سياسة تركيا الخارجية

سياسة تركيا الخارجية
معمر خولي
أدركت تركيا لذاتها في ظل حكومة العدالة والتنمية التي وصلت الى السلطة في 19 تشرين الثاني عام 2002م، بأنها لم تعد الدولة الطرفية بالنسبة للدول الغربية كما كانت عليه في أثناء الحرب الباردة، ولا دولة جسرية كما أعيد تعريفها من قبلهم في تسعينيات القرن الماضي، فالاطار الذي رسمته الدول الغربية لتركيا في المرحلتين السابقتين، جعلتها تنتهج على مستوى سياستها الخارجية دبلوماسية تقليدية قوامها دبلوماسية الحفاظ على الوضع القائم ؛ لتجنب المشكلات مع الدول المجاورة، فهي لم تكن مكترثة في ايجاد الحلول لها. ولكن الأمر تغير كثيراً في ظل حكومة العدالة والتنمية التي ألقِيَ على عاتقها مهمة اعادة تعريف تركيا تعريفاً دقيقاً. فهي تمتلك من المقومات الجغرافية والتاريخية والثقافية والاستراتيجية والبشرية والاقتصادية، ما يؤهلها بجدارة لتكون دولة مركز ، بمعنى حضورها المستمر والفاعل فيما يجري ــ وسيجري ــ من تفاعلات سياسية واقتصادية وثقافية في بيئتها الاقليمية.ولتحقيق تلك الرؤية، ارتكزت السياسة الخارجية التركية لحكومة العدالة والتنمية على دبلوماسية متعددة الأبعاد تستند على السياسة والثقافة والاقتصاد.
فعلى المستوى السياسي، ولكي تضطلع به كان عليها اعادة ترتيب شؤونها الداخلية وجوارها المباشر، فقد أولت حكومة العدالة والتنمية أهمية كبيرة في تسوية المشكلة الكردية وتعميق مسار الاصلاحات الديمقراطية على نحو يعيد الحقوق الثقافية والسياسية ليس للأكراد فحسب، بل لكل الأقليات الأخرى في الداخل التركي.
أما عن حالة العلاقات مع دول الجوار فقد أكد رئيس وزراء تركيا رجب طيب أردوغان على أهمية السعي الى التغيير وأهمية مبدأ السبق بخطوة واحدة ، الذي أكد عليه أيضا وزير خارجيته أحمد داوود اوغلو . وعلى هذا الأساس، تراجعت تركيا عن مبدأ المباراة الصفرية في دبلوماسيتها، ليحل مكانه مبدأ المكاسب المشتركة الذي يحقق الفائدة للدولتين أو للدول، وانسجاماً مع المبدأ الجديد استأنفت تركيا علاقاتها الدبلوماسية مع أرمينيا، وعملت بجهد كبير لتسوية المشكلة القبرصية. ولتعزيز مكانة تركيا الاقليمية كدولة مركز، تبنت حكومة العدالة والتنمية مبدأ خفض المشكلات مع دول الجوار الى نقطة الصفر ، وعملياً فقد كان هذا المبدأ أقرب الى الفلسفة السياسية منه الى عالم السياسة لأنه يهدف الى انهاء المشكلات بشكل نهائي وليس خفضها، ولعل تقدم علاقاتها السياسية مع كل من سوريا ــ التي تراجعت بشكل ملحوظ على أثر الانتفاضة الشعبية فيها ــ والعراق وايران، دليل واضح على تفعيلها. ولا يختزل هذا البعد جهد تركيا في معالجة مشكلاتها على مستوى علاقاتها الثنائية، وانما يمتد أيضا على المستوى الاقليمي، فهو يؤكد على أهمية التفاوض والحوار اللذين من شأنهما تقريب وجهات النظر وحل الأزمات بين الدول وبين القوى السياسية في اطار الدولة الواحدة.
فعلى الجانب الأول، رعت تركيا مفاوضات السلام غير المباشرة بين سورية ــ قبل الانتفاضة السورية ــ والكيان الصهيوني، وبينه وبين السلطة الوطنية الفلسطينية، وبين ايران والاتحاد الأوربي والجماعة الدولية بشأن ملفها النووي ــ الذي سترعاه بغداد قريباً بسبب تباين الموقف الايراني عن التركي في أحداث الجارية في سوريا ــ، أما على الجانب الثاني، شجعت سنة العراق على المشاركة في العملية السياسية منذ عام 2005م. ونجاحها في الوساطة بين التيارات السياسية المختلفة في لبنان في مرحلة ما بعد عدوان الصهيوني 12 تموز 14 آب 2006م عليه.
