سلام خياط.. صمت السطور الأخيرة – رياض شابا
الصوت خافت والأحاديث عميقة والسياط تلهب ظهور الفاسدين
ان يرحل شوكت الربيعي و من بعده سلام خياط باربعة ايام ، هذا كثير ، قاس بالتاكيد ..! كتبت رثاء في الاول بالامس، وها انا يعتصرني الحزن مع انطفاء زميلة كبيرة عزيزة لا تغيب صورتها عن مخيلتي لحظة ..
لكنه الموت ، الذي سيبقى يخطفنا من قطار الحياة ، انه القدر المكتوب حتما. اقول ذلك في سري ، غير مصدق ان الستارة تنسدل على اخر صفحة من عمر من اعتدتُ و معي الالاف على قراءة سطورها الاخيرة لعقود ، ظنا مني انني اقرا لرجل في البداية ، حتى اكتشافي لحقيقة السيدة التي ساصبح زميلا لها في قابل الايام ، تفصل بين منضدتينا بضعة اقدام فقط !
انا الان في النصف الثاني من الستينيات، طالب جامعي يستقطع جزء من دخله المحدود جدا لابتياع جريدة لبنانية كبيرة اول ما يقراه فيها العمود الشهير « من حقيبة النهار « لميشال ابو جودة ، و من ثم جريدة بغدادية واسعة الانتشار اسمها « المنار «،ابدا فيها من « الاخر» بالعمود المقروء : « السطور الاخيرة « بتوقيع سلام خياط ، يشكل مع باقي الصفحات جزء من مدرسة تعلمت منها الكثير و انا اضع خطواتي الاولى في الصحافة ، عندما شرعت بتحرير الصفحة الجامعية في اسبوعية « كل شيء « للراحل عبد المنعم الجادر ، و كنت كلما اقصدها تطالعني في الطريق لوحة تحمل اسم « المنار « معلقة على مدخل مبنى عتيق في شارع حسان بن ثابت بجديد حسن باشا قرب الميدان حيث تفوح رائحة الاحبار و الورق ، و تعلو نقنقات اللاينو و زئير المطابع .
اتطلع الى الاسم بحسرة كل مرة ، فلطالما تمنيت العمل في مكان كهذا ، لكن حلمي لا يتحقق الا بعد سنوات ، لاتتلمذ على يد خياط ماهر اخر ، و لكن في « المنار « الاسبوعي هذه المرة هو عبد الله خياط المشرف الاول على التحرير في كل الاوقات، ذلك الصحفي المدهش و الانسان الباسم الذي يشرق وجهه نبلا و طيبة ، و علمني الكثير في مدة قصيرة تمتد بين ربيع 1968 و صيفه ، انتهت بما الت اليه الامور من تراجع بعد 17 – 30 تموز ، و ذلك شان امل ان اتمكن يوما من الكتابة عنه بما تسعفني به ومضات ذاكرة قديمة مضت عقود على اختزانها لاشياء و صور احاول استرجاعها ، وفاء لمعلمين افذاذ .، حالفني الحظ في العمل معهم .
فلاعد الى بداية معرفتي بسلام خياط اذن .. كان ذلك في العام 1967 اثر حجب الصحف الاهلية و منها « صوت العرب « التي كنت اعمل فيها و انبثاق المؤسسة العامة للصحافة و الطباعة التي كان نصيبي منها جريدة « المواطن « ، مكان جمعني بشخصيات ما فتئت وجوههم مرسومة في مخيلتي و صدى كلماتهم واحاديثهم يتردد على مسامعي رغم السنين ، عبد الله الملاح رئيس التحرير، سجاد الغازي نائبه ، فاضل العزاوي سكرتير التحرير ، و هو الموقع الذي صار يدعى مدير التحرير في سنوات لاحقة .
و داخل فضاء واحد مشترك هو غرفة كبيرة او قاعة تحرير صغيرة التقي كل يوم بمؤيد البدري و ضياء حسن و زهير احمد القيسي و مجيد الونداوي و حميد رشيد الذي كان يقول : ( ما اهدا هذا المكان نهارا ، لكنه يتحول الى سوق هرج، ما ان يتقاطر عليه محررو التحقيقات» و«المخبرون « ، مساء ..! ) و المخبر هو الاسم الذي اصطلح الوسط الصحفي على تسمية مندوب الصحيفة به ، و الذي يتولى مع اقرانه حصد الاخبار من الوزارات والشارع ، ثم يضيف استاذ حميد مخاطبا الونداوي : ( راح يجوك المخبرين بالليل وتشتغل التلفونات ) .. وكان يقصد بكلامه كل ال « ريبورترس « كما يحلو له تسميتهم احيانا ، سعيد الربيعي ، فاضل الشهابي ، صلاح عقراوي ، و محرري التحقيقات نعمان سيرت و رياض شابا و اخرين .. « لم اعد اتذكرهم عذرا ، وهناك ايضا محررو الصفحات الثقافية والفنية و الرياضية والاقتصادية و الاخيرة والمترجمين وغيرهم وبين كل هؤلاء يتقافز المصور الفنان سامي النصراوي و«يتجزا « الى « الف وصلة « كي يتمكن من تلبية طلبات الجميع ..! و كان يؤدي المهمة على خير وجه فيستحق اعجاب القاصي والداني ..
سعادة بالغة
وسط هذه الاجواء ، و ما احلاها تشاركنا سلام خياط عالمنا ، ثمة منضدة او اثنتان تفصلان بيننا ، استرق النظر اليها بخجل ممزوج باعجاب متنام مبهورا ببساطتها وهدوئها ، اشعر بسعادة بالغة عندما احظى بدقائق من وقتها ،تدخل المكان وتخرج منه مثل النسمة ، صوتها خافت واحاديثها قصيرة عميقة ، الا ان سياطها تلهب ظهور الفاسدين و المخطئين والظالمين ، وسطورها صرخات انحياز للانسان والحق وهي « المحامية الشاطرة « ، هذا ما عرفناه ، او هذا ما اكتشفته انا بعد حين . نعجب بجراتها وحكمتها ووطنيتها و انسانيتها . و بجانب سطورها كتبت مجموعة تحقيقات و حوارات جريئة مع مسؤولين كبار و وزراء ، سلطت من خلالها الاضواء على مواطئ خلل عديدة في المجتمع و الاداء الحكومي ، وعندما تحتج على شيء ما لا يرضي البعض تختم بكلمتي : « اسكتي ، سكتنا « ..! هما بمثابة مطرقة و مسمار يرمزان الى زعل و رفض لردود افعال البعض ممن لا يريحهم الامر .. الحقيقة .. ! انها مع الانسان و قضيته في كل مكان، و يوم عدت من زيارة اتيحت لي الى الاردن والضفة الفربية ، و كتبت على اثرها سلسلة تقارير و تحقيقات في جريدة « المواطن « نفسها عن معركة الكرامة 21 اذار 1968و التي انتصر فيها الجيش الاردني و منظمة التحرير الفلسطينية على القوات الاسرائيلية ، يومها و جدتها مهتمة برحلتي و مشاهداتي ، منفعلة مع حكايات المعركة و مع ما رايته من اشبال يتدربون على يد الفدائيين في المعسكرات ، و نازحات يتوجعن مع اطفالهن في مخيمات اللجوء .. و بعد بضعة اشهر على ذلك التاريخ و لا اذكر اين تحديدا رايتها في صباح التاسع و العشرين من كانون اول من العام ذاته غاضبة مكتئبة محبطة ، كيف لا و قد نزل الكوماندوز الاسرائيليون على مطار بيروت في الليلة الفائتة والحقوا الدمار بثلاث عشرة طائرة شحن مدنية تابعة لشركة طيران الشرق الاوسط ، قالت يائسة حزينة « باجر راح يدخلوننا بالبايسكلات . .»! .. لم تمض سوى مدة قصيرة حتى انحلت المؤسسة العامة للصحافة ، و انفرط عقد ذلك الجمع الذي احتضنه مكان اسمه « المواطن « ، و طبعا لم اعد اعرف شيئا عن سلام خياط الا من خلال قراءتي لسطورها الاخيرة في جريدة « الجمهورية» لسنوات عدة . قرات لها بعد مدة من تاميم العراق لنفطه في الاول من حزيران 1972 مامعناه انها وجدت من الجو اضواء لندن خابية او خافتة او شاحبة بعض الشيء ، ليس كعادتها . في اشارة واضحة منها الى امكانية استخدام النفط كسلاح مؤثر عندالحاجة .. و في لندن عينها حيث اوفدت شتاء 1986 بصدد تحرير الطبعة الدولية لـ « الثورة « و بعد فراق عقد ونصف من السنين ، فوجئت بمراها بصحبة لمعان البكري اول مديرة لمدرسة الموسيقى و الباليه العراقية و التي لم احظ بلقائها هي الاخرى منذ كتابتي عن ولادة ذلك الصرح الفني التربوي الحضاري الكبير في تحقيق صحفي نشرته في جريدة « النور « البغدادية عام 1970 ، وقد كان لقاء مؤثرا جعلنا نقارن بين ما كان العراق عليه في عقد السبعينيات ، و ما الت اليه الامور في الثمانينيات ، كنا نحن الثلاثة نكظم حزنا دفينا ، اطلقت له سلام خياط العنان عندما فوجئت ثانية بلقياها في مطار هيثرو بلندن و لتكون معي على نفس الطائرة التي ستقلنا الى بغداد ، دار بيننا حديث مقتضب ، احسست انها هنا في شان عائلي ، قالت : «قد تكون لندن جنة الله على الارض ، الا انها لن تصبح اجمل من بغداد و العراق .. و لكن انظر الى النار التي يحرق نفسه فيها .» و كانت تعني بذلك الحرب المشتعلة مع ايران ، عندها لم تقو على حبس دموع ساخنة ، تدحرجت كبيرة على خديها ، و لم تفكر حتى في مسحها ..!
ترى ماذا كانت ستقول الان عما الت اليه حال العراق اليوم ؟ مالذي كانت ستكتبه في سطورها الاخيرة التي و ان صمتت الى الابد ، الا ان معانيها تبقى حية نابضة في قلوبنا سنوات و سنوات ؟
اما انا فلا املك الا ان اقول : سلاما الى روحك الجميلة سلام خياط.