سـؤال الديمقراطية وإشكاليـات السياسة
وليد خالد احمد حسن
أيـة ديمقراطيـة للعراق..؟ أزمـة الديمقراطية في العراق مزمنة وشاملة، فهي تفاقمت سابقاً على مستوى الحكومات التي تـعاقبت على حكم العراق منذ لحظة تأسيس كيانه السياسي والدستوري، وتتفاقم الآن على مستوى حكومات الاحتلال الأمريكـي، وتتعاظم الحاجة إليها على مستوى مجتمعنا على اختلاف طبقاته ومذاهبه وقومياته وتنظيماته… ولئن كـانت الديمقراطية مضروبة سابقاً وما زالت راهناً، فأنها مع ذلك مطلوبـة. هـي غائبة أو مغيبة، ناقصة أو منقوصة، على المستوى الرسمي ولكنها مطلوبة من قبل مجتمعنا.
أنهـا مطلوبة، لانها تشكل حاجة ماسة لأولئك المتضررين من غيابها أو نقصانهـا. فـالديمقراطية أضحت مرادفاً لحقوق الإنسان وحرياته الأساسية… وبقـدر ما تبدو هذه الحقوق والحريـات مكبوته أو مسلوبة أو معدومة، بقدر ما تشتد الحاجة الكيانية إلى الديمقراطيـة. غيـر إن طبيعة هذه الحاجة العراقية للديمقراطية متفاوتة، وان كانت متفاقمة، أنها متفاوتة بين الطبقـات والتنظيمات والإفراد… التفاوت مرده إلى الغاية المتوخاة من الديمقراطيـة، فإذا كان العراقي العادي يريدها كمصدر وضمانة لحقوقه المدنية وحرياته الأساسية، فان الأمر يختلف على مستوى الطبقات والتنظيمـات، حيـث تصبح الديمقراطية مرتبطة بالمرحلة التاريخية الراهنة وبالمصـالح الوطنية والطبقية ومتطلباتهـا.
وبصـورة عامة، يمكننا القول، إن الديمقراطية المطلوبة في العراق تتوقف على طبيعة الطبقات الحاكمـة والفئات الشعبية المتضررة من غياب الديمقراطية أو الانتقاص منهـا. ذلك، أن لكل طبقة أو فئـة مفاهيمها ومؤسساتها وأدواتها التي تساعدهـا على تحقيق إغراضها. ومـع ذلك، فأن الديمقراطية باتت مطلباً عاماً وهماً مشتركاً لدى معظم الطبقات الاجتماعية وتنظيماتها.. وهـي تتمحور فـي حدها الأدنى حول اعتبار الإنسان قيمة فـي ذاته، وحقه ــ فرداً وجماعة ــ في التعبير عن رأيه وفـي المشاركة في صنع القرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي من اجل تحقيق تقدمة وسعادته ونهضة الوطن ورقيـه.
يفـهم مما سبق إن الديمقراطية تعني حكم الشعب بالشعب وفي سبيل الشعب. وان هذا الوصف يفتـرض قابلية الشعب، لأن يحـكم نفسه بنفسه حكماً فاضلاً وينطوي على التسليم بأهلية الإنسان للحكم الذاتـي. والسـؤال الآن
ــ هـل لدى الشعب العراقي أهلية لأن يحكم ذاته بذاته بنزاهة وعدالة ومسـاواة؟
ــ هـل رُبىَّ الشعب العراقي على كيفية تطبيق الاستحقاقات والآليات الديمقراطيـة؟
ــ هـل لدى الشعب العراقي من القادة والزعماء السياسيين القادرين على أدارة الآليات الديمقراطية المعقـدة؟
إن مـا سنقوم به في هذا المبحث هو رسم ملامح مشروع صيغة مبدئية للديمقراطية التي يتطلبها العـراق اليوم ويستحقها مجتمعه بكل قومياته ومذاهبها في هذه المرحلة من تاريخهـا. والصيغة هذه إذ تتضمن مبادئ وتصورات عامة فإنها تبقـى قابلة للتعديل والتطوير في ضوء الظروف الموضوعية وخصائص الصراع من اجل الديمقراطية والتنمية الاجتماعية والوحدة الوطنيـة.
ولعـله من المفيد أن نبدأ برسم لوحة لهموم العراق وابـرز وقائع حياته الاقتصادية والاجتماعية
1 ــ تحتـل مشكلة التخلف الاجتماعي والاقتصادي المرتبة الأولى في قائمة الهموم العراقية تليها مشكلة الهيمنة والاحتلال الأجنبي على مقدرات الوطـن.
2 ــ تحتـل مشكلة التفاوت الطبقي والمعاناة الاقتصادية للطبقـات دون المتوسطة المرتبة الثانية في قائمة الهمـوم.
3 ــ إمـا مشكلة عدم الممارسة الديمقراطية ومشكلات التعبيـر الفكري والسياسي فهي على حدتها تأتي فـي المرتبة الثالثة في قائمة الهمـوم.
4 ــ مشـكلة الهوة الواسعة بين أغنياء العراق وفقرائـه، فغالبيه المجتمع العراقي تنتسب إلى فئة ذوي الدخل المحـدود.
