عودة إلى موت لم يطل كثيراً
سلبيات وإيجابيات بين الدنيا والآخرة – رزاق ابراهيم حسن
شكرا لكل الاصدقاء الذي صنعوا موتي الجميل والذين اعلنوا نهايته قبل ان يصل المقابر وشكرا لهم على ما ابدعت اقلامهم من عبارات وكلمات الرثاء والنعي والانقلاب على هذه العبارات والكلمات الى عبارات وكلمات تهنئني بالسلامة وتدعو لي بطول العمر والمزيد من سنوات الابداع والصداقة.
ومع ان الاصدقاء الذين رثوني والذين انتقلوا من الرثاء الى نقيضه يشكلون عددا كثيرا وينتشرون على مساحة واسعة من الكرة الارضية الا انهم لا يتشابهون في عباراتهم فقد يحصل تقارب وتشابه في العواطف والمشاعر ولكنك تشعر عند مطالعتها انها جاءت بقدر كبير من الحماسة والانفعال والصدق وانها لم تكن في بعضها نتيجة اتفاق جماعي مسبق وانما هي كما هو الابداع عمل فردي ينطلق من واقعة تدفع للابداع ولعلها حقيقة قابلة للاقرار ان تكون النصوص والكلمات المكتوبة عن رزاق ابراهيم حسن عن موته واستمراره حيا حالة فريدة في الادب العربي فكل اديب وباحث وفيلسوف يطمح ان يكون بعد موته موضح اهتمام وبحث ودراسة ولكن الجديد والتميز في موت وحياة رزاق انه حظي باهتمام واسع على انه ميت وانه انتقل الى عالم الاموات وشهد كل ذلك وهو على قيد الحياة وكان يحضر مجلس عزاء احد اقاربه وفيما كانت الصفحات والصحف الالكترونية تتوالى في الكتابة عن موت رزاق كان هو مشغولا بموت شخص اخر هو ابو زوجته ولم تكن هناك اية علاقة بين موت رزاق وبين موت والد زوجته ولم يحدث اي اتفاق بينهما على اعلان الموت في وقت واحد.
ولعلها مصادفة غريبة ان يموت والد زوجته وان اكون معفوا من الدوام في جريدة (الزمان) وان اذهب للنجف لحضور فاتحة والد الزوج الذي سبق الوفاة باكثر من اسبوع وهو يعاني الاحتضار والتنقل من مستشفى لاخر حيث ساهم ذلك في تهيئة الاجواء لاعلان خبر وفاتي، ويعزز من ذلك انني مصاب بمرض الشلل الرعاشي وهو مرض غير معد ولكنه يعرض الجسم الى فقدان التوازن والسقوط المحتمل اثناء السير، ولكي اخفف من هيجان المرض فانني بحاجة الى كميات من الحبوب والادوية التي يصل ثمنها الى اكثر من مئة الف دينار في بعض الاسابيع. ولست اعرف والشخص الذي نسج مسرحية موتي واوصلها الى هذا المستوى من الانتشار والتفاعل واذا شكر رائعة لهذا الصديق مبادرته فانني اود ان اذكر ان هذه المبادرة قد دفعت عددا من ابنائي الى الذهول قبل ان يعرفوا حقيقة موتي وانهم قد تعرضوا كما يقولون لصدمة معنوية تتطلب مراجعة المحاكم ومقاضاة الجهة المسؤولة، وقد رفضت هذا التوجه مؤكدا ان ما نشر يخدمني خدمة كبيرة وليس فيه ما يعيب بل انه حزمة كبيرة من الايجابيات، وقد طلب احد ابنائي ان لا نسرع في نفي صحة خبر الموت، وان نحصل على المزيد منها لنصوص والكلمات فرفضت ذلك ايضا قائلا: انني لم اخدع احدا في حياتي وان عدم نفي الخبر نوع من الخديعة والاحتيال، وعلينا الاسراع في نفيه. وطرح سؤال: بماذا تفسر قيام شخص بوضع واشاعة مثل هذا الخبر فاجبت لعل هذا الشخص قد وجدني لا اطرح حقي ولا ادافع عنه فابتكر وفاتي لكي تكون منطلقا لذلك، ولعله اراد من ذلك الاشارة الى معاناة عدد من الادباء المرض واحتمال تعرضهم للموت دون حصول اية مبادرة رسمية او غير رسمية لمعالجتهم وانا واحد من هؤلاء ولعلني في حاجة شديدة الى المعالجة لان المرض يزداد خطورة مع مرور الايام، ولعلني من اقرب ضحاياه.