وانطلاقاً من هذا الدور المنفتح ــ على القضايا الاقليمية ــ الذي يرفض سياسة الحصار والاقصاء التي تفرضها الدولة العظمى والدول الكبرى على الدول والحركات السياسية المناوئة لسياساتها، فعلى سبيل المثال رفضت تركيا الحصار الذي فرضته ــ ولايزال مفروضا ــ الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها سواء كانوا دولا أو فاعلين من غير الدول على حركة حماس منذ فوزها بالانتخابات التشريعية الفلسطينية التي أجريت في 25 كانون الثاني عام 2006م، مدركة بأن مخرجات الحصار ليس الا مزيدا من تفاقم حالة عدم الاستقرار الاقليمي. كما يرفض أيضا سياسة المحاور التي تسعى الى تقسيم منطقة الشرق الأوسط على أساس مذهبي، ويلاحظ أنه عندما يحل رسميون أتراك في دول تعاني أزمات داخلية، مثل لبنان أو أفغانستان أو باكستان، فان كل الأطراف يبدون ترحيبا للتعامل معهم. وما من دولة مثل تركيا في الشرق الأوسط يرحب بها في السعودية ومصر وسوريا وايران وروسيا
فهي الدولة التي تكاد أن تكون الوحيدة التي تتمتع بقنوات اتصال مع القيادات كافة في منطقة الشرق الأوسط سواء على مستوى الدول أو الفاعلين من غير الدول. ومرد ذلك يعود الى وعي القيادة التركية الى مصالحها المختلفة لدى كلا المحوريين لذلك ابتعدت عن استقطاباته. أما على المستوى الثقافي تبنت حكومة العدالة والتنمية دورا ثقافيا تعاونيا ذو بعدا عالميا، حيث يركز هذا الدور على العناصر الاستيعابية في الحضارات بدلا من العناصر الاقصائية القائمة على استبعاد الآخر. فتركيا بما تمتلكه من وعيٍ بتراثها الثقافي في مجال التعايش السلمي، كونها من الناحية التاريخية احدى مواطن التفاعلات بين الحضارات، وعضواً داخل ثقافات وتقاليد ومؤسسات الغرب لما يقرب من القرنين، مرشحة للقيام بدور محوري في تعزيز الحوار والتلاقي بين الحضارات. ولصدق هذا التوجه وافقت الحكومة التركية في تموز 2005م، على طلب أسبانيا لرعاية مبادرة تحالف الحضارات ، مبينة في الاجتماع الأول لممثلي تحالف الحضارات في أسبانيا في تشرين الثاني 2005م، أن القضاء على الارهاب لن يتحقق الا بالتحالف بين الحضارات، وازالة الصفات الدينية عن الارهاب، حيث أن جميع الأديان ترفض الارهاب. فالتحالف بينها يجب أن تعبر عنه سياسات وتحركات فعلية وملموسة، ولا ينبغي أن يبنى فقط على الأفكار. وترويجا لتحالف الحضارات عملت الحكومة التركية على ابراز أهميته في مختلف المحافل الدولية، سواء كان في اطار اقليمي قومي كالقمة العربية التي انعقدت في العاصمة السودانية الخرطوم في مارس عام2006م، أو في اطار اسلامي، كالاتحاد البرلماني لدول منظمة المؤتمر الاسلامي الذي انعقد في العاصمة التركية أنقرة في نيسان عام 2006م، أو العالمي.
كالمنتدى الاقتصاد العالمي للشرق الأوسط المنعقد في شرم الشيخ في آيار عام 2006م، أو في الاطار الأممي، كالجمعية العامة للأمم المتحدة في كانون الأول عام 2006م، أو في الاطار القاري كالقمة الأفريقية المنعقدة في العاصمة الأثيوبية أديس بابا في كانون الثاني عام 2007م. ففي كل تلك المحافل أكد رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوجان على مسؤولية دولته في التقريب بين الثقافات بحكم عمقها الجغرافي والتاريخي وسياستها الخارجية المتعدد الأبعاد، وارتكازها على التحديث والتعددية والديمقراطية وحكم القانون واحترام حقوق الانسان والحريات الأساسية على مستوى السياسة الداخلية.
أما على المستوى الاقتصادي اهتمت حكومة العدالة والتنمية بالبعد الاقتصادي، باعتبار أن تعزيز علاقات تركيا الاقتصادية بالعالم، مع تنويع هذه العلاقات، هو السبيل لتعزيز مكانتها، فالتعاون الاقتصادي من وجهة نظر رجب طيب أردوجان يعد الوسيلة الناجعة في معالجة الخلافات و تحقيق التكامل الاقتصادي، وهو موجه السياسة وليس العكس كما يرى.