5 ــ إن منظـور البنية الطبقية للمجتمع العراقـي مظلم وغامض. فالمجتمع العراقـي يفتقد خطوط تمـايز طبقي واضح. ومع أن طابعه الغالب هو زراعي وفقير فهو يفتقر إلى التماسك الاجتماعي والاقتصـادي.
6 ــ مـا زالت الروابط الطائفية والأثنية والقبلية والمناطقية أقوى من غيرها في شد أفراد المجتمع إلى بعضهم البعـض.
مـاذا عسانا نستنتج من هـذه الوقائع والبيانات والمؤشرات؟ بـل كيف نفيد منها في وضع مبادئ الصيغـة الديمقراطية المناسبة للعراق.
علـى أساس ما تقدم، يمكن اقتراح مبادئ وتصورات للصيغة الديمقراطية في العـراق
1 ــ الإنسـان قيمة فـي ذاته واحترام إنسانيته واغناؤها وتمكينها من الإبـداع، معيار أساسي للحكم على صلاح المؤسسات أو فسادهـا.
2 ــ حـرية التعبير والتنوع في نسيج المجتمع الراقي يقودان إلى الإقرار بتعددية الآراء وبالتالي بتعددية التنظيمـات المدنية والحزبية، وهـي شرط لاكتمال إنسانية الإنسان ومعيار أساسي في المشاركة الوطنيـة.
3 ــ الحـكم مسؤولية قيادية تمارس في صالح الأغلبية وفي أطـار من التوافق الشعبي العام حول أهداف المرحلة التاريخية الراهنة وسبل تحقيقهـا.
4 ــ تصحـيح ممارسات الحكم من خلال ضمان حرية التعبير والنقد والمعارضة والاستفتاءات الدورية فـي القضايا المصيرية والهامة، وإتـاحة الفرصة للتناوب على السلطة في أطار التوافق الشعبي العام وبرنامجه السياسي والاجتماعـي.
5 ــ يتـولى الحكم ائتلاف شعبي يتكون من مختلف القوى والاتجاهات المستنيرة الملتزمة بأهدافـه.
6 ــ يتمحور البرنامج السياسي للائتلاف الشعبي حول المهمات الرئيسية وفي طليعتها التحرر السياسي بانتزاع إصدار القرار الوطني المستقل، السيطرة على الموارد الوطنية، انتهاج سياسة وطنية مناهضة للاحتلال وعاملة فـي اتجاه توحيد سياسي وطنـي ووضع وتنفيذ خطة متكاملة للتنمية الشاملة وإعادة توزيع الثروة الوطنيـة على نحو يحقق هدفي زيادة الدخل القومـي وتحقيق العدالة الاجتماعية في آن معـاً. ووضع وتنفيذ إستراتيجيـة ثورة ثقافية هدفها تحرير الإنسان ــ فرداً وجماعة ــ وإنمـاء إنسانيته وإطلاق مواهبه للخلق والإبداع في إطار توازن منظور بين قيـم التراث الحية ونماذج الحداثة الداهمـة.
7 ــ صيـاغة إيديولوجية تعبر عن مطامع المشروع الحضاري العراقـي، وتخدم أهدافه وترمي بالتالي إلـى نسج طريقه في الحيـاة، ديمقراطية إنسانية، تستلهم وتراعي خصوصية العراقيين الوطنية والحضارية وتعبر عنهـا.
8 ــ التـوجه نحو أقامة الديمقراطية المجالسية بغية التدرج بالسلطـة من المراكز إلى المستويات المحلية على نحو يضمن مشـاركة أوسع للجماهير المنظمة في صنع القرارات السياسية والاقتصـادية والاجتماعية من جهة ورقابة افعل من المجالس والشعبية المنتخبة على الكوادر الإداريـة المعنية من جهة أخـرى.
9 ــ اعتبـار السعي الحثيث من اجل المشروع الحضاري العراقي جزءاً من النضال الإنساني العالمي في مواجهة الظلم والاستغلال وجميع صفوف التمييـز والعنصرية والقهر، والتنسيق مع قوى التحرر والديمقراطية في العالم لدحر الامبريالية الجديدة وتوطيد السلام في كل مكـان.
هـذه الصيغة المقترحة أن هي ألا مبادئ وقواعد عـامة للديمقراطية التي نطلبها وتستحقها جماهيرنا العراقيـة، وهـي خاضعة بالطبع للتعديل والتطوير فـي ضوء الظروف الخاصة للعـراق.
الأسـاس الاجتماعي للممارسة الديمقراطيـة
بـدأت اغلب أوساط مجتمعنا العراقي بعـد 9»نيسـان تتحدث عن الديمقراطية وعن ضرورتها كـأساس فعال لحل المشكلات السياسية التي تمور في مجتمع يبدأ انعطافه حاسمه جديدة في حياته. والمعـروف أن المجتمع مثل مجتمعنا العراقي مازال يعيش طور العقود الأولى من الثورة الصناعية وطور مجتمع الطبقة المغلقة في الريف وعهد التخلف التجاري، فمن الصعب قيام تلك العلائق الاجتماعية التي تمليها عليه التطور الاقتصادي والتطور التجاري المؤدي لازدهار الرأسمالية الوطنية كما فـي المجتمعات المتقدمة. وبعبـارة أخرى، من الصعب بروز تلـك العلائق الاجتماعية التي تنشأ في ظرف تاريخي محدد مهيئة المناخ اللازم لقيام ديمقراطية على غرار الديمقراطيات الغربيـة.
وعـليه، فأن أي مجتمع يدشن مرحلة ما بعد التخلص من الدكتاتورية الشمولية يجابه مشاكل عويصـة خارجية وداخلية تفرضها عملية التغيير الآخذة في النمـو. ولكي تنجح عملية التغيير والتطوير هـذه يجب مواجهة الواقع وتفهمه بالكثير من الجرأة وعدم طمس الحقائق والصعاب في محاولة لإيجاد الحلول السليمـة.. ومحاولة إيجاد هذه الحلول عملية يقوم بهـا المجتمع كله بالتعاون مع السلطة الوطنيـة.
وتـرافق عملية التغيير من اجل بناء المجتمع الجديـد، جهود تبذل من قبل بعض الفئات للحيلولة دون بروز هـذا المجتمع، وفـي غمار عملية الصراع هذه تبرز مفاهيم متضادة متصارعة عما يجب أن يكون عليه هذا المجتمع أو مـالا ينبغي أن يكون عليه. كما أن تفاوت المواقع الاجتماعية والثقافية والمصالح الحياتيـة يشكل حلقات متشابكة معقدة تتطلب القيام بعمل شـاق ومثابر من اجل التغلب على العقبات العديـدة في سبيل تغيير بنية المجتمع وخلق الإنسان الجديـد الذي سيقوم هو بالطبع بعملية التغييـر. وبعبارة أخرى، الوصول بالفرد إلى مرحلة من التطور يمارس فيها مستوى الوعي والمعارف العلمية وثقافة التفكير والسلوك.. مؤثـرات فعالة لتحريك المجتمع في طريق التطور. وبدون تطوير الإنسـان نفسه من جميع النواحي والوصول به إلى مستوى رفيع من الثقافة والتعليم والـوعي الاجتماعي والنضج الداخـلي والشعور العالي بالمسؤوليـة، لا يمكن بل يستحيل بناء المجتمع الجديـد.
القيم والتقاليـد
وبمـا إن القيم والتقاليـد ونمط الحياة كلها أشياء وتعيش داخل الفـرد، فالتغيير يبدأ بمجابهة الموروث الثقـافي الحاصل. وكذلك نفض الغبار عن الثوري والتقدمي فيها ونبذ الرجعي والمتخلف الـذي ينسج أوهاما تكبل الفكر وتسد إمامه منافذ التقدم. وباختصـار، خلق الإنسان الذي سيعرف مـاذا يريد بالضبط.. هل يريد الحرية؟ هل يريد الديمقراطية؟ هل يستطيع التعامل مع أراء الآخرين؟ هـل يستطيع احترام الرأي الآخر؟ هل يستطيع أن يصمد إمام وجهات النظر الأخرى بموضوعية علمية متعاوناً معها في سبيل الأفضـل؟
إذن، فبوجـود مثل ذلك الفرد في مجتمع وصل مستوى رفيعاً مـن الثقافة والنشاط الإيديولوجي المتعـدد الجوانب والعمل الفكري والتربوي الهـادف، نكون قد أسهمنا إسهاما كبيراً في خلق الأساس الاجتمـاعي للممارسة الديمقراطيـة.
فـالحديث عن الديمقراطية لا ينفصل عن الحديث عن الثقافة الشاملة الواعية، لأنه لا يمكن إسقاط أثر الفكـر والثقافة عاملاً حياً ومؤثراً في عملية التطوير الديمقراطي للمجتمـع. ولأن العنصر متغير ومتـدخل ومؤثر، فـأن ما يبدو في نظر البعض فرصة مثلاً وإغراء لا يكون كذلك في نظر الآخرين. وبعبـارة أخرى، فالثقافة العامة الشاملة تعني امتلاك الوعي بالواقع المعاش وبالتأثيرات المتعددة التي تتقاذفـه والوضع الاجتماعي والسياسي العام.. تعني امتلاك الوعي بالخريطة السياسية للعالم والتي تمثل فيها جزء لا يتجزأ من مسار النزاعات والصراعات الإيديولوجية التي تمور فيه.. تعني امتلاك الـوعي بإمكانياتنا الذاتية الحقيقـة وحجم المشاكل والصعــاب وقدراتـنا على العمل فـي سبيل تذليلهـا.. تعنـي امتلاك الوعي بالخارطة السياسية في بلدنا والقدرة على اكتساب الخبرة واستخلاص التجـارب والعبر والدروس.. لان القيـم وقوانين السلوك يعزوها المرء إلى الأفكار السائدة على نطاق واسع والمتوارثـة، وهي ليست متماثلة كليـة عند تماثل الظروف لان رد الفعل عند الأفراد مبنـي على مختلف الاحتياجات والتطلعات وغير ذلك من الأفكار المستحدثـة من الماضـي. وباختصار نرى أن نشر الثقافـة وفتح النوافذ وتبادل الأفكار وممارسة التنافس الصحي والتدريب على احترام أراء الآخرين ومختلف وجهات نظرهم سيعمل بلا شك على خلق وعي متجانس نوعاً لإمكانية ممارسة الديمقراطية السياسية التي تبدو مستحيلة بدون وجود الديمقراطية الاجتماعية. وتبقى الديمقراطية سراباً إذا لـم يحدث التغيير الاجتماعي الـلازم.
