زمان جديد ـ الزمن الجميل ـ مهدي شاكر العبيدي
انهما كـُتيبان متلاصقان عثرت بهما أوعليهما لدى صبيِّ يقتعد أرضاً ليبيع للمارة حوائج متنوعةً مما يباشرون استخدامه لساعته وذلك لتيسير أمورهم وشؤونهم الحياتية، أويحتفظون به ويدخرونه لحين يجدون نفوسهم تلهث وراء طلبه، ومسألة العثور به أوعليه كانت في يوم سَلَفَ وغبر مبعث مساجلة واختلاف حول ما يشتملانه من تفسير ويتضمنانه من معنىً، بين الأب أنستانس ماري الكرملي المعروف بتمكنه من علوم العربية والمامه بشواردها وشواذها. والكاتب المصري الشهير محمد مندور الذي شهد النقد الأدبي غداة مراسه الكتابة في مجاله، تجدداً وانفتاحاً على مناهج الغربيين المتوسل بها في معاهدهم لفهم الأدب وتفسيره وتحليل نصوصه، وما أذكره من تباينهما في النظر للمقصود من التعبير ذاك، هوأن صاحب الميزان الجديد يرى أن تركيب عثر عليه يفيد ايجاد الشيء مصادفةً ولم يكن في عداد ما أسعى له وأجد في سبيله، وبعكسه دلالةً ومعنى عثر به ، ويعني أني جهدت وتحملت ما تحملت من العناء والضنى حتى ظفرت بالمأمول الذي أتطلع له وأرتجيه، وعلى أي حال فالكتيبان الملتصقان وكأنهما كتاب واحد، يستحقان منا ويستدعيان استطرادنا لتمييز اثنين من أعلام أدبنا بين فحوى عثر به وفحوى عثر عليه ، فطالما سعدت بغشيان محال الوراقين وباعة الكتب القديمة، وغنمت لقيات منها ونفائس مضيعةً كانت من بواعث حملي على الكتابة في شؤون مجتمعية وأغراض أدبية، فلي أن أسلك بهذين المطبوعين البسيطين اذا جاز التعبير، والنفيسين أيضاً مع ذلك، ولثرارة محتوياتهما، على أنهما من بقايا وموروثات الزمن الجميل الغابر، وعلى شاكلة ما تعمد له بعض القنوات الفضائية من آنلان، من تذكير مشاهديها بأغنيات الزمن الجميل وترهيف أسماعهم بها وابهاج نفوسهم. فأما الكتيبان المستويان أوالمتساويان في الحجم والمتقاربان في عدد الملازم فهما خواطر وآراء في الأدب والنقد للأديب الراحل فؤاد الونداوي، و أنا عاطل وقصص أخرى أو لوحات غرامية انسانية واقعية لكاتبها الأستاذ باسم عبدالحميد حمودي. وفؤاد الونداوي كان مرشحاً غداة غياب الفهامة مصطفى جواد للمداومة على القاء الأحاديث الاذاعية ولشغل مكانه منها وفيها، اذ هو ممتلك للصوت الجميل والقابلية الفائقة في اجتذاب الجمهور واسترعاء أفهامهم وشدهم اليه، كما قرأت في الصحف يومها، غير أنه رحل بعد مدة ودون أن يستدعي التفاتنا، وبوسعي تخمين مقدار عمره الزمني واحتسابه من وراء تمحيصي وتفرسي واجتلائي لموضوعه الأول الذي يلي المقدمة الموجزة من كتابه هذا المعثور عليه وبه والمُنتزَع من يد الصبيِّ عارضه للبيع وعنوانه حقائق تاريخ الأدب وطريقة عرضها، وقد يستبان منه أنه مكتوب على الأغلب في غضون عام 1947م، حيث يرد في أول سطرمنه أنه كان يتلقى تعليمه وتحصيله الثانوي قبل خمسة عشر عاماً كان مواظباً فيها على مطالعة كتب أدبية بصدد تاريخ الأدب العربي وأدوار ازدهاره ونموه، وترقيه في بيانه وأسلوبه، وتوسع موضوعاته وأغراضه، فضلاً عن تباين الاجتهادات