زمان جديد ـ مذكرات المس بيل ـ مهدي شاكر العبيدي
وقع في يدي كتيب قوامه مائة وست وعشرون صفحة من الحجم الصغير يحمل عنوان مذكرات المس بيل ــ الجاسوسة البريطانية في العراق ــ ابّان ثورة العشرين، ترجمه جعفر الخياط، وهو من قدامى المربين ومتسنمي مراكز ومناصب مرموقة في سنوات غابرة، واشتهر بحزمه وكفايته وحسن ادارته لشؤون ووجائب ومهمات ذات شأن وأهمية في وزارة المعارف العراقية في سنوات العهد الملكي، ولعلي سمعت بأنه كان يشغل وظيفةً ما في ديوان وزارة المعارف ذاتها، ذات صلة وعلاقة بالتعليم المهني ابّان منتصف ثمانينيات القرن الماضي وقد صار الى سن متقدمةٍ، ثم جدَّت حوادثُ وصروفٌ أودت بمجتمعنا الى التشرذم والى أن يفرط كل فرد بالأواخي والروابط التي تصله بغيره، والى أن لا يعنيه شأن الآخرين، حتى لو كانوا من أعيان البلد ووجوهه، فما أظنه بعد هذه الثلاثة عقود المتصرمة ما فتئ عاشاً بيننا ودارجاً معنا في الحياة، ثم أن ميزة جعفر الخياط رغم أنه المضطلع وحده دونما معاونة من أحد بذلك العمل الترجمي الخطير والمهم في انفتاح الثقافة العربية والعراقية منها بالأخص للسِفر التاريخي الضخم عن أربعة قرون من تاريخ العراق الحديث والذي كتبه مرافق الحملة البريطانية الغازية لبلدنا على مراحل، حيث اصطدمت بما لدى المتسيدين العثمانيين قبلهم في هذه الربوع والأهالي معاً من عتادٍ وقوةٍ تمكنهم من الثبات والمصاولة آناً، أو تهي فيضطرون للتراجع آناً آخر، حتى قُدِّر للغزاة الجدد أن يدركوا غايتهم ويبلغوا قصدهم بالتالي بعد أن تمهد أمامهم السبيل فدخلوا بغداد في 11 آذار 1917م، قلت كتب ذلك السفر رجلٌ من العسكر منتظمٌ في الحملة البريطانية على العراق يباين نظراءه في القوة الزاحفة في أمياله وجماع اهتماماته هو المسمى لونكريك ، وغدا الكتاب ذاك مرجعاً مهماً نافعاً يعوِّل عليه الباحثون في تقصي الحقائق الخافية على أذهان الكثيرين وتقرِّي أحوال الناس وانماط معيشتهم وعلائقهم بحاكميهم المتعاقبين طوال أحايين هذه الأربعة قرون لا غير، وقد اقتبست جريدة الزمان قبل مدة شذرات وفقرات مُكوِّنة ومُؤلفة لفصولٍ منه، نشرتها بطبعتيها بلندنٍ وبغداد، مشهرةً صيت هذا العلم المجهول ــ أي المترجم ــ ومنبهة جهده هذا المبخوس، هو الذي لا يكترث بحب الاشتهار والظهور على الرغم مما تهيأ له في ترجمة هذا الأثر من لغةٍ رصينةٍ همها ضبط الوقائع المدونة من لدن المؤلف الأصلي بلا تزيّد أو اقـتضابٍ أو تفصيلٍ مغرٍ بالاطناب والتوشية. ولنواصل مستأنفين وصفنا لكتيبه المُترجَم الثاني والناقل للانطباعات المتكونة في ذهن هذه الجاسوسة البريطانية حسبما يزري بها غلافه أو يوحي به من التشهير والقدح بذمتها، على حين يسلك بها الأب لويس شيخو اليسوعي في عداد المستشرقين عند تصنيفه للآداب العربية في القرن التاسع عشر والربع الأول من القرن العشرين، لما لمسه من اهتمامها بالآثار التاريخية واقبالها على حذق اللهجات المحلية المتداولة بين الأقطار العربية التي تجولت فيها، وبالتالي خلصت لها شؤونها وتحكمت علناً أو من وراء ستار بحاضر العراق ومستقبله وتعيين رجال الادارة والحكم فيه وتنصيب من تخاله مؤهلاً لأن يكون رئيسه الأعلى، وظلت تعمل هنا الى جانب المبعوث البريطاني وقرينها الآخر السير بيرسي كوكس، وحظيت بعنوان