والـديمقراطية ليست لفظاً أجوفا أو حقاً نحلله لأنفسنا ونحرمه على الآخريـن، كما أنها ليست احتكاراً متطرفاً للعمل السياسـي.. لكنها إتاحة الفرص المتكافئة فـي الظروف الملائمة من اجل التنافس الصحي الأخلاقـي الشريف.. أنهـا ممارسة بعيدة عن التهور العاطفـي وعن المواقف الجدية التـي تتخذ لأتفه الأسبـاب.
وتـختلف مفاهيم الديمقراطية من مجتمع لآخر، مفهومها في انكلترا غيره في فرنسـا، ومفهومها فـي فرنسا غيره فـي ألمانيا وغيره في أمريكا وكل هـذه المفاهيم تليها مرحلة التطور الاجتماعي في الظرف التاريخي المعيـن، وفـي اختلاف المفهوم الاقتصادي للحرية ومعايير التقدم.. وفـي مجتمعنا العراقـي ستظل الديمقراطية صورية وسراباً إذا لم يحدث التغيير الاجتماعي الـلازم، كما إن ممارسة أحـزابنا السياسية المختلفة للديمقراطية سيكون شيئاً جزئياً لا أساس له في أعماق المجتمـع.
إمـا الصراع سيدور دائماً حول الديمقراطية طالما أن المجتمع في تغير مستمر، كما أن القوى المنتجة ومختلف فئـات الشعب العامل تستخدمها، فـي الوقت الذي تستخدمه فيها الطبقات والفئات الحاكمـة. والكـل يستخدمها للدفاع عن مصالح فئوية أو طبقية أو اقتصادية أو سياسيـة.
إن الـديمقراطية بمعناها الغربي إنما تعبر عن موقف اجتماعي معين جاءت إلينا مع سيل الأفكار والثقـافات، وقبولها بشكلها الغربي سيكون غريباً جداً في مجتمع غير صنـاعي وغير رأسمالي متطور، حيث لم تتحدد بعد الخطوط الواضحة فيه بين الطبقات الاجتماعية وعدم وضوح المصالح الطبقيـة والاقتصادية لمختلف الفئات المتصارعة. وأنهـا أن طبقت ستكون ديمقراطية أحادية الجانب تمثلهـا وتمارسها فئات انتمت في فترة النضال السياسـي إلى تيارات مختلفة ولكنها لا تعبر في الواقع تعبيراً واقعياً ملموساً عن مصالح هذه الطبقة أو تلـك. فأزمة الديمقراطية في مجتمعنا العراقي نشأت من كونها بـدأت من قمة الهرم، أي أنها بـدأت ديمقراطية سياسية وليست اجتماعية، أخذة بعض سمات الديمقراطية الغربية بصرف النظـر عن الظروف التاريخية والاجتماعية في هذا البلـد أو ذاك. فـالمعلوم أن الديمقراطية الغربية ازدهرت فـي مواكبها لازدهار الرأسمالية وانفصال المصالح وتضاربها. وفـي مجتمعات مختلفة كانت مستعمرة تابعة يصعب ازدهـار الرأسمالية لتصل إلى مرحلة تصديـر رؤوس الأموال وبالتالي فمن العسير استخدام نفس الأسلـوب.
وقبـل إن نتحدث عن الديمقراطية والدخول في مناقشات عقيمة.. علينا أن ننظـر إلى واقعنا بجرأة وبصدق وألا نتحـدث عن أي نظام سياسـي قائم أو محتمل دونما الوعي تماماً بأساسه الاجتماعي. فالأفكار السياسيـة وهي تنبع من الواقع عليها كذلك تغيير الواقع أو يغيرها الواقع… وجود الديمقراطية يعنـي أنها يجب أن تنبع من الواقع وان تعمل على تغييره فـي نفس الوقت، فالعلاقات المتبادلة بينهما معقدة متشابكة… وعلينا أن نتساءل مـاذا نريد بالديمقراطية؟ ومـاذا تعني لنا؟
إن الـديمقراطية تعني حرية الفكر، حرية الإبداع، حرية الرأي، حرية الاطلاع على أخبـار العالم المحيط بنا. أن الديمقراطية تعنـي غياب الرقابة الغبية ووجود الرقابة الواعية المسؤولة, أن الديمقراطية تعني تربية المجتمع على ممارسة الحرية الملتزمة في حياته اليومية، والوعي بها وعلى احتـرام حرية الآخرين فـي أبداء الرأي، ولا وجـود لهذه الحريات جميعاً بدون حرية المواطن التي ترتبـط بها حريتـه.
