سر ما أرى

سر ما أرى
أحمد محمّد امين
دمعٌ في الهجير، نبعٌ يتمشّي فوق قدمين، نُسكٌ يمرعُ في الياسمين، اسمٌ يُحَزُّ على قارعة النهار. الوبلُ والإبلُ والخيلُ والسيلُ والجهلُ والمنهلُ العذبُ يواقيتُ يتزيّا بها ممشاي الملتهبُ.. أعذبُ من أيّ شيء الكلمة ُ، حين يُستطابُ طعمُها. وحين يُطفيْ اوارَالسعير.
…………………
هنا الليلُ مجرى حُلمي، يهدأُ ويشتط ُّ ويتناسلُ ويتكاسلُ عن عمد أوسبق اصرار. طفلٌ يقرعُ باب مشاكسته فيُفتحُ له سبيلُ التمرّد على النصيحة. لكنّ النصحَ فيه شحنة ُ الإنضباط فيرتدّ عائداً الى رُشده. تعالَ الى النافذة ترَ غجراً افترشوا البلاطَ الزمهرير، وسينامون ليلتهم لصقَ شقتنا. كانوا اضرموا ناراً يصطلون بها ويطبخون الطعام. دخان يُزكم الأنوف، سخامٌ يُسورُ القدر الكبير، حباتُ البطاطة تستقرُ في القاع، اطفالٌ يتراكضون. عاد الطفلُ الى جهاز الكومبيتر النقّال، يبحثُ عمّا يقطعُ به اوتار الملل. وأنا أكونُ في صقع آخر ابحثُ عن خالي الذي يترك بيته نصفَ عام من كلّ عام ويهيم على غير هدىً. أسألُ زوجته عنه فتجيب إنّه لم يُخبرني أبداً أين يذهبُ. وحين يعودُ في أيّة ساعة ينبغي أن يكون طعامُه جاهزاً والّا سيُشبِعني ضرباً ويُمزّقُ ثوبي الذي ارتديه. قلت»مع نفسي» من المؤسف أن يُمزّقَ هذا الثوبُ الذي جعلكِ اصغرَ من عمرك أعواماً، ثوبٌ ابيض مُغطىً بدوائر حُمر بحجم الفلس العراقي الملكي. وأضحكُ من حماقتي. نجلسُ في صالة تمتليء بالمقاعد. مقعدانا في الوسط وامرأةُ الخال تأتي وتروح ولا ندري ما تقومُ به، الغجرُ المُنتشرون جوار شقتنا لم يناموا، بل نام صغارُهم، والكبارُ استغرقوا في الثرثرة. وستمضي بهم الليلة ُعلى حالهم. لم انمْ، كنتُ في مكان آخر. كان خالي يجلس جوار سورعال على صفيحة تنك مقلوب، واسلم َ رأسه ولحيته الى حلاق جوّال. ومن مكاني ناديته. حين سمعني انتفض واقفاً ورمى الملاءة البيضاء وغادر حاملاً حقيبته الجلدية الصغيرة. مضى والجاً زقاقاً. هنا انا الآن فوق مرتفع أعلى من بيوت الحي، دلفتُ الى بيت كان بيت جدي. ووجدتُ مَنْ يسكنون فيه غرباء، اعرف كلّ زواية فيه وأنا اروم ُولوجَه من المدخل والخروج من باب الصالة الى شارع آخر. استغربتُ وجودهم ولم يستغربوا اقتحامي البيت، بل ذكروا اسمَي خاليَ الآخرَينِ» أحدُهما علمانيّ والثاني سلفيّ معتدل»وتجاهلوا اسم الثالث »العبثي» الذي أبحثُ عنه. اعتذرتُ ومضيتُ افتحُ الباب المُفضي الى الخارج. هناك كان مدرج طائرات قديم تستعرضُ عليه صفوفٌ من طلبة الكشّافة. كان صديقي»بدر»هو المشرف على المهرجان. من حُسن التوقيت أنني وصلتُ في آخر اللحظات وقد لحظتُ آخرَ صفّ ٍ من الطلاب. أنبأني بدرٌ أنّه رأى خالي داخلاً في الزقاق وبوسعنا اللحاق به. كيف عرف أني ابحثُ عنه؟ سؤال كتومٌ أجاب عنه »رأيتك تلهث للحاق به، لكنه مشغول بشيء أقضّ مضجعه. هلمّ نلحقْ به»وجرينا تبتلعنا فوهة ُ الزقاق، ورأيـتُه من الخلف، كان يرتدي بدلة بنيّة غامقة. وهو خيّاطٌ متقاعد مشهور. وضعتُ يدي على كتفه فألتفتَ نحوي كما لو كان يدري برغبتي في لقائه. كنتُ اطول منه قامة ً، لم أكنْ قبلاً هكذا، انحنيتُ عليه اقبّله، وهوَتْ شفتاي على عينه اليسرى، ثمّ استدركتُ ولثمتُ رأسه، فيما اكتفى بدرٌ بمصافحته. جرينا بضع خطوات ثمّ ولج مقهى صغيراً وتبعناه »سنشرب شاياً واحدّثكم عن مشكلتي»ردّ بدرٌ مُبادراً »اعرفُ مشكلتك، وستجدُ عندي عوناً»كيف عرفتَ؟ سأل خالي»سكت بدرُ وغض بصرَه. وبسرعة احتسينا شاينا»هذا آخرُ يوم، سيرمون اغراضي في الشارع»همس خالي..همهم َ بدرٌ بحياء »لديّ غرفة كبيرة تستوعبها كلها»ولم نكدْ نمضي خطوات حتى اختفينا جميعاً. انا في مكان أرومُ قضاء حاجتي فقد امتلأتْ مثانتي. وقفتُ قبالة مرحاض انتظرُ خروج مَنْ بداخله. وقرع الحارسُ على الباب وتكلما قليلاً، والتفتَ اليّ انّه مصابٌ بالإسهال وسيطولُ مكثُه فيه، عليك أن تنتظر. وانتظرتُ ثُم يئستُ. عندئذ حدثَ ما لم أكنْ أتوقع ُ. ظهر رجلٌ صيني أو ياباني وعندما رآني أراني باباً في صدريته البيضاء التي يرتديها ادخل بسرعة، المرحاضُ على اليسار. توغلتُ في صدريته، وقضيتُ حاجتي. وحين خرجتُ انحنى لي باسماً ومضى. لم أسألْ نفسي ولا أحداً كيف حدثُ كلُّ ذلك؟ والآن أنا جائع ابحثُ عن مطعم. مررتُ أمام بضعة مطاعم فلم ترقني اطعمتُها المعروضة. كتمتُ غيظي ابحثُ عن شارع آخر، فالتقيتُ الرجل الصيني نفسه، انحني لي ثانية واشار الى صدريته فقد رُسمت عليها مائدة طافحة بالوان الطعام، توغلتُ فيها وجلستُ، وجاء آخرون لينضموا اليّ. وتناولتُ ما لذّ لي وطاب، واحتسيتُ غبئذ ٍ فنجان قهوة وغادرتُ المائدة لأجدني امام الرجل الصيني. قال بلغة عربية ركيكة كلّ ما تحتاجه تجدُه هنا»مشيراً الى صدريته»لكنْ أين اجدُك؟»اطلبني وحسبُ»أنا لا اعرفُك»ليس مهماً أن تعرفني»اذنْ، اريد أن اعود الى بيتي»فتح صدريته وبان بابُ شقتنا فولجتُه. كان عليّ أنْ اشكر زوجتي لأنّها دلّتِ الرجلَ الصيني عليّ في الوقت المناسب، لكن اخشى انْ تستاء مني، فلديّ مطالبُ كثيرة قد يكون بعضُها ممّا تكرهه ولا ترضى به. اذن، ساؤجلها الى حين يكون مزاجُها رائقاً، ثمّ أنّ عملها سرٌّ لا ينبغي أنْ يرى ويسمع تفصيلاته آخرون غيري. تلك الرغباتُ التى تُلبّى عن هذا الطريق لا ينبغي ان تتجاوز سوانا….
AZP09

مشاركة