زمان جديد ـ خطرات و شذور ـ مهدي شاكر العبيدي

زمان جديد ـ خطرات و شذور ـ مهدي شاكر العبيدي
1
الأديب الحقيقي
هل ثمَّة بين الأدباء من هو غير حقيقي مجرد من الموهبة وخال ٍمن الاحساس بقيمتها؟ وأنَّ مجمل نتاجه لغو فارغ وثرثرة تنفر منها الأذواق والنفوس، ويعدم صاحبها أيَّ ميزة تومئ الى شخصه وتشير اليه كأنْ يكون اختط طريقة ًفي عرض موضوعاتـه، واعتمد أسلـوباً في الكتابة يغري القرَّاء عموماً بالاقبال عليه وتداول ما يطلع عليهم به من التفسير والتحليل، فيتبينوا وجهات نظره في شتى مشكلات العصر وقضايا المجتمع، ويتابعوه في رأيه ونظرته لعواملها ومسبباتها، ويصيروا الى دراية تامة بجديته ودأبه وفرط عنايته باثراء محصلته اللغوية التي تزيده رصانة وتمكن لكتاباته من السيرورة والانتشار والقبول من لدن الجمهور القارئ. اذنْ يمكن حصر مياسم الأديب الحقيقي واجمالها في أنْ يكون من ذوي الآراء المحددة الثابتة بشأن ما تعج به الحياة من حوله، وأنْ يختص بميزة تفرده عن أقرانه ولداته من المنشئين والكاتبين، بحيث يصح الاجماع على أدائه المتماسك وأسلوبه المطبوع وبيانه المستوفي خصائصه المقبولة وعناصره المحيطة بأفكاره ومعانيه وخواطر نفسه. استهللت هذه الخاطرة بايماءة الى وجوب عرفان الأديب بقيمة موهبته الأدبية وتقديره لأهميتها في تنوير العقول واضاءة الأفهام، وقد تعددت وجوه القول في معنى الأدب وكنه الأديب، وتوارثت الأجيال المتلاحقة شتى الدلالات والفحاوى لغاياته ومراميه، وأبينها مـا ألمح اليه التبريزي في شرح الحماسة من أنَّ الأدب اسم لما يفعله الانسان فيتزين به في الناس، وما أجمله أحمد حسن الزيات بعد شرح وتفصيل واطناب بصدد بعض ملابساته انــَّه يعني استكمال مزايا الانسانية من حُرِّ الخلال وكرم الفعال وحسن السيرة، الى آخر ما شغف به الزَّيات نفسه في عبارته من المرادفات اللغوية، ولم يقل أحدٌ انـَّه صنو للمراهقة ولوازمها من الرَّغبة في الاشتهار وحبِّ الظهور.
2
القدرة على الجذب
خصلة محببة ومطلوبة في أحيان كثيرة، ويحتاجها الأديب الذي يغشى المحافل ويتردد على المنتديات التي يشتجر فيها الخلاف بين النظراء والأنداد، حول شتى الأفكار والآراء ذات الصلة بالشؤون الاجتماعية والقضايا الأدبية والفكرية، ومفادها أنْ يستولي المرء وهو يتحدَّث أو يرسل نظراته وانطباعاته ووجهات تفكيره بصدد القضية المعروضة للنقاش الذي قد يتطورُ ويجرُّ الى اللدد والملاحاة، قلتُ يستولي على أسماع الحاضرين ويستأثر باعجابهم واستهوائهم لفرط ما يمتلكه من لباقة وتظرُّف ولوذعية فضلاً عن دماثته وحسن أدبه واحترامه للرأي الآخر واحتراسه من الشطط والتعسُّف أنْ يغلبا على طبيعته ويوجها سلوكه ويسيّرا رأيه. ونقيض هذه السليقة التي لهج بها الكاتب المصري المعروف يحيى حقي وألمح الى جدواها ونفعها العميم عبر كتاباته وردوده على الأسئلة والاستفسارات المطروحة من لدن الصحفيين خلال ما يدعى بالمقابلات التي غدتْ اليوم من الفنون الصحفية المهمة، هو فرط العناد والمكابرة وادِّعاء العصمة من الغلط وتمادي ذوي هذه الآفات والصِّفات المرذولة في ترجيح رأيهم بمناسبة أو بدونها، متوهمين انـَّه الصَّواب عينه ومحال أنْ يتردُّوا في هوة أو يقتربوا في يوم ما وفي كلِّ أحكامهم من الضَّلال، مما يستدرجنا لتذكر قول المتنبي القاطع لكلِّ تعقيب أو تعليق في هذا السياق ومن جهلت نفسه قدرها رأى غيره فيه ما لا يرى على أنَّ الحظَّ كثيراً ما يتحكم في تعيين نصيب المرء من القبول أو النفور وانفضاض العشراء عنه وزهادتهم في الدنو منه وتكريس عزلته، وهذا ما يلحظ في المؤتمرات الأدبية حيث التجمعات والنخب والحديث المتكلف عن الالتزام والوظيفة الأدبية والمعارك القلمية السابقة بين النقاد، وما يصاحب ذلك عادةً من كثرة الايماء بالأيدي والتشديد على مخارج الحروف ايهاماً بالفهم والاحاطة والاستيعاب، ولا دخل للخصلة المنوَّه بها في ذلك أو عدمها.

