زمان جديد

زمان جديد
كلكامش بريطاني
عبد الرزاق الربيعي
حين قرأت خبر المعمر العراقي مع صورته علي هذه الصفحة الاسبوع الماضي الذي نال الجنسية البريطانية بعد أن بلغ 104 من العمر لم يلفت نظري ما في الموقف من لمسة إنسانية، فعندما تمنح دولة جنسيتها لشيخ طاعن في السن لا تنتظر منه سوي مواراة جثمانه في ترابها، أطال الله في عمره، فهذا دليل عطف وتوقير لا نجده في بلدان تسير علي شريعة سمحاء تعطف علي الصغير وتوقر الكبير لكنها تتردد في منح إقامة لشخص تجاوز السن القانونية وكأنه مادة منتهية الصلاحية!!
ولم يلفت نظري الوضع التراجيدي الذي جعل شيخا يغادر بلداً عاش تحت سمائه 98 سنة بالتمام والكمال ليبدأ رحلة جديدة من حياته بعد أن بلغ من العمر عتيّا وست حبات اضافيات!
لكن الذي استوقفني هو كيف استطاع هذا العراقي أن ينجو من عواصف الموت التي تهب بين ليلة وضحاها علي مدي 98سنة في بلد تراجعت به معدلات أواسط الأعمار الي حدود قصوي بسبب الظروف الاستثنائية الصعبة التي عاشها ويعيشها سكانه فانقرض الشباب خلال سنوات الحرب وكثرت نسبة وفيات الشيوخ والأطفال خلال سنوات الحصار؟
كيف أفلت هذا المعمّر من أمراض معاصرة صارت ملازمة للعراقيين كارتفاع ضغط الدم والسكري ناهيك عن أوبئة النصف الأول من القرن الماضي وفيضانات دجلة في تلك العقود وصراعات الأحزاب الدموية في الخمسينيات والستينيات وتقارير المخبرين السريين و براثن حروب الثمانينيات وحصارات التسعينيات وإنتحاريي مابعد 2003 وتفجيراتهم ووو…
حين قرأت الخبر دخلت شقيقتي الصغري الماسنجر لتحمل لي خبرا حزينا قالت لي إن ابن جارنا في مدينة الثورة صلاح الذي يبلغ عامين اختطف خطأ كيف؟
لأن والده يعمل سائقا في سيارة مدير عام في احدي الوزارات، فشاهد المختطفون السيارة الفارهة فظنوا إنها لوالد الطفل فاختطفوه من حديقة البيت وساوموا والده وبعد أن دفع المبلغ الذي طلبوه،بالدولار عدا ونقدا، سلموه جثة ولده مذبوحا وحين سألهم: لماذا ذبحتموه؟ أجابونا:لأنه ذبحنا بالصراخ والبكاء: بابا ماما
فإذا استبعدنا الست سنوات الهانئة التي أمضاها شيخنا المعمر ببريطانيا، كيف يمكن لعراقي أن يصمد في وجه عواصف الموت 98سنة؟
ذات يوم كنت أسيراً في شارع الرشيد فمر موكب جنائزي، وهو أمر مألوف جدا،لكن غير المألوف أن التوابيت الملفوفة بالعلم العراقي كانت صغيرة لذا طويت تلك الأعلام طيات عدة! وحين استفسرت علمت إن التوابيت تعود لطلاب مدرسة ابتدائية، كان اسم تلك المدرسة “بلاط الشهداء”، سقط عليها صاروخ إيراني، فقلت لصاحب لي، أسلم الروح فيما بعد:
ــ يا الهي، بدأ شهداؤنا يصغرون يوما بعد آخر!
في تلك السنوات كنا نشاهد جنائز الشهداء في شوارع بغداد بشكل يومي، مثلما كنا نشاهد اللافتات السود علي الحيطان، ولكن أن نشاهد جنائز لشهداء صغار فهذا كان أمرا لافتاً للنظر!
كيف يمكن لعراقي أن يصمد بوجه عواصف الموت 98 سنة؟
ثم عصفت بالبلاد مواسم جديدة للموت،
لكن أغربها أن يموت عراقي بعد ولادته بساعة واحدة!
حدث ذلك في مستشفي الحلة فعندما وضعت أم مولودها في مستشفي الحلة عام 2006 طلبوا نقلها الي جناح آخر وخلال عملية النقل جعل حظ الرضيع العاثر أن يمر قرب الاستعلامات وفي تلك الدقائق فجر انتحاري نفسه في حشد من المرضي فسقط عشرات القتلي وكان من بينهم ذلك الرضيع الذي ولد قبل ساعة من وقوع الحادث ولم يكن يحمل اسما بعد!
فكيف يمكن لعراقي أن يصمد بوجه الموت 98سنة؟ أمراض غريبة داهمت البلاد وجوع ووو
وطالما رددت قول الشاعر عبدالوهاب البياتي:
“أيتها الأرض التي تعفنت
فيها لحوم الخيل والأطفال والنساء
وجثث الأفكار
أيتها السنابل
هذا أوان الموت والحصاد”
لكن الحياة ابتسمت ابتسامة عريضة لهذا الشيخ ولو بعد قرن الا قليلا!
فعندما تمنحه بريطانيا هذا التاج،جنسيتها، ليس لأنه أقام علي أرضها ست سنوات فقط، حسب القوانين السائدة في الدول الأوربية، بل لأنه قاوم الفناء كأي كلكامش ذلك لأنه صمد بوجه الموت 98 سنة!
/2/2012 Issue 4124 – Date 17- Azzaman International Newspape
جريدة »الزمان« الدولية – العدد 4124 – التاريخ 17/2/2012
AZP20
RZRB

مشاركة