والآراء حول استيفائه لمواصفات الابداع والنضج والتكامل أوتوافر له من الخصائص والعناصر الفنية التي أجمع عليها سائر الدارسين المحدثين. وكذا انصرفت الموضوعات التي كتبها فؤاد الونداوي الى تناول شؤون مجردة تجانب ما وسعها التحرش والمساس بذوي الشأن، وتنسكب في قوالب لفظية حظـُها من الاحكام والفن والجري وراء الفصحى والبيان المؤهل ليقفوه مَنْ هم في أول الطريق وفي مبتدأ دخولهم الميدان الأدبي، يرشحها لتبوؤ صدارة الابداع، من قبيل موضوعات العنوانات الآتية الأسلوب في الفن، نموذجان متألقان في النقد، خواطر في الأدب الرمزي، النقد الأدبي معيار ورسالة، توفيق الحكيم وأسطورة الملك أوديب …. وغيرها، نخلص منها جميعاً الى أن المؤلف كان في سنيِّ الأربعينيات على اتصال وثيق بالدوريات والمجلات الصادرة في تلك الحقبة ولاسيما مجلة الرسالة لصاحبها أحمد حسن الزيات وعن طريقها توشجت آصرته بالنقادة أنور المعداوي الذي عرض بدوره لمساجلته واختلافه معه بشأن توفيق الحكيم وتصويره مأساة الملك أوديب، وكيفما كانت الحال فقد كنا حيال وبازاء كاتب متمكنلطول ملازمته ومصاحبته للكتب وتعلمه منها أصول الكتابة وترسمه لقواعد التأليف، بعد أن ملأ الجوخارج المذياع صداحاً وهويشنف الأسماع بأحاديثه الطلية ومراجعاته في حقائق التاريخ والأدب، لكن يبدوأنه عاش وحيي أيام الزمن الجميل والموصوم من لدن مارون عبود بخلوه من صرعة الشلل الأدبية والاستناد الى الانحيازات الشخصية في اعلاء المواهب والكفايات الأدبية، فصار مآله الى النسيان والعفاء. فأما الكـُتيِب الذي أصدره الأستاذ باسم عبدالحميد حمودي أوائل عام 1958م محتوياً على مجموعة قصص وشَّحها باسم أنا عاطل ، وليس شرطا انه انتهى منها في بداية العام ذاك، انما استنفدت الأعوام الثلاثة والمندرجة قبلها، فهو يشي بطول المدة التي عاشها الكاتب في جهاده الأدبي وتعامله مع الحرف والكلمة، ويُنبي عن شغفه وتولعه بالقضايا والمشكلات الأدبية منذ أول عمره وادراكه طور الشبيبة حتى شاب رأسه بعد ستة عقود أمضاها متصفحاً للدوريات والكتب ومبتغيا توثيق ما صار اليه من أحكام ونتائج، وكثيراً ما استبدل اهتماماً بنظيره الذي كرس جل أوقاته لانجازه، فقد هجر فن كتابة القصة القصيرة وتخلى عنه الى مزاولة النقد وهام مؤخراً بالفولكلور والتراث الشعبي بحكم توليه آونة اصدار مجلته المتخصصة عن وزارة الثقافة. وكـُتيبُه هذا الذي يُعرف به لجمهرة القراء واحد من عشرائه وأصفيائه المنسيين ويُسمى فؤاد علاء الدين الذي استبشر بانتصار المذهب الواقعي ورجحانه على المذاهب الأخرى في أصالة موضوعاته وبلوغ أدائه شأواً من التجويد والسلاسة، ولا يفوتنا أن نغفل وننسى أن كلمة الواقعية وحدها كفيلة اِبان تلك الظروف الجهمة بان تُخيف الحاكمين وتشحذ فكرهم لاكتناه ما في مطاويها من رموز ودلائل، وتقَري ما يتوخاه اللاهجون بها من أغراض ومقاصد، قلت وضعني كُتيبه هذا في أجواء تلك الأيام الماضية والمصطخبة بمكدراتها وأوجاعها، ولا تُخدَعنَ بقولتهم وهرفهