سلامة اللغة العربية

سلامة اللغة العربية

سر الجمال والنعومة والمكانة

محمد السيد ياسين الهاشمي

قرأت في جريدة الزمان بعددها 4685 في 17 / 12 / 2013 بيان أدباء العراق باليوم العالمي  للغة العربية , فحفزني ذلك البيان الرصين المملوء اهتماما بالغا تستحقه لغتنا الحسناء . لغة الضاد .. لغة القرآن المجيد , حفزني ذلك لأسهم في خدمة لغتي العزيزة بتذكير أخوتي المربين ..  معلمين ومدرسين وأساتذة بأهمية متابعة سلامة اللغة العربية والحفاظ عليها من الغزو الأجنبي محاولة لتشويهها وإضعافها , فأنا من المحبين والمغرمين بلغتنا التي نفخر بجماليتها وعبقريتها وتألقها عبر العصور ..  كيف لا وهي لغة القرآن الكريم ؟ فقال تعالى : ( إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون ) –  3 –  ( سورة الزخرف ) . فلقد حبانا الله سبحانه بهذه اللغة الجميلة , سهلة النطق والفهم , القادرة على التعبير والتمثيل, وكانت على مر العصور الحامل الأهم في ثقافتنا , وقد كرمها الله جل وعلا وحفظها من كل سوء وباطل وجعلها لغة القرآن المجيد . فقال في محكم آياته : ( وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا وصرّفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون ويحدث لهم ذكرى ) –  113 –  ( سورة طه ) . وقال تعالى : ( كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون ) –  3 –  ( سورة فصلت ) . ومن بدائع حكمته سبحانه أن جعلها أيضا لسان أهل الجنة .

فاللغة العربية هي وعاء ثقافتنا وعنوان هويتنا , والمحافظة عليها تعد محافظة على الذات والوجود . ويقول الأستاذ المرحوم مصطفى صادق الرافعي : ( وإذا كانت اللغة العربية بهذه المنزلة , كانت أمتها حريصة عليها , ناهضة بها , متسعة فيها , مكبرة لشأنها … فأما إذا كان من شعبها التراخي والإهمال وترك اللغة للطبيعة السوقية وإصغار أمرها وتهوين خطرها , وإيثار غيرها بالحب والإكبار , فهذا شعب خادم لا مخدوم , تابع لا متبوع , ضعيف عن تكاليف السيادة , لا يطيق أن يحمل عظمة ميراثه , مجتزئ في بعض حقه , مكتف بضرورات العيش , يوضع لحكمه القانون الذي أكثره للحرمان وأقله للفائدة التي هي كالحرمان ) .

من هنا يجد ايلاء اللغة العربية التي ترتبط بتاريخنا وثقافتنا وهويتنا كل إهتمامنا ورعايتنا , بحيث تعيش معنا في مناهجنا وإعلامنا وتعليمنا كائنا حيا ينمو ويتطور ويزدهر ويكون في المكانة التي يستحقها ,جوهرا لانتمائنا القومي حتى تكون قادرة على الاندماج في سياق التطور العلمي والمعرفي في عصر العولمة والمعلومات لتكون أداة من أدوات التحديث ودرعا متينة في مواجهو محاولات التغريب والتشويش التي تتعرض لها ثقافتنا .ومن أهمية اللغة وعناية الأمم بها فهي والفكر وجهان لعملة واحدة , إذ أننا لا يمكن أن نتصور لغة من غير فكر ولا فكر من غير لغة , وتتمثل وظيفة اللغة في التفكير والتواصل والتعبير . فيقول الدكتور طه حسين في هذا الصدد : ( نحن نشعر بوجودنا وبحاجاتنا المختلفة وعواطفنا المتباينة وميولنا المتناقضة حين نفكر , ومعنى ذلك أننا لا نفهم أنفسنا إلا بالتفكير , نحن لا نفكر في الهواء … فنحن نفكر باللغة ونحن لا نغلو إذا قلنا إنها  ليست أداة في التعامل والتعاون الاجتماعيين فحسب , وإنما هي أداة للتفكير والحس والشعور ) . وقد عبر الفيلسوف الألماني ( هيدجر ) ( أيما تعبير عن أهمية اللغة  عندما قال : ( إن لغتي هي مسكني وهي موطني ومستقري , هي حدود عالمي الحميم ومعالمه وتضاريسه ومن نوافذها وبعيونها أنظر إلى بقية أرجاء الكون الفسيح ) . غير أن ستالين يرى ( أن اللغة هي إحدى الوقائع الإجتماعية الفاعلة والمؤثرة في سياق الوجود الاجتماعي وديمومته كلها ) .