3
الفلاكة والمفلوكون
من أنفس ذخائر التراث العربي كتاب عنوانه الفلاكة والمفلوكون ألفه واحد من مجتهدة القلم والفكر هو أحمد بن علي الدلجي الذي عاش في دلجة بصعيد مصر بين 770ــ 838هـ كتبه بعد أنْ استلفت نظره ما يراه كلَّ آن ٍغالباًعلى سلائق الناس من شذوذ ونزق وحمق وغرابة أطوار، ومن شعور بالاغتراب واحساس بالذل والمهانة، وتطلع من كـلِّ هذه الأحوال الشائنة المزرية وبالرَّغم منها الى المخلص المنجي عسى أنْ يشملهم بالرَّحمة والحنان ، ويغمر نفوسهم بالصفو وراحة البال، ويؤهلهم لتسوية مشكلاتهم في هذا العالم المضطرب والائتلاف مع بقية الجنس البشري ووضع حدٍ ونهاية لصدامهم معه، وذاك معناه أنْ تنتفي منه المفارقات والنقائض التي تسود حياتهم، فيقلعوا عن القراع والنزال، لكن هيهات فهذا المطلب عسير التحقق أو في حكم المحال، وقد بُنيت على كدرٍ وجُبلت على نحس. وقد تعود أسباب الفلاكة وعواملها الى الفقر الذي شخصَّه من قبل مئات السنين عبد الله بن المقفع انـَّه رأس البلاء وأصل جميع الرذائل وجالب الشؤم والموفي بصاحبه على الهوان والضعة والزراية به بين الخلائق دون أنْ يتجاوز في تشخيصه هذا الوصف أكثر كأنْ يستجلي ما يتشعب عنه من أوضاع منفرة وحالاتٍ غريبة تتجلى في تمادي ذويها في اهمال مظهرهم وعدم عنايتهم بمأكلهم وملبسهم، حيث الفلاكة في أقبح صورها وأدنى درجاتها من عدم الاكتراث والبرم بلوم اللائمين واشفاق المشفقين. وقد لوحظ أن الجمهرة من الناس الذين تشيع بينهم هذه الظاهرة العجيبة هم العلماء والمفكرون والأدباء لفرط ما يخامرهم من الأشواق الروحية ودون بلوغها والوصول اليها ثمَّة أهوال وأهوال، فضلاًعن توقهم وطماحتهم الى الكمال، ونزوعهم الى أنْ يستتم كل شيء بلا نقصان أو معرَّة، فاذا آلَ الأمر على غير ما يوافق مشربهم وهواهم، انتهت بهم الحال الى التضجر وموالاة شكاتهم وبالتالي يأسهم من صلاح حال العباد.