ويجـرنا الحديث عن حرية المواطن إلى الحديث عن الصحة النفسية للمواطن البعيد عن عمليات التـرهيب والتخويف المبهمة وغير المدروسة وخارج نطاق القانون وفوق الدستور وفوق كل القيـم.
إن الـديمقراطية تعني الوعي بجميع الإخطار التي تتحدى أمـن البلاد، ويأتي ذلك بتربية المواطن على الوعي بمحيطه وبالمخاطر المحدثة بالبـلاد وتجريده من الخوف الدائم الذي يلازمه على حياته وأسرته وعلى أمنه ومستقبـله، لان مثل هذا المواطن هـو الذي سيعرف متى وكيف سيمارس حقه الديمقراطي، متـى وكيف سيمارس حريتـه.. فهو من يسمح بان يتسرب إلى تنظيماته المجتمعية من لا يمثله، كمـا انه سيعمل على الحد من احتراف ممارسة القيادة لمثل تلك التنظيمـات.
إن الـديمقراطية تعني تخفيف الرقابة المتزمتة والإعلامية على الصحف والمجلات والكتب، وعلى انتقال الأفكار وسيل تدفق الإخبـار، وتعني بالتالي حرية البحث العلمي والفكري والقيام بالدراسات الإنسانية والتي تشكل الوجه الحضاري الحقيقي للدولـة.
والحـديث عن الديمقراطية يجرنا قصداً إلى الحديث عن الإعلام غيـر المدروس الذي يمكن أن يحاصر المواطن ويكبل تفكيره ويشـل إبداعاته ويحتل عواطفه متحولاً إلى أداة دعائية تعمل على أفساد الذوق العـام، كمـا تعمل على أحداث انكماش خطير في المناخ الثقافي ومؤسسات المجتمع المدني، والتـي بدونها جميعاً تستحيل تهيئة المواطن الواعـي، الإنسان الجديد عماد المستقبل ومصدر قوة الدولة وعنوان تقدمهـا.
الديمقراطيـة
والعمل الحزبـي
الـديمقراطية كما أسلفنا، تمليك السلطة للشعب ومباشرته إياها من خلال مؤسسات التعبير والتقرير والـرقابة والمحاسبة المتمثلة بالعمل الحزبـي، والنظام الحزبي بصيغة المتعددة بات أهم أركان ديمقراطيات القرن الواحد والعشريـن. ولكن الواقع إن الديمقراطية العلمية في أي بلد متقدم، هـي نظام مشاركة القوميـات كافة في الحكم عبر مؤسسات منتخبة ومعينة تنطوي على حصص محفوظة ومتفق عليهـا للطوائف الموجودة. أنها باختصار، حكم التشارك الطائفـي في الحكم من خلال زعامات الطوائف وقواها الفاعـلة.
ويـتأثر مثل هـذا النظام الديمقراطي بتركيبتـه وبممارسته لسلطاته بالقوى السياسية والاقتصادية والاجتماعية السائدة فـي المجتمع. فالنظـام الديمقراطي السائد هو بصورة عامة إفراز وتعبير عن القـوى السائدة فـي المجتمع، وهـو على الأقل شديد التأثر بهـا.
الأحـزاب كمؤسسات هـي تعبير عن القوى الفاعلة فـي المجتمع. وهـي تسعى للتأثير على مؤسسـات الحكم وآلة السلطة، وتتوخى دائماً السيطرة عليهـا.
والأحزاب بصورة عـامة، ثـلاثة أنواع
حـزب العقيدة السياسية، وهو عبارة عن اجتماع أشخاص يعتنقون العقيدة السياسية نفسهـا.
حـزب الطبقة، وهو مجرد تعبير عن مصالح طبقة معينة وأداة سياسية في خدمتهـا.
حـزب التنظيم السلطوي، أن كلا الحزبين، حزب العقيدة وحزب الطبقة، يتطوران تنظيمياً ليشكلا حزب ذو جهاز معقد ومنـوع، ويطلق عليه الاميركان اسم آلة Machine والسوفيت سابقاً اسم الجهاز Appareil أو مصطلح التنظيم المعتمد بشكل واسع الآن في الأدبيات السياسيـة.
وتنقسـم الأحزاب من حيث التركيـب إلى أحزاب الجماهير وأحزاب الأطـر. فأحزاب الجماهير تقوم على أسـاس اجتذاب المنتسبين إلى صفوفها لتثقيفها سياسياً ولتمويل نشاطاتهـا. فالمنتسبون هم مادة هـذه الأحزاب وقـوام إعمالها. أمـا أحزاب الأطر فيهمها تجميع الوجهاء لإعداد الانتخابات وتوجيهها والمحافظة على الاتصال بالمرشحيـن.
وثـمة ثلاثة أنواع الوجهـاء
الوجهاء النافذون ــ أي الذين يؤثرون على الناخبيـن.