قراءة سريعة
عندما اقرأ بعض النصوص والكلمات المكتوبة عني اثناء وبعد وفاتي اتساءل هل بلغت هذا المستوى العالي من الوصف؟ وهل يصح اعتباري اديبا كبيرا ومبدعا متميزا؟ وهل اتيح لي ان اكون صديقا لهذا العدد الغفير من الادباء والنقاد والمفكرين؟ وهل يحق لي ان اكون محبا لهم، وان تجمعني اوثق العلاقات معهم؟ ان اصدقائي الادباء لم يكتبوا عني لانني صاحب عقارات ومصانع ومزارع ولم يكتبوا عني لانني صاحب سلطة ورصيد في البنوك ولانني استطيع تقديم الكهرباء والماء والخدمات لهم وتشغيل العاطلين من ابنائهم واخوانهم وانما كتبوا عني لاني رزاق ولانني اشاركهم الكتابة والقراءة واحاول ان اخدمهم من خلالها وكنت قد قرات شهادات لادباء يذكرون انني اول من استقبلهم ونشر لهم في اكثر من مكان واشعر ازاء ذلك بالاستغراب والدهشة: لماذا يعدون هذا التصرف من الفضائل اليس من حقهم زيارة الصحف والمجلات والنشر فيها؟ وهل جاءت مناسبة موتي للرجوع الى سنوات من الذكريات المتواضعة التي التقينا فيها اخوة وزملاء واصدقاء تحت ظلال الادب وساحته الواسعة؟ وهل يحق لنا استبدال هذه الظلال بلحظات من الكبرياء الاجوف والعزلة المقيتة؟ وعندما اقرأ النصوص والكلمات المكتوبة عن موتي اغرق في عالم من الايجابيات واطرح ذلك على صديق: لماذا يتعامل معي الاصدقاء من الادباء بهذا الكم من الايجابيات رغم ان موتي لم يكن حالة استثنائية ولم يكن تراجيديا او باعثا على الاثارة؟ ويجيب: لعلهم يريدون بذلك ترك السلبيات للاخرة اذ ليس من اختصاصهم الجمع بين ذنوب الدنيا والاخرة وانما الاثتصار على نوع واحد.
الميت والحي
رغم مرور العديد من الايام على تأكيد حقيقة بقائي حيا وعدم انتقالي الى عالم الاموات انني كنت وما ازال اقابل اشخاصا يشكون في بقائي حيا بعد ان كتبت العديد من المقالات عن موتي، وبعد ان تعامل ادباء وكتاب من العراق والكثير من بلدان العالم معي على انني ميت، وكنت المس في بعض الاحاديث رغبة في بقائي دون حياة، ولم تعلن هذه الاحاديث عن رغبتها ولكن الشرقية مارست دورا بارزا في هذا المجال خاصة وانها جعلت من العراق اهتماما اساسيا لها وكرست معظم اوقاتها وبرامجها للعراقيين ومعاناتهم، بل وتفوقت على جميع وسائل الاعلام في التعريف بمعاناة ومشكلات العراقيين في الظاهر والباطن من الجوانب والقديم والجديد والخفي والمعلن والحقيقي والمزور ويمكن القول انني لست مجهولا بالنسبة لعدد من العاملين في كادر الشرقية، وخاصة مؤسس الشرقية والمشرف عليها وواضع سياستها الاستاذ سعد البزاز الذي اتاح لي العمل في جريدة (الزمان) منذ عام 2003 وهي مشروعه الاول قبل الشرقية، حيث جاء الى بغداد بعد سقوط النظام السابق واستقبلني في فندق فلسطين قائلا لقد تقرر تعيينك محررا في جريدة (الزمان) اذ لا انسى شجاعتك وانت تراسل (الزمان) من