وبشكل عام، يمكن التمييز بين دورين اقتصاديين أساسيين لحكومة العدالة والتنمية، أولهما، دور تركيا كمركز اقتصادي اقليمي حيث أبرمت عدد من اتفاقيات التجارة الحرة مع سورية قبل الانتفاضة ، وتونس والمغرب في عام 2004م، ومصر والسلطة الوطنية الفلسطينية في عام 2005م، كما وقعت على عدة اتفاقيات اقتصادية مع المملكة العربية السعودية التي تمثل الشريك التجاري الأكثر أهمية لها، وايران اذ تعتمد تركيا على غازها الطبيعي، فهي أكبر خامس شريك تجاري لها في حال التعامل مع دول الاتحاد الأوربي ككتلة واحدة والبحرين، وسلطنة عمان، والبحرين، العراق اذ بلغ عدد الاتفاقيات المبرمة معه 48 اتفاقيه شملت مجالات واسعة كالطاقة والنقل والصحة والأمن، ووقعت مع سوريا ــ قبل الانتفاضة ــ 40 اتفاقية منها، اتفاقية فتح الحدود المشتركة والغاء التأشيرة بينهما. ثانيهما، وقعت تركيا مع دول مجلس التعاون الخليجي في مايو 2005م، على اتفاقية اطارية لتعزيز العلاقات الاقتصادية. وتجدر الاشارة الى أن حالة اللاستقرار في الدول العربية التي شهدت انتفاضات ضد حكامها ولاسيما في الحالة السورية، ينتظر أن تؤثر على اندفاعة الاقتصاد التركي الذي لم يمر على تعافيه مدة طويلة بعد، باعتبار أن الدول العربية هي التي تستحوذ على الجزء الأكبر من حجم الصادرات التركية وأن أي عدم استقرار في تلك الدول سوف يؤثر سلبا على هذه الصادرات وعلى اقتصاد البلد ككل.
أما فيما يتعلق بدور تركيا كمركز لخطوط نقل الطاقة، حيث يستند هذا الدور على الموقع الجغرافي لها، والذي يجعلها أحد أهم الممرات العالمية لعبور وتصدير الطاقة المختلفة، ويعزز مكانتها الاستراتيجية رغم محدودية الانتاج التركي من مصادر الطاقة.
ومن أبرز خطوط الأنابيب النفطية والغازية التي تشترك فيها تركيا مع دول جوارها خط أنابيب النفط كركوك ــ جيهان؛ من خلاله ينقل النفط والغاز العراقيين الى تركيا ومنها الى أوربا، خط أنابيب غاز ايران ــ تركيا، بواسطته ينقل الغاز الايراني عبر تركيا الى سوريا وأوربا، وتجدر الاشارة هنا، تواجه تركيا بفعل ذلك الخط ضغوطا من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، بالنظر الى تعارضه مع السياسة الأمريكية في احتواء ايران وعزلها، خط أنابيب النفط باكو ــ تبليسي ــ جيهان، وقعت تركيا وجورجيا وأذربيجان اتفاقا لبناء هذا الخط في تشرين الثاني 2001م، وبدأ العمل فيه في عام 2006م، لينقل الطاقة من الشرق الى الغرب، خط أنابيب غاز جنوب القوقاز، يربط هذا الخط بين الحقول الساحلية للغاز في شاه دينز بأذربيجان الى تركيا عبر جورجيا. ولقد حققت الدبلوماسية الاقتصادية لتركيا في نهاية عام 2010 ناتج قومي بلغ 750 مليار دولا أمريكي، وأضحى الاقتصاد التركي ــ الذي كان على وشك الانهيار قبل عقد من الزمان ــ في المرتبة السادسة عشر عالمياً والمرتبة الأولى بين الدول الاوربية.
وبناء على ما تقدم، يتضح أن الدبلوماسية التركية على المستوى السياسي والثقافي والاقتصادي تعكس تحولات جوهرية في السياسة التركية بدأت منذ عشر سنوات مع تولي حكومة حزب العدالة والتنمية مقاليد السلطة فيها، وبعد أن أدركت الحكومة التركية أن الأبواب شبه مغلقة أمامها للانضمام الى الاتحاد الاوربي أخذت في توسيع دوائر سياساتها الخارجية وفقا لرؤية تركيا الجديدة التي تقوم على ادراك عناصر القوة المادية والمعنوية التي تمتلكها تركيا واعادة تعريف مصالح الدولة التركية القومية والاستراتيجية، الأمر الذي يفضي الى ضرورة النظر الى تركيا بوصفها قوة اقليمية كبرى.
/4/2012 Issue 4177 – Date 18 Azzaman International Newspape
جريدة الزمان الدولية العدد 4177 التاريخ 18»4»2012
AZP07