الوجهاء التقنيون ــ الذين يتقنون في تحريك الناس وتنظيم الحملات الانتخابيـة.
الوجهاء الممولون ــ الذين يؤمنون عصب الحـزب.
أيـن نحن في العـراق الآن من أنواع الأحزاب وأنماط تركيبهـا؟
الحـركة السياسية فـي أي مجتمع هي احد إشكال تحديـده الذاتي وتعبير عياني عن مستوى وعيه لذاتـه بما هو كينونه اجتماعية في التاريخ وفي محيطة الإنساني. وهـذا المستوى هو الذي يحدد في نهايـة المطاف تصور أو تصورات المجتمع المعنـي عن التاريخ ومحيطه الإنسانـي وعن المجتمع والدولة وعن الإنسـان، ومن ثم عن السياسة ذاتها. زان وعي الذات هو العامل الحاسم في عملية أنشاء صورة المحيط الإنـساني في الذهـن. فتقويم التجربـة الحزبية فكراً وممارسة مرتبط أوثق الارتباط بمعرفة مستوى الوعي الاجتماعي السياسي العام الذي انتخبهـا، وهو وعي كان ولا يـزال محكوماً بعاملين متضافريـن
التـأخر التاريخي
أولهمـا ــ التـأخر التاريخي ولاسيما في المستوى الإيديولوجـي السياسي بصفته محصلة جميع المستويـات الأخرى.
ثانيهمـا ــ الاختـراق الامبريالي، إذ تتحول معه الجماعات الوطنية إلى شراذم تتبناها الدول الامبريالية المتناسقـة وتتلاعب بها مانعة اندماجها في كيان سياسي متناسق قابـل للحياة بشكل مستقل عن هيمنتهـا.
هـذان العاملان حاكمان، فـي الظروف والملابسات التي نشأت الأحزاب السياسية في كنفهـا، وفي ضوئهمـا يمكن تلمس أسباب تذبذب الأحزاب السياسية وتحولات عضويتهــا وكوادرها من حزب إلى آخـر، ومن اتجاه إلى نقيضه بسهولة ويسر، أسبـاب انقسامها المتوالية وانفصالها عن كتلة المجتمع وأسبـاب إخفاقها فـي تحقيق أهدافها المعلنة، بـل أسباب عجزها موضوعياً وذاتياً عن تحقيق هذه الأهـداف.
تـوكيد أهمية وعـي الذات لا يعني مجال من الأحوال التقليـل من أهمية الشروط الموضوعية وأثرها فـي التجربة المعنية، ولا يعنـي مجال من الأحوال أيضا إعادة الاعتبار للإرادة الذاتية التي رسمت الأحـزاب السياسية بما هي أحزاب إيديولوجية أو مؤسسات إيديولوجية تحولت إلى نوع من تيـارات مغلقـة ضمر في كل منها فعليـاً مفهوم العام أو الكلـي ــ مفهوم المجتمع والشعب، مفهوم الكلية الاجتماعية ــ الـذي هو قوام السياسة وما يمنحها قيمتها ومشروعيتها ومسوغاتهـا. فالرؤيـة الخصوصية الحصريـة تقبع في أساس النزعة الاستبدادية الشمولية عند الأحزاب التي تسلمت السلطة. فليـس مستغرباً، وهـذه الحال، تعاضد الأحزاب السياسية التي تولت زمام الحكم ــ العراق على سبيل المثال ــ مع المؤسسة العسكرية حتى غدت هذه الأخيرة مع المؤسسة الأمنية والمؤسسة الإيديولوجية والمؤسسة الإعلاميـة، قوام الحياة السياسية وغـدا مجال السلطة فيها المجال الوحيـد لممارسة السياسة، بعـد أن صبغت الدولة بصبغتها وألغت طابعها العام، فغدت الدولة دولة الحزب بدلاً من كونها دولة المجتمـع. وإلغاء الطابع العام للدولة هـو في الوقت ذاته إلغاء المجال السياسي للمجتمع، أو نزع السياسة من المجتمـع. وبهـذا التعاضد تمكنت السلطات المتعاقبة فــي العراق من احتكار الثروة والقـوة، وتنسيق بنى المجتمع بما يكفل ديمومتها واستمرار تسلطهـا على مقدرات البلد. وهـذا التعاضد هـو أساس فسـاد الدولة وغياب القانون وانتهاك الحقوق، وفـي مقدمتها حقوق الإنسان والمواطن، وحلول مبدأ الولاء ومبدأ الامتيـازات محل مبدأ الحـق ومبدأ القانون. فا لا شعور السياسي ما يـزال مرتكزاً على القبيلة العصبية وهـي هنا العصبية الحزبية إحدى استحالات العصبية القبلية أو العشائرية أو المذهبية والغنيمـة الخـراج، وهـو هنا أقطـاع المناصب للموالين مـا داموا على ولائهم، وهـو ما يذكر بالسياسة المملوكية والعقيـدة الإيديولوجية التي تحتكر الحقيقة لنفسهـا .