بغداد في عهد النظام السابق. لقد بدأت النشر في الجريدة منذ الاشهر الاولى من صدورها حيث كنت اقيم في عمان وكنت مسحورا بروعة الجريدة وعن اهمية ما ينشر فيها من مواد، وبدلا من انتظار نتيجة طلب اللجوء او الاستعانة بالاستاذ سعد البزاز لمعالجة سوء وضعي المادي لان كرمه كان يشمل اعدادا كثيرة من العراقيين، ولانني كنت اخشى ان اكون ثقيلا وان اقتات من حق غيري فقد اقدمت على الرجوع الى بغداد، وكنت اكتب للجريدة من بغداد، وتصلني مكافأتها وكانت الجريدة من اخطر الصحف المعارضة للنظام وكان النظام يطلق على من ينشر فيها لقب (المرتد) وكان يعتمد على لجنة من نقابة الصحفيين والاجهزة الامنية لمتابعة الجريدة وما ينشر فيها، واصدار بيانات عن مخاطرها وعن اسماء الناشرين فيها. وبالرغم من خطورة هذا التصرف الذي قد تترتب عليه اشد انواع العقوبات وردود الافعال فقد واصلت حياتي في بغداد بسلام سوى انني كنت اعيش هواجس التعرض لرقابة وقمع النظام في كل لحظة ولعل تركي سليما من الرقابة والقمع يرجع الى انني لم اكن معروفا في تلك الظروف وكنت اعمل في النقابات وليس في المؤسسات الثقافية، وكان اعوان النظام يشعرون بقساوة وصعوبة الظروف في ظل الحصار فيلجأون الى غض النظر عن بعض الكتابات والمنشورات وكان النظام في السنوات الاخيرة من عمره قد اخذ بتخفيف وسائل الضغط عن بعض التوجهات الثقافية والادبية المنفتحة على الحرية والتغيير، ومحاولة ادعاء الديمقراطية وحرية التعبير والتنوع كما انني لم اسجل في تاريخ حياتي اية اساءة لاحد وكنت احرص على صداقة الجميع الامر الذي ساعدني على التخفيف من ضغوط الرقابة وكتاب التقارير والسؤال الذي يطرح نفسه: اذا كانت علاقتي بالاستاذ سعد وجريدته (الزمان) بهذا المستوى الرفيع فكيف مر خبر وفاتي المزعومة على قناة الشرقية دون تدقيق وتمحيص؟ انني واثق ان الشرقية تقدر علاقتي بالزمان وما نشرت من كتابات فيها، وهي تحترم عناصرها من الاموات والاحياء، وتعمم هذه النظرة على جميع العراقيين وتعطي ميزات خاصة لمن اتصفوا بالابداع وصدق السريرة، ولذلك تحركت نحو خبر وفاة رزاق ابراهيم حسن وكررت بثه مرات عدة، ويبدو لي ان (الزمان) اعتمدت على مصادر موثوقة في التعامل مع خبر الوفاة، اذ كان الاتحاد العام لادباء العراق قد اطلق الخبر، وخصص لافتة له تتصدر بناية الاتحاد، كما انشغلت الصفحات والمواقع العراقية الالكترونية بالخبر والتعليق عليه، وما يشكله رزاق ابراهيم من دور واهمية في الثقافة العراقية. وانني في الوقت الذي اشكر فيه الشرقية على مبادرتها بابراز شخصية رزاق ميتا وحيا ووصفه بما هو عليه من تاريخ وانجاز وحياة فاني احيي فيها الاصالة العراقية والنبل العراقي ودفاعها عن العراق بكل تاريخه ومكوناته وحقوق ابنائه ومستقبله، وبكل ما ورث ويبدع من ثقافة وحضارة.