زمان جديد ـ المغول ودولة بني العباس ـ مهدي شاكر العبيدي

زمان جديد ـ المغول ودولة بني العباس ـ مهدي شاكر العبيدي
طالما أسيء لمورثنا الثقافي وأنه ريم ببعده عن تمثيل روح عصره والدنو مما ينزل بحياة الجماعات من ضروب الخسف والإذلال ، وصنوف الحيف والامتهان ، دونما تجرؤ على إعلان السخط والاستنكار والاحتجاج والمجاهرة بالرفض بوجه ذوي الشأن والمتسيدين عليها ، وان ما انتهى إلينا منه وأبقته لنا العصور المنطوية بما شحنت به من الأهوال والغير، لا يعدو شواهد درج المدخولون على الصنعة الأدبية ومنتحلو مواصفات الأدباء الكُمَّل من اعتداد ورصانة وقوام شخصي بحيث يتحسسون تأثير الكلمة وخطرها وصداها ووقعها على الجمهور ، فلا يصدرون بها عن تكلف وتصنع وتخلٍ عن السليقة المطبوعة ، قلت درج أولاء المدخولون والمنتحلون على تنميق الشواهد المذكورة وتزويقها وقصرها على تملق الماسكين بزمام السلطان ولو بافتعال الخصائص والمزايا الموهومة ونسبها لهم في تعاملهم حيال أنفار ، أو معاشر من الناس كُتِب لهم أن يعنو لمشيئة أولاء المتجبرين الطغام وتُرتهن مصائرهم على وفق مشاربهم وأهوائهم ، ويرادف ذلك أن هوي إلى مستوى متدنٍ وهابط من السفسافية والتبذل في الآونة المتأخرة من ناحية نسجه ورصف ألفاظه وعدم كفاية منشئيه للإتيان بما يروق ويُعجب من النصوص الموسومة بالأسر والمتانة والإحكام ، بعد ما منيت حركة النهوض الثقافي والازدهار الفكري مما عمّ البلدان العربية والإسلامية قبل أن تُبتلى بنزو ذوي الأطماع وهواة الفتح والتغلب ، للإلواء بما قطعه غيرهم من شوط في ميدان حضاري ، ورقي إليه من شأوٍ على صُعدٍ متنوعة من خلو حياتهم من أيما كدرٍ وتنغيص ، وانغماسهم في عيشٍ رافهٍ متوافرة فيه حاجاتهم وأسبابهم وجميع ما يبتغون .
وأرى أنه قد بولغ في وصم الأحقاب الزمنية التي تلت اجتياح المغول لدولة بني العباس ، وما صحبه من التطويح بالملك والعصف بالخلافة وهدم دور العلم وتحريق الكتب ، وما أعقبه بعد وقت يسير من طغيان مياه دجلة ، فتعذر المضي قدماً في الفلاحة واستثمار الأرض ، وتبعه تفشي الأوبئة والأدواء ، وازدياد الوفيات فتناقص عدد السكان ، وبالتالي غدت جميع مظاهر الحياة الاعتيادية على الأقل ، تؤذن بالاضمحلال والانحسار ثم التلاشي .
غير أن الأيام تمضي وتطوي ما تمر به بعض الأمم من أكدار ونحوس ، فتستأنف مدّ البشرية قاطبة ورفدها بما ينعشها ويديم وجودها من قيم الخير والحق والأمل وتجاوز المصيبات والكوارث ، فلا غرو أن توقفت بغداد الحضارية بعض الوقت لتزكو ويثمر منتوجها في مرابع وديارات أخرى من العالم العربي ، فنستدل على خطل تسمية المؤرخين للفترة التي استحوذ فيها الأغراب على الحكم في بلاد المسلمين والذي أمكن للإسلام بعد وقتٍ أن يحتويهم ويعافوا منوالهم القديم في العبادة ، ونعتها بالفترة المظلمة لسبب يعود لظهور زمر من المنشئين وأصحاب البيان من الذين لم يتعودوا في مراسهم الكتابي إرسال نفوسهم على سجيتها ، وسلكوا طرائق من التعمل والتوشية والتحسين ، نمّت عن كثافة أرواحهم وثقلها ، وبدلاً من أن ينهجوا جادة العفوية ويوفقوا في جعل أسلوبهم الكتابي مقبولاً ، أغرقوا في الصنعة وتكلف الألفاظ الذي ما يتولد عنه غير غموض المعنى ونفور النفس منه وقلة صبرها واستئنائها في سوغه ، كما نلحظه ماثلاً بيناً في رسائل القاضي الفاضل ، لكن بعد زمن نشهد ظهور صفي الدين الحلي بشعره الرافض لما خلد إليه أترابه في غير رجأ وناحية ، من استكانة للهوان والاستعباد ، وقعود عن السعي لتغيير الحالات والأوضاع عبر نونيته المعروفة ،هذا من ناحية الشعر ، أما بخصوص النثر الذي نصل أربابه من استخدامه لغير أغراضه المألوفة قبلاً ، وأبينها تجسيد المقامات المتضمنة حكايات وصوراً من الحياة مفرغة جمعاء في أشكال وقوالب لفظية يغلب في سياقها التعسير والإعضال ، على تسجيلها واحتسابها للثقافة العربية ، سبقاً ملحوظاً في مزاولة ذويها للكتابة القصصية ومراسهم لأصولها وقواعدها الفنية ، على غير ما زعمه نفرٌ، من قومنا أنّا كنا عيالاً على الغرب في استحداث فنها وتعلمناه منهم ، قلت أما النثر فقد تشعبت أغراضه ومقاصده ، وتوزع هواته بين جغرافي ومؤرخ ومعني بالتأليف الموسوعي ، وترتب على ذلك ازدياد حركة التأليف وتداول الكتب بين طالبيها والمشغوفين بها وشيوع مهنة الوراقة وانصراف بعض الأدباء المتجملين بالنأي عن سدة السلطان إلى احتراف نسخ ما في الكتب كسبيل آيلٍ لتدبير نفقات عيشهم ، وإذا عُد عبد الرحمن بن خلدون وأسلوبه الرصين الذي يخلو من السجع ، مثلاً للعرب في نهوضهم الثقافي من ناحية زهادته في التصنع وجنفه عن التجنيس ، ومؤثراً تأديته لأفكاره وآرائه ، اقترابه من الاسلوب الحديث ، أسلوب البسط والترسل ، دونما تعويل على البريق اللفظي الذي لا يحكي الا عن السطحية والخواء ، قلت إذا عُدَ صاحب المقدمة قبلة العرب في تطورهم اللغوي قبل كل شيء، فيجدر بنا أن لا نهمل صنواً له عاش في قاهرة المعز زمنه وبعده وربما توشجتْ آصرته به أيام إلمامه بمصر ومكثه فيها حيناً من الدهر ، فقد عُرف عن مستقري قوانين الاجتماع ، والحضارة الانسانية ، كثرة تنقله بين الأمصار ، وانعقاد روابطه وصلاته بالولاة والمتصدرين إلى أن قسرته الأيام على اعتزالهم بعد أن خبر أطباعهم وخصالهم ومتى وكيف ينقمون ويسخطون .
AZP20