‬في‭ ‬بلدان‭ ‬مختلفة،‭ ‬بسبب‭ ‬طبيعة‭ ‬والده‭ ‬المهني،‭ ‬وهو‭ ‬أمر‭ ‬منحه‭ ‬الانفتاح‭ ‬على‭ ‬ثقافات‭ ‬العالم،‭ ‬وتعلم‭ ‬اللغات‭ ‬الأجنبية‭ ‬وتقبل‭ ‬ثقافات‭ ‬المجتمعات‭ ‬المختلفة‭.  ‬ويحرص‭ ‬العاني‭ ‬على‭ ‬القول‭ ‬لـ‭ ‬الزمان‭ ‬إن‭ ‬‮«‬الكتاب‭ ‬لم‭ ‬يسئ‭ ‬لأي‭ ‬شخص‭ ‬كان،‭ ‬بل‭ ‬كان‭ ‬اميناً‭ ‬وصريحاً‭ ‬في‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬المواقف‭ ‬والامور‭ ‬التي‭ ‬عاصرها‭ ‬سواء‭ ‬على‭ ‬الصعيد‭ ‬المهني‭ ‬او‭ ‬الشخصي،‭ ‬والتي‭ ‬تتطلب‭ ‬الشجاعة‭ ‬والجراءة‭ ‬لتوثيقها‭ ‬بكل‭ ‬صدق‭ ‬وامانة‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬النظام‭ ‬السابق‭ ‬والعراق‭ ‬الجديد‭ ‬بعد‭ ‬العام‭ ‬2003‮»‬،‭ ‬معتبرا‭ ‬إن‭ ‬‮«‬فيها‭ ‬مكانه‭ ‬كبيرة‭ ‬للجانب‭ ‬الانساني‭ ‬ومعتقداته‭ ‬الشخصية‭ ‬في‭ ‬التسامح‭ ‬وروح‭ ‬المواطنة‮»‬‭. ‬

وفي‭ ‬فصل‭ ‬من‭ ‬الكتاب‭ ‬نقرأ‭ ‬عن‭ ‬لحظات‭ ‬القصف‭ ‬الأمريكي‭ ‬على‭ ‬العراق،‭ ‬العام‭ ‬‮٢٠٠٣‬‭: ‬‮«‬في‭ ‬اليوم‭ ‬التالي‭ ‬شنت‭ ‬قوات‭ ‬التحالف‭ ‬غارات‭ ‬كثيفة‭ ‬أخرى‭ ‬على‭ ‬بغداد،‭ ‬بدأت‭ ‬في‭ ‬الساعة‭ ‬الحادية‭ ‬عشرة‭ ‬ليلاً،‭ ‬واستمرت‭ ‬حتى‭ ‬ساعات‭ ‬الفجر‭ ‬الأولى،‭ ‬لكن‭ ‬هذه‭ ‬المرة‭ ‬كانت‭ ‬أكثر‭ ‬شدة‭ ‬من‭ ‬الليلة‭ ‬التي‭ ‬سبقتها،‭ ‬إذ‭ ‬سيطرت‭ ‬على‭ ‬سماء‭ ‬بغداد‭ ‬باكملها‭. ‬تملكنا‭ ‬الخوف‭ ‬أنا‭ ‬وأخي‭ ‬الذي‭ ‬بدأت‭ ‬أعصابه‭ ‬تنهار‭ ‬شيئاً‭ ‬فشيئاً‭ ‬من‭ ‬وحشية‭ ‬قصف‭ ‬الطائرات‭ ‬الأمريكية،‭ ‬إنها‭ ‬حرب‭ ‬نفسية،‭ ‬كنت‭ ‬أقول‭ ‬له‭ (‬مواسياً،‭ ‬وفي‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬مشجعاً‭) ‬تخيل‭ ‬أنها‭ ‬إطلاقات‭ ‬لألعاب‭ ‬نارية‭ ‬وسوف‭ ‬لن‭ ‬تؤذيك‭. ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أنني‭ ‬كنت‭ ‬خائفاً‭ ‬أكثر‭ ‬منه،‭ ‬لكنني‭ ‬كنت‭ ‬أقاوم‭ ‬الخوف‭ ‬الذي‭ ‬يريد‭ ‬ان‭ ‬ينفجر‭ ‬في‭ ‬داخلي‭ ‬بعدما‭ ‬فرض‭ ‬سيطرته‭ ‬عليّ‭ ‬ايضاً،‭ ‬إلا‭ ‬ان‭ ‬الله‭ ‬ألهمني‭ ‬شيئاً‭ ‬من‭ ‬رباطة‭ ‬الجأش‭ ‬عندما‭ ‬شاهدت‭ ‬أخي‭ ‬بتلك‭ ‬الحالة‭. ‬فمنذ‭ ‬سنين‭ ‬اعتاد‭ ‬العراقيون‭ ‬على‭ ‬ليالي‭ ‬القصف‭ ‬والقنابل‭ ‬التي‭ ‬تتساقط‭ ‬فوق‭ ‬رؤوسهم،‭ ‬ولكن‭ ‬تلك‭ ‬الليلة‭ ‬لم‭ ‬تمر‭ ‬مثلها‭ ‬على‭ ‬العراقيين‭ ‬أبداً‭. ‬كما‭ ‬لو‭ ‬أنها‭ ‬لعنات‭ ‬تنزل‭ ‬عليهم‭ ‬من‭ ‬السماء‮»‬‭. ‬