ولعلَّ فـي سيرة الدكتور زكي مبارك وامتحانه بأخلاق أبناء الزَّمان، خير مثال ودليل على حالة الفلاكة المقرفة، فقد شعر انـَّه غير موقر ومبجل كما ينبغي وانـَّه مهمل من لدن رؤسائه والمتصدرين في الجامعة وراح يطلق لسانه بالذم والتخرُّص لتقريعهم وتبكيتهم كي ينتصف لنفسه، مـذكرا ًاياهم بتصنيفه أروع المؤلفات والدِّراسات في الأدب العربي والفكر الاسلامي خصوصا ًرسالتيه الأكاديميتين في النثر الفني والتصوف الاسلامي ومباهيا ًفي الوقت نفـسه بصبره على الجوع والضنى واستغراقه في الدَّرس والتمحيص والمقارنة ليصار به الى هذه التوصلات العلمية الباهرة، لكن دون أنْ يتبوأ مكانته كما يجب وخلص اليها غيره من المشتغلين باللغات القديمة التي عفا عليها الزَّمان، وما يزعمونه من ترجمتهم لبعض لقياتها وآثارها هو منقول بنصِّه وفصِّه عن اللغات الأوربية المحدثة، وقد طال تحديه وشنآنه أستاذه طه حسين الذي يذكره بالخير دائماً واصفاً خـلافـه معه انـَّه متصل بقضايا أدبية صرف وليس شخصياً سوى أنـَّه تسبب في ابعاده عن الجامعة ذات يوم لأنـَّه لم يحافظ على حرمةِ الأستاذ الجامعي ويحرص على سمته ومهابته، بحيث تقبل هدايا تلميذه في كلية الحقوق فؤاد سراج الدين وكان ابن ذوات، هذه الهدايا المتمثلة بالعطور وغيرها ساعدت على انجاحه في الامتحانات، بذريعة انَّ مادة الأدب العربي دخيلة على دارس الحقوق وغيـر محوجة الى الاجتهاد والتعمق.
وفؤاد سراج الدين هذا هو مؤسس حزب الوفد الجديد، ووزير الداخلية في آخر تشكيلة وزارية لحزب الوفد بزعامة النحاس، يوم ذاع نبأ موت زكي مبارك في عرض الطريق، فقد دعسته سيارة أو ارتطمت به اثر مغادرته الحانة التي يحتسي خمرته فيها، ويؤثر أنْ يتناولها واقفاً يشكو لعموم الناس ما يقاسي من اعراض واهمال، ومن كمد والتياع وحسرة، وهذه هي الفلاكة بعينها
4
من ضروب الفلاكة
كان المرحوم مصطفى صادق الرافعي موقناً بوجود الحسد في الطبيعة البشرية وغلبته عليها، معتقداً بسوء تأثيره في شخص المحسود، كأنْ يحد من مثابرته ويوهن من قواه، وكثيراً ما انبرى معانداً لقريعه سلامة موسى، ومنبياً عن قرب صدور كتاب جديد من تأليفه وتبويبه يغيظ به الحـسَّاد، فيما يقول، فلا يصادف ذلك الا اتهاماً بالتخريف والجهل بقيم الحياة الحقة في القرن الماضي من لدن ذلك المناظر المستمسك بأهداب العلم، على ما يقرأه في كتب الديانات من حكايات تفيض في مضارِّه فضلاً عن المامه واحاطته بما تشكـَّى منه الشعراء في مختلف العصور، أو تعوذوا من شرته بغير منجى ومهرب، ومن ذلك ما التمسه أحمد شوقي من عاذرة ومسوغ للحساد في بيته الشعري السائر
فاعذر الحاسدين فيها اذا لاموا فصعب على الحسود الثناء
ذلك ان هذه الزُّمرة من الحساد تختلق شتى المفتريات حول التاريخ المصري ولا تقر ببعض الفضل لأبنائه في صنع مفاخره وأمجاده.
وأعرف أنْ يتنافس التجار وأرباب المصالح ويعتركون حول المنافع ويشيع بينهم لون من التحاسد البغيض، ويطيل الواحد منهم النظر الـى ما في أيدي غيره على ما يحوزه من الوفرة الموفية به على البذخ والاسراف، غير أنـَّها لا تعرف حداً تقف عنده من الاكتفاء والتهوين على النفس ولوغها في الجشع والتكالب لكنـِّي أنكر أيَّ مدعاة لأنْ تستشري هذه الخصلة بين ذوي المواهب الأدبية، حتى لتغدو ضرباً من الفلاكة المقيتة الدَّالة على افتقاد التماسك والترصن والوقار، وهذا ما يفقهه أغلب الأدباء، ويتظاهرون بعصمتهم منه، ويَصِمُون غيرهم به من اللدات والأتراب، كأنـَّهم وحدهم المخاليق الشريفة في هذا العالم، على ما يقول ابراهيم عبد القادر المازني رحمه الله، وهـو سبق غيره من أدباء وادي النيل الى التسليم بعبثية الحياة وانتهاء كل شيء الى التلاشي والعدم، وكان من أكابر الكتـَّاب بحقِّ ويسح بالقول سحاً متى ما يشاء كما يثني عليه معاصروه.