الـلا شعور السياسي هذا يعيد أنتاج الطابـع المملوكي » العثماني للسلطة ولاسيما الانفصال بين السلطة والشعـب، بين الحاكم والمحكوم، فلسلطـات الحزبية الحاكمة التي تولت السلطة في العراق اختارت محازيبهـا ومشاريعهـا ومواليهـا ومماليكهـا ــ شعبها المختار. أن مبـدأ الحزب الواحد نتيجة منطقية للنـزعة الخصوصية الحصرية الاقصائية التـي لا مكان للآخر عندها سوى السجن أو القبر أو المنفـى.
التجـربة الحزبية في العـراق وأنماط تركيبهـا؟
لا بـد من الإشارة إلى أن التجربة الحزبيـة العراقية حديثة العهد نسبياً ظهرت أولى بوادرها في أوائـل القرن العشرين أذا استثنينا بعض الجمعيات السياسية أو ذات التوجه السياسي التي نشأت في أواخر القرن التاسع عشـر. ولهـذا الاستثناء ما يسوغه، فـالإشكالية التي نشأت تلك الجمعيات في إطـارها تختلف عن إشكالية الأحزاب اليـوم. أهم هـذا الإشكاليات، هـي أن للعراق طابعاً خاصاً من الصعب التسليم بمجتمع عراقي واحد. بـرأي، هناك تجمع عراقـي ولا وجود لمجتمع عراقي. ولعل مـرد ذلك إلى الكيانـات الطائفية العميقة الجذور فـي العراق وتاريخه والتـي جعلت الحاضر العراقي أشبه مـا يكون بموزاييك اجتماعي » سياسي فريد من نوعـه. داخل هذا الموزاييك لا تجد غلبة عددية ساحقة لأي من الطوائف الموجـودة.
العـراق إذن أقليـات وقوميـات.
غيـر أن الطوائف في العراق ليست مجرد مذاهب دينية، أنها أكثر من ذلـك، هي كيانات اجتماعية سياسيـة تسعى قياداتها إلى التمايز دائماً في شتى المياديـن. مـن هنا تجد في العراق إلى جانب أحزاب العقيـدة وأحزاب الطبقات والتنظيمات السلطويـة، أحزابا للطوائف وليس بالضرورة أحزابا طائفيـة، بل أن بعض هـذه الأحزاب ــ أي أحزاب الطوائـف ــ تتداخل فيه بدرجات متفاوتة أنواع الأحزاب الثلاثـة حزب العقيدة، وحزب الطبقة، وحزب التنظيم السلطـوي.
والحـق، إن بعضاً من أحزاب الطوائف لـم يقصد البتة أن يكون حزباً طائفياً وممارساته هي قطعاً غير طائفيـة. ولكـن الظروف السياسية وقياداته العليا ساعدته على الانتشار في أوساط طائفة دون أخـرى، أو أن أبناء هذه الطائفة أو تلك منحوه ثقتهم فتراه من حيث يريد أو لا يريد معبراً عن مشاعر طائفة دون الأخريـات، بل أن منتسبيه ينتمون إلى طائفة دون الأخريـات. هذا من ناحية، ومن ناحيـة أخرى تبـدو حدود الطبقات غير واضحة بـل متداخلة وبالتالي يبدو الوعي الطبقي محدود الفعاليـة.
هـل فشل النظام الحزبي في العراق؟ وهـل ثمة آمل في تطوير النظام الحزبي القائم بحيث يكون تأثيـره أكثر فعالية وايجابية في آلة الحكم وتطور البلاد السياسي والاجتماعـي؟
الواقـع، انه لا مستقبل باهراً للنظام الحزبي في ظل النظام السياسي العراقي القائم الآن. فالنظام الحـالي هو عبارة عن شـراكة طوائـف فـي حين أن النظام الحزبي أنما يفترض وجود حد أدنى من العقلانيـة يستطيع المواطن بواسطتهـا أن يتخذ قراراته السياسية فـي ضوء أفـكاره أو مصالحه أو كليهما.
لا فعاليـة عقلانية في ظل نظام شركة الطوائف، لان المشاعر والعصبيات أي الدوافع اللا عقلانية هي الغالبـة أو الأشد تأثيراً. ولـربما كان من الممكن للنظام الحزبي، أي للأحزاب، خصوصاً الوطنية والتقدمية منهـا، أن تطور الأوضاع السياسية باتجـاه المزيد من التلاحم الوطني والعقلنة. ولكن فعالية العامل الخارجـي احتـلال أمريكي، تدخل إقليمي… يجعل هذا الأمر من الصعوبة بمكـان.
مـن هنا، لابد من تجـاوز النظام القائم أو بعض إمراضه وتناقضاته على الأقـل، كيما يبدأ النظام الحـزبي بان يفعل فعلـه.
ثـمة حاجة إلى الانتقال من شـركة الطوائف إلى شركة المواطنيـن. ثمة حاجة إلى الانتقال من حـالة التجمع إلى حالة الاجتماع حتى تفعل العقلانية فعلهـا.