وفي‭ ‬فصل‭ ‬آخر،‭ ‬يسرد‭ ‬العاني‭ ‬بكلمات‭ ‬الشوق‭ ‬إلى‭ ‬العراق‭ ‬والاعتزاز‭ ‬بتأريخه‭: ‬‮«‬تجربة‭ ‬صعبة‭ ‬عشتها،‭ ‬كانت‭ ‬أفكاري‭ ‬وخياراتي‭ ‬فيها‭ ‬غير‭ ‬مستقرة،‭ ‬أصبحت‭ ‬متردداً،‭ ‬هل‭ ‬أضحي‭ ‬بمستقبلي‭ ‬العملي‭ ‬أم‭ ‬أضحي‭ ‬بحياتي‭ ‬العاطفية‭. ‬كان‭ ‬صديقي‭ ‬باسكال‭ ‬على‭ ‬علم‭ ‬بالظروف‭ ‬التي‭ ‬كنت‭ ‬أمر‭ ‬بها‭ ‬كونه‭ ‬الصديق‭ ‬المقرب‭ ‬وعلى‭ ‬دراية‭ ‬بتلك‭ ‬العلاقة،‭ ‬وعندما‭ ‬رآني‭ ‬في‭ ‬حيرة‭ ‬من‭ ‬أمري،‭ ‬وعليَّ‭ ‬ان‭ ‬اتخذ‭ ‬قراراً‭ ‬مصيرياً،‭ ‬عرض‭ ‬عليّ‭ ‬الذهاب‭ ‬الى‭ ‬العاصمة‭ ‬برلين‭ ‬قبل‭ ‬مغادرتي‭ ‬الى‭ ‬العراق،‭ ‬وذلك‭ ‬بهدف‭ ‬تغيير‭ ‬الأجواء‭ ‬قبل‭ ‬إلتحاقي‭ ‬بعملي‭ ‬بمقر‭ ‬وزارة‭ ‬الخارجية‭ ‬في‭ ‬بغداد‭. ‬ذهبت‭ ‬معه‭ ‬الى‭ ‬برلين،‭ ‬وعند‭ ‬زيارتنا‭ ‬متحف‭ (‬Pergamon‭)‬،‭ ‬أدهشتني‭ ‬ضخامة‭ ‬وجمال‭ ‬بوابة‭ ‬عشتار‭ ‬التي‭ ‬استولى‭ ‬عليها‭ ‬الألمان‭ ‬في‭ ‬عهد‭ ‬الدولة‭ ‬العثمانية‭. ‬عند‭ ‬وقوفي‭ ‬أمام‭ ‬البوابة‭ ‬جعلني‭ ‬المنظر‭ ‬أدرك‭ ‬أنني‭ ‬أمام‭ ‬آية‭ ‬من‭ ‬آيات‭ ‬الإبداع‭ ‬في‭ ‬الفن‭ ‬المعماري،‭ ‬كانت‭ ‬البوابة‭ ‬جميلة‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬الذهول،‭ ‬مكسوة‭ ‬بأكملها‭ ‬بسيراميك‭ ‬ملون‭ ‬مازالت‭ ‬ألوانه‭ ‬تحتفظ‭ ‬ببريقها،‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬أنها‭ ‬بنيت‭ ‬بالأمس‭ ‬لا‭ ‬من‭ ‬آلاف‭ ‬السنين،‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬انّ‭ ‬الارتفاع‭ ‬الهائل‭ ‬وضخامة‭ ‬البوابة‭ ‬جعلني‭ ‬اشعر‭ ‬برهبة‭ ‬لعظمة‭ ‬تاريخنا،‭ ‬فانهارت‭ ‬الدموع‭ ‬من‭ ‬عينيّ‭ ‬فجأة،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬بمقدوري‭ ‬التحكم‭ ‬بها‮»‬‭.  

مشاركة