فأي درجة من الصغار تبلغها نفس تضن بالثناء على صنيع أدبي وفني متكامل، يستحق أنْ تمتدحه على سبيل تشجيعه وحفز منشئه على تجاوزه وتخطيه الى الأسمى والأروع لا أنْ يمنى بالزراية والكنود، وادعاء أنـَّهم لم يطلعوا على الدورية التي احتوته من لدن من انتهوا الى نضوب ملكاتهم واجبال سلائقهم امعاناً في تجاهله وتمادياً في طمسه، كما هو جارٍ في المحيط الأدبي.
5
الأديب الرصين والأديب المفلوك
رغم أنـَّه حيي في عصر حافظ وشوقي وشهد ازدهار الحياة الأدبية في عهدهما فان النقاد والدارسين أهملوه ولم يكترثوا لشأنه ويحتفلوا به انـَّما أوقفوا مجهودهم على تحليل نتاجات غيره من معاصريه، لأنَّ جميع مـا يمتلكه من نبوغ وتفوق يبذ بهما قرناءه لا قيمة لهما بناءً على حالته المزرية واتضاع شأنه وعدم عنايته بالابقاء لنفسه على قدرٍ من السَّمت والرَّصانة والتماسك الشخصي، فلا غرو أنَّ فقه عبد الحميد الديب قبل غيره معنى ضياع كلِّ ما ينطق به مـن حكمة رفيعة ويرسله من قول بليغ ويعبر عنه من احساسات وخواطر
كأنه حكـمة المجـنون يرسلـهـا بغير وعي فلا تصغي لــها اذن
هو الهدى صرفتكم عنه محنته انَّ العـزيـز مهين حيـن يمتحـن
ألا فصونوه مـن بأسائـه كـرماً ولا تخلوه يوري شـره الـزمــن
وكذا عاش هذا الشاعر المفلوك حتى عام 1943م، مشرداً مضيعاً استنفدت قـوته الجثمانية وروحه المعنوية صنوف المخدرات والمسكرات التي يتناولها بنهم ٍوشراهة ٍدون أنْ تصدَّه عنها وتعصمه منها أو يلفي تحرجاً ازاء مالقنه أبَّان مطالع حياته من تلك المعارف الـتي تحض علـى التصون ومراعاة ما يأخذ به الناس في سلوكهم اليومي من وقار وحشمة. وانـّك لتعجب من مقدرته على صياغة هذه الأشعار المحتفظة بشيء من الاحكام وقوة النسج والسلاسة في وقتٍ معاً بالاعتماد على مطالعاته الأولى يوم كان طالباً في الأزهر ودار العلوم، دون أنْ يشفعها بمتابعة مـا يستجد فـي الوسط الأدبي والسَّاحة الثقافية عموماً من كتب ودوريات أو يروج من مذاهب وآراء أو يتداوله المثقفون من منطق ٍوفلسفةٍ، فلا مراء أنْ عمَّ هذا المزاج الفريد أو التصرُّف النادر أو السَّليقة المحببة على علاتها شتى البيئات في وطننا العربي قبل الحرب الماضية حيث كثر الأشباه والنظائر للشاعر عبد الحميد الديب ممن أمعـنوا في محاكاته وتقليده في اظهار سخطهم وتبرمهم بالأحوال الاجتماعية وما يسودها من نقائض ومفارقات، والغالب عليهم أنـَّهم محدودو الثقافة نزرو الاطلاع، للسبب الذي ألمعنا اليه، ولا يعدمون استغراقهم في الأوهام واستسلامهم للأخيلة المريضة، شأن قدوتهم الشَّاعر المصري. ومن قبيل ذلك ما حصل في العراق من تصدي شاعر مخمور ذات يوم وانبرائه للعلامة الرَّاحل مصطفى جواد أنْ يشهد له بتوقيعه على أنـَّه أديب كبير وشاعـر سامي العواطف، وحسب الرَّجل المسالم الذي لا قبل له بالعراك والمشاجرات وردع من تسيطر عليهم الفكرة الثابتة بشأن نبوغهم وعبقـريتهم، قلتُ حَسِب الرَّجل ذلك الطلب سهلاً يحله من كلِّ مسؤولية لأنَّ الورقة التي تحمل امضاءه لا بدَّ أنْ تضيع ولا تستحيل وثيقة البتة، كما يروي هذه الحكاية معاشرهُ وأصفياؤه عن الأديب المتماسك الرَّصين و صنوه الأديب المفلوك المتهافت بسبب فقره واحتياجه الى الأدنين.
كان الراحل عباس محمود العقاد يعنون بعض شوارده وأفكاره بهذا العنوان
AZP20

مشاركة