ــ هـذه الحاجة إلى تجاوز الطائفية السياسيـة، هل يمكن الوصول إليها بالصراع السلمي الديمقراطـي؟
إن وقائـع الاحتراب الطائفي والتهجير المناطقـي لا تبعث كثيـراً على التفـاؤل…
مـا هو المخـرج؟
استمـرار السعي الجاد ضد الطائفية والاضطهاد الطائفـي المبطن بالاضطهاد الطبقـي، لابد من إشاعة جـو العقلنة والتشديد على الروابط الوطنية فـي مواجهة سياسات التفتيت وإيقاظ المشاعر المذهبية والإقليميـة. لا يـمكن أحداث تغيير بنيوي فـي النظام العراقي الحالي ألا نتيجة القضيـة الوطنية والديمقراطية من حيـث هي قضية تجاوز وضع التجزئـة ودحر الاحتلال وإزالة القهر السياسي والاجتماعـي.
معطلات الحـرية والارتهان القسري للمرتهن السلطـوي
الحـرية، قيمة وسلوك، فهي كقيمة تعني حالة الانعتاق والانطلاق، حالة التعبير عن فرح الوجود. وهـي كسلوك تعني ممارسة حق المفاضلة والاختيـار، كما تعني بالطبع حق النقد والاعتراض والمعارضة بل حق الثـورة. وإذا كـان الوجود الإنساني قيمة بحد ذاتـه، فان الحرية هي وسيلة التعبير عن هذا الوجـود، عن هذه القيمة. فـلولا الحرية لما عبر الوجود الإنساني عن نفسه، لما أفصح عن كينونته. لهـذا تتلازم الحرية مع الوجود الإنساني تلازم العلة مع المعلول. فلا هو ممكن التحقق بدونها ولا هي ممكنة التحقق خارج اطـارة.
والحـرية، فـي الكائن البشري، هـي الإرادة التي تبادر إلى الفعل، إلى الاختيـار. ولكي تبادر الإرادة البشريـة، يجب إلا تكـون مفيدة، ألا تكون مرتهنة. فـالارتهان لشخص أو لفكرة أو لوهـم أو لحاجة مادية يقيـد الإرادة، يعطلها، أو يظلل اختيارها ويحد من فعاليته. شرط الحرية، أذن، هو عدم ارتهان الكائن البشـري. الارتهـان لشخص أو لفكرة أو لوهـم، يحصل بسبب الجهل وقصور الوعي، الكائن العاقـل، المستنير، العارف. المثقف يكون اقـل تعرضاً للارتهان من الكائن الجاهـل، الفقير التجربــة الحياتيـة، القاصر عن الملاحظة والاستنتاج والمقارنة والنقـد. والارتهـان لسلطة أو لنظام أو لوضع سياسـي » اجتماعـي يحصل بسبب العسف والقمـع، بمعنى إن السلطـة الحاكمة تمنح عن المواطن حرية التعبير وحرية الاختيـار، بل قد تضع المواطنيـن جميعاً أمام خيارات محدودة للغايـة، لا يستطيعون أن يمارسوا معها إلا حرية الانصياع أو حرية الانكفاء. وإذا مـا تجرأ إنسان على المقاومة، على رفض الامتثال، يكون جزاؤه القمع والإسكات والتصفيـة.
ولعـل أقسى أنواع الارتهـان هو الارتهان بضغط الحاجة المادية. ففـي هذه الحالة يكون الإنسان مكرهـاً على إعطاء أولوية مطلقة لحاجة البقـاء، مجرد البقاء على قيد الحياة، على أية حاجة أو مطلب آخـر.
هنـا يكون الانكفـاء والسكوت والخضوع للمرتهن إراديا ومدركاً من قبل المواطـن. فهو يختار السكـوت والامتثال بوعي تحت ضغط الحاجة الماديـة. ولهـذا فهو يتعذب لأنه يعي اضطراره إلى خنـق أرادته، وتعطيل حريته، وانصياعه القسري لسلطة أو وضع يأباه ويحتقره في قراره نفسـه.
والارتهـان بسبب قصور الوعي أو قمع السلطة أو ضغط الحاجة، تتعطل أيضا إرادة الإنسان في مجتمعـه السياسي بطائفة أخرى من العوامل. ولعـل اخطر هذه العوامل أو المعطلات القبلية، والتجزئـة الوطنية، والهيمنة الخارجيـة.
فـالقبلية، حالة اجتماعية يفقد الإنسان فيهـا، كلياً أو جزئياً، شخصيته المتكاملة واستقلاله الفكري والسلوكـي، ويصبح جزءاً مسحوقاً من جماعة أقـوى منه وارفع في المنزلة الاجتماعية والعلاقات المجتمعيـة. وجوده يتأخر في وجودهـا، وإرادته تندرج في أرادتها، وحريته تقف عند حدود مصلحتهـا.
التجـزئة الوطنية، حالة سياسية يفقد فيها المجتمع بكل مقوماته، وحدة شخصيته، ووحدة أرادته، ووحـدة الأداة السياسية »الدولة، التـي يحمي بها وجوده وحريته ومصالحـه.
/8/2012 Issue 4290 – Date 29 Azzaman International Newspape
جريدة الزمان الدولية العدد 4290 التاريخ 29»8»2012
AZP07