
سقطت مطرقة الشيوعي من اليد – ياس خضير البياتي
كنتُ أظن أن الحزب الشيوعي العراقي تعلّم من تجاربه الطويلة، من المنافي والسجون والمنشورات السرّية، ومن زمن كانت فيه «الرفقة» تعني التضحية لا التعيين، والنضال لا النيابة. لكن فجأة، وجدنا الرفاق في قوائم الانتخابات، يوزّعون البسمات والبرامج الانتخابية بدل المناشير الثورية، وكأن التاريخ قرر أن يأخذ استراحة طويلة.
دخل الحزب الانتخابات، لا كقوة معارضة، بل كضيف شرف في عرسٍ سياسيٍ نظمته نفس القوى التي كان يُحذّرنا منها لسنوات. الغريب أن أكثر رفاق الحزب — من القاعدة حتى الأصدقاء القدامى في المقاهي — وقفوا مذهولين، يتبادلون النظرات وكأنهم سمعوا أن ماركس قرر الترشح في تحالف مع البنك الدولي!
كنت أتساءل: كيف لحزبٍ نشأ ضد الإمبريالية أن يجد نفسه واقفًا يومًا في صفوفها؟ كيف يرفع الشيوعي شعار «يا عمال العالم اتحدوا»، ثم يُصافح المحتل الأميركي باسم «الديمقراطية الجديدة»؟ لو كان ستالين حياً، لطلب من لجنة الانضباط الحزبي استدعاء القيادة فوراً، ولأمرهم بإعادة قراءة البيان الشيوعي مع درسٍ خاص في «الوعي الطبقي بعد الاحتلال»!
الحقيقة المُرّة أن بعض قياديو الحزب لم يقاوموا إغراء السلطة والجاه، فذاب المبدأ في حرارة الكرسي كما يذوب الجليد في شاي الصباح. وأصبح البعض يظن أن مقعد الوزارة هو مرحلة متقدمة من النضال الثوري! كأننا انتقلنا من شعار “وطن حر وشعب سعيد” إلى شعار “وزارة حرّة ورفيق سعيد”.
ثم جاءت التجربة الوزارية لتزيد الطين بلّة — أو لنقل لتُبرّئ الطين من البلّة! فبعض الوزراء الشيوعيين خرجوا من الوزارة «نظيفي اليد»، نعم، لكن بعد أن تلطخت صورة الحزب كله بالغبار السياسي. صار المواطن البسيط يسأل متحسرًا: أين الرفاق الذين وعدونا أن يغيّروا وجه النظام؟
إن ما يؤلم في القصة ليس الخطأ السياسي فحسب، بل انكسار الحلم القديم. ذلك الحلم الأحمر الذي كان يتوهج في عيون العمال والفلاحين، صار اليوم عنوانًا لحملة انتخابية باهتة. كان الحزب رمزًا للفكر التقدمي، فأصبح مجرّد رقم في صندوق اقتراع، لا يهتف أحد له إلا المذيع عند إعلان النتائج.
كم كنت أتمنى لو أن الرفاق تذكّروا أن الماركسية ليست بطاقة دعوة للبرلمان، وأن الثورة لا تُقاس بعدد الأصوات، بل بعدد المواقف. وأن التاريخ لا يرحم من بدّل المطرقة بالميكروفون، ولا من استبدل النضال بالتصريحات الصحفية.
والأدهى من ذلك، أن بعض الرفاق بدا وكأنهم اكتشفوا فجأة أن السياسة أشبه بسوبر ماركت كبير: كل رف مليء بالمنافع، وكل بطاقة اقتراع تمنح فرصة لتذوق سلطة جديدة. فصار الحزب الشيوعي، الذي كان يوماً صرخة في وجه الظلم، مجرد متسوق في جناح “الوزارات”، يختار ما يناسبه بين الكراسي والمناصب، متناسياً أن الماركسية ليست بطاقة خصم ولا تخفيض على السلطة.
وفي النهاية، يبقى السؤال البسيط: هل الحزب الشيوعي دخل الانتخابات ليغيّر شيئًا، أم ليغيّر صورته على غلاف الجرائد؟ وربما يكون الجواب في مكان ما بين مقعد الوزارة ودفتر الترشح… حيث تُوزَّع المثلجات على الرفاق، ويُسأل المواطن عن رأيه فيما لو أراد حقًا التعبير عن مواقفه. لكن لا بأس، فالتاريخ طويل، والضحك على الأخطاء أحيانًا أطول… والرفاق، إن شاء الله، سيجدون في المرات القادمة طريقة لتذكر أن المطرقة ليست مجرد رمز، بل موقف.
رحم الله ماركس وستالين… لو شاهدا ما جرى، لطلبا اللجوء السياسي عند الرأسمالية نفسها، فهناك على الأقل لا يُسيئون إلى الشيوعية باسمها!

