وظيفة السكريتير الشرقي في خدمة مصلحة بلادها على حساب استنزاف ما تحوزه بلادنا من خاماتٍ وموارد، مستعينةً في الوصول لهذه البغية بصنائع وأجراء منا لم ينوا في صرفنا عن الشكاة والتسخط، أو لجم أفمامنا عن الاحتجاج وعدم ارتضائنا لهذا الحال المقرف حتى وافتها المنية في 12 تموز 1926م ودفنت في بغداد بمقبرة نصارى البلد قرب ساحة الطيران، علماً أن مراجع أخرى تفيد أن مدفنها في مقبرة الانجليز بالباب المعظم. تفيد صفحة غلافه المزدانة بصورة مونقة لها وهي مرتدية أو مغطية رأسها بقبعة مدنية جميلة والى جانبها خارطة للبلاد العراقية ودونها حفنة من العملات الورقية أراني قاصراً عن تفسير رموز هذا المشهد عدا أنه يرمز الى السلطة التي كانت تتمتع بها، ويفيدنا في الصفحة ذي والتي تليها أن الطبعة هذه جديدة ومصححة و منقحة ومصورة، وأسفل كل هذه التعريفات والتوصيفات نقرأ عبارة مراجعة وتصحيح حسن البدري النجّار وكلمة النجار موضوعة بين قوسين، وهذه فذلكة جديدة أن يحمل الفرد لقبين متباينين زيادةً في تعريف نفسه للقارئ، وهكذا لم يدع طابعوه شيئاً دون تحلية له بقصد استدراج ممتهني جمع الكتب للاستزادة من محتوياتها أو لمجرد اعتيادها، فنصير على دراية أن الناشر هو دار المجتبى المقترنة بتعبير بين قوسين ــ عليه السلام ــ والمطبعة تدعى برهان ، فأما مركز التوزيع فهو مكتبة النجّار، الا اسم الوطن المحتوي لهذه المكتبة ودار النشر ومطبعتها. وصور الكتاب الدالة لا غبار عليها على الرغم من محدودية حجمها، والورق المؤثر نوعه لافراغ مادته عليه مقبولٌ لجماليته ونصاعته في البياض، غير أن المرفوض والمُفرَّط في بلوغه والوصول لشأوٍ منه وحد هو التصحيح الموعود به والتنقيح المتوخى ان لم ينتفيا وينعدما بالمرة، فلا تكاد صفحة منه تخلو من السقطات الطباعية والاملائية واحلال مفردة محل أخرى على حساب تشويه المعنى وتعمية المقصود، ولا ذنب للمترجم الثبتِ في ذلك، لاسيما أن سنة الطبع قريبة من يومنا الحاضر، فسنة 2006م بلغت فيها الطباعة منتهى ما يرتجى منها ويرغب فيه مؤلفو الكتب من الصحة والضبط والاتقان
فالخدمة العسكرية تصير المذمة العسكرية
والتجنيد يصير التجديد
ولتمويل يغدو لتحويل
وثرائه يغدو وثراه
وغير هذا الكثير وقد لا يندرج في باب النقد مع أن الكاتب المصري مصطفى عبد اللطيف السحرتي نوّه بعناية بعض النقاد به وادراكهم لضرورته وذلك في كتابه الفن الأدبي الصادر منذ زمنٍ بعيد.
واستذكر بعد هذا التفصيل في حياة مؤلفة الكتاب وشخصيتها المؤثرة في نفسيات رجال السياسة في العراق وتفننها في استبعاد هذا والغاء كل دور له في تمشية أمور البلد، وبعكسه من ادناء آخر واطلاق يده فيها، هذا الى معرفتها بأصول الأجناس والعناصر المكونة للشعب العراقي وتقسيماتهم الدينية والمذهبية ولجوئها الى التسلح بوسائل الختل والمكر والمداهنة في التعامل معهم، قلت أستذكر قصيدة للجواهري في ثلبها وذمها والاقتصاص من افتقادها الأمانة والذمة وتجردها من النظر الموضوعي عند كتابتها ذكرياتها هذه التي ظهرت للوجود ولمّا ينتهِ العقد الثالث من القرن العشرين، فلا بُد من أن طبعةً للكتاب ظهرت باللسان العربي بفضل مترجمٍ آخر وقتذاك واستقبلها العراقيون بالاستهجان والاستقباح لكل محاولة تبغي تفريق كلمتهم وتمزيق صفهم.
AZP20