وها نحن أولاء نلاحظ على الصعيد العالمي أنه ما من شعب أراد الحياة العزيزة الكريمة إلا وتمسك بلغته الأم أمام اللغات الغازية . فحقا قال الشاعر كاظم عبد الله العبودي  :

      هي الأم كرم دانيات قطوف

 فكل وليد رام قطفا تبادره

 ومن عاف صدر الأم أو عض ثديها

    فليس غريبا ان يجافيك غادره

وقد ابتليت العربية بعدوين خطيرين , العدو العثماني , وآخر أشد عداوة  ,افتك أسلوبا هو الاستعمار بشتى أنواعه وأشكاله الذي شن على العربية حربا ضارية وعمد إلى زعزعة ثقة أبنائها بها وعزا تأخر العرب في مضمار الحياة إلى لغتهم , ثم خرج بدعوات كثيرة منها , صعوبة النحو مما يجعل فهمها أمرا صعبا على طالبيها , واقترح التحلل من نحو اللغة . واليوم تحارب اللغة بأيدي أبنائها , فمنهم من يدعو إلى تغيير خصائصها وإلغاء بعض سماتها الأصيلة .

إن اللغة العربية ذات جذور حضارية وتاريخية مكنتها من تبوئها منزلة رفيعة عبر العصور. وحفظت الفكر العربي الإسلامي من التلف والزوال  والضياع . فلا يمكن الحفاظ على جمال اللغة إلا بالحفاظ على سلامتها من ( الفيروسات ) الخبيثة وشيوع  فساد التركيب . فعلينا مواجهة دعاة التغيير غير المضمون للنتائج وأن نبني أساسا لغويا قويا نستطيع أن ننشئ عليه لغة تواكب الحياة والعصر الذي تعيش وتتناسب مع متغيراته ومتطلباته . فيجب أن نعتني باللغة العربية عناية تفوق ما يبذل في سائر الدروس الأخرى لأنها هي الواسطة في نقل فروع المعرفة الأخرى إلى ذهن الطالب وهي التي تصل حاضره بماضيه وتوجد الصلة بينه وبين تاريخه وما أنتجه السلف من خلاصة تفكيرهم ودراساتهم .

وهي دعوة مخلصة أرفعه إلى المسؤولين من التربويين في كافة المؤسسات التربوية والرسمية وأساتذة اللغة العربية في الجامعات بوقفة مؤمنة علمية ثابتة أمام مخربي اللغة الذين يسعون إلى تعميم الفوضى في صرفها ونحوها . وصيانتها من عثار اللحن الكريه .

 وهذه مهمة ينبغي تأديتها وعدم إهمالها أو نسيانها لأن التساهل والتسامح لمن يريد الانزلاق إلى اللحن أو التورط فيه عقوق ونكران للغتنا التي يقول فيها الشاعر حافظ ابراهيم :

    أنا البحر في أحشائه الدر كامن     فهل سألوا الغواص عن صدفاتي

ودعوة أخرى إلى أبنائنا الشباب وبناتنا الشابات أن يتعرفوا على جمال اللغة القرآنية فيتلذذوا بها تلذذ الجائع بأطايب الطعام .. كما قالها الخليفة الثاني عمر بن الخطاب ( رض ) .

فمعرفة اللغة العربية يفتح آفاقا رحبة لفهم القرآن والأدب العربي الرائع الذي شهد الله تعالى للغته بالبيان والشمول والسمو .. وان يحافظوا على سلامتها لأن ذلك دليل حبها والاعتزاز بها  ودليل على الإيمان بهذا الدين الكريم , فاللغة وعاؤه الثر ( بلسان عربي مبين ) ودليل على قوة الشخصية الوطنية مهما نأى الإنسان على الوطن .

وما أروع قصيدة الأستاذ كاظم العبودي ( هي الأم ) أختم مقالتي بالبيتين الرائعين الصادقين يقول فيهما :

   تظل كما كانت فما زال دفقتها

    تزود منه السحب إذ جاد غامره

  وكل الورى يفنى وتبقى حروفها         يسير فوق الصـراط عوابـره