زمان جديد ـ تسعير الشلغم ـ مهدي شاكر العبيدي

زمان جديد ـ تسعير الشلغم ـ مهدي شاكر العبيدي
يتذكر أترابي وأبناء جيلي من المتولدين ابان ثلاثينيات القرن الماضي، ما حصل من قيام التظاهرات الشعبية في عموم حواضر العراق و أنحائه قبل واحد و ستين عاماً، معلنةً سخط الجمهور وتبرمة من الأوضاع المتردية في سائر أحواله المعيشية وشؤونه العامة، وكان خشيَ المسؤولون من تفاقمها واحتملوا أن توديَ بهم، فاستعانوا بقوات الجيش لتسوية الأمور والسيطرة على المرافق العامة بعد فرض منع التجوال ببغداد بضع ليالٍ تم تحت ستارها احتجازُ مَن يخالونهم مصدر الفتنة ومثيري الشغب بحسب ما اصطلحوا عليه من مسميات وأوصاف يلصقونها بالمتذمرين والوعاة والمتسمين بالحس الوطني، وشفعوا اجراءاتهم القمعية هذه بمصادرة حرية الأحزاب العلنية واغلاق الصحف عدا صحيفتي الزمان لصاحبها توفيق السمعاني، و الأخبار لجبران ملكون، ممن عُرِفا بالمسالمة والموادعة والتحوط في المسلك العام والوقوف على رأس مسافةٍ تنتهي عند مواضع الاحتراب والاحتدام والتحرش، كما أُستـُـثنيت من هذا التدبير صحيفة الدفاع ربما رعياً لمنزلة محررها السياسي وعضو مجلس الأعيان ووزير المعارف والدفاع في آونة وأخرى وهو المرحوم صادق البصام، لكن بعد وقت قصير عاد الهدوء والاستقرار للبلد، فطوى المتنفذون هذه الصفحة المعتمة تدريجياً، فأطلقوا سراح من احتجزوهم وراء الجدران من السياسيين المعروفين بمعارضتهم، ومن يحتذيهم ويقتفي ديدنهم من الشبان المندفعين المتحمسين، ولتنحسر هذه الأوضاع المقيتة بصورة يلوح أنها كلية، لولا أن تخللتها انتهاكات مريعة كابد منها سجناء الرأي في بغداد والكوت، بعد تناسي الملأ جهارتهم بأهون مطالبهم قبل مدة ليعلقوها بأمل مرتجى من وراء تتويج مليكهم فيصل وتسلمه سلطاته الدستورية، فتناسوا مغاظتهم واندفعوا يحوطونه بالتأييد والولاء.
وما أن انجابت حمارة قيظ صيف عام 1953 م حتى سمح ذوو الشأن للشعب باسترداد أنفاسه، فاستأنفت الأحزاب التي حظرتها الدوائر العسكرية نشاطها، وعاودت الصحف التي أرتؤي اغلاقها تأديتها مهماتها المتطلبة في الانتقاد والتنوير والتوعية الى جانب صحف أخرى أجيزت تواً، فاقتها في التنديد بمساوئ الفترة المولية واستقباح ما شحِنَت به من جرائر وأوزار، فكانت جريدة الجريدة التي أصدرها المحامي فائق السامرائي من أبين المنابر الاعلامية المعنية بشرح شكاوى المواطنين والمناداة بتحسين أحوالهم، فضلاً عن نشرها طرائف ونوادر مضحكة تزعم وقوعها لمن خلص لهم الزمام وتسيدوا على حكم العراق في مختلف الأدوار والأزمان، ومن ذلك ما وافاها به مواطن من منطقة الفرات الأوسط حول بعثه ببرقية الى رئيس الوزراء وقائد الجيش الجنرال نور الدين محمود الذي هدأ الأوضاع المضطربة وطمأن الشعب بالاستجابة لبعض مطالبه المشروعة واقرار حقه بالانتخاب المباشر لمجلس نوابه بدلاً من اجرائه على درجتين، ويعني ذلك أن يرشح بسطاء الناس بضعة أفراد من الموسرين والمعدودين من الوجهاء في مدينتهم، وهؤلاء يعوَّل على سرائرهم ودخائلهم في تخير مَن يؤثرونه بثقتهم من بين المرشحين للنيابة، فناهيك بأهواء أولاء النفر من المرشحين الثانويين وأمزجتهم، وما يتلقونه و يصدعون به من العمل بوحيه، من ضروب التوجيهات الصادرة من مراكز عليا، فتستحيل الانتخابات بناءً على ذينك الامتثال والنزول، مهزلةً من المهازل ومحض شكليةٍ لا غير، مع حرمان الجنس الثاني من مزاولة هذا الحق، ولا أدري متى أعترف للمرأة بأهليتها له؟ سوى إنه كان من أوائل الشعارات المتبناة من لدن الشيخ عبد الكريم الماشطة في دعايته الانتخابية للمجلس النيابي في أخريات ربيع عام 1954م وأوعاده المقطوعة لمؤيديه من سكنة الحلة وربوع بابل بأجمعها، إنه لو توفق في مشروعه الأولي هذا، فسيطرح فكرته هذه أمام رصفائه النواب وإنها ستحظى بمؤازرين من بينهم حتماً، لأن رعيل الحياة المتجددة في انتعاش وتزايد على عكس قوات الظلام والتخلف فهي أبداً في انحسارٍ وتوارٍ وتراجعٍ، غير إسن الشيخ أعلن انسحابه بعد ساعات قليلات من بدء الاقتراع لما لمسه من التزوير والتلاعب والانحياز لجانب مضادديه ومنافسيه في هذه اللعبة المشنوءة. وللكاتب المصري المشهور فتحي رضوان كتاب فريد وطريف في موضوعه وهو تبيان دور العمائم في تاريخ مصر الحديث أتى فيه على سِيَر جمال الدين الأفغاني ومحمد عبدة وعلي يوسف وعبد العزيز جاويش وغيرهم، وفصَّل في تأثيرهم الاجتماعي ودورهم في الحياة السياسية، وينزع أولاء كلهم نحو تنقية المعتقدات الدينية مما لابسها وطرأ عليها من الخرافات والأوهام بفعل خنوع معتنقيها للاستبداد والهوان في العصور المتأخرة، وتنظر عمامة الشيخ الماشطة الرجل المجدد المستنير لعمامة الشيخ محمد عبدة الذي أضنى نفسه وأغرقها في التفسير والتأويل للكثير من موروثات السلف مع بعض المباينات والتفاريق بينهما. كما إن قيادة الجيش وعلى رأسها الجنرال نور الدين محمود شرعت بوضع أسعارٍ جديدة ومخفضةٍ لما يباع في الأسواق من سلعٍ وحاجياتٍ ومواد غذائية وفي مقدمتها الخضراوات ومنها الشلغم، وشاع أنها احتسبته بفلسين اثنين للكيلو الواحد لأنه يأتي أخرها ومتدنياً عنها في الفائدة والاستهلاك، وكذا كانت برقية هذا المواطن المتظرف الى رئيس الوزراء الذي طلب اعفاءه من المسؤولية بعد مدة وجيزة وعـُـيّن عضواً في مجلس الأعيان وحلِئ من جميع امتيازاته وصلاحياته العسكرية، ويقال إنه دُوعب من قبل الوصي عبد الاله والباشا نوري السعيد حال تركه الخدمة بالجيش، إنهما ــ أي الوصي والباشا ــ توجسا خيفة من سطوته لو استدام بقاؤه على رأس القوات المسلحة، فهناك احتمال أن يحتذي صنيع اللواء محمد نجيب في مصر حيال الملك فاروق، ومن المظنون أن يجعل منه قبلته. قلت جاءت ديباجة برقية ذلك الفرد العراقي الظريف والذي افتضح خطلُ ظنِه بمتسلِمها، وأنه من السذاجة والغفلةِ بحيث يفوت ادراكه ما تنطوي عليه من السخرية والتهكم، فجيء به مخفوراً الى بغداد، كما قالت على ذمتها جريدة الجريدة لصاحبها فائق السامرائي، ونص برقيته كالتالي ان تسعيركم الشلغم أثلج صدورنا، سيروا على بركة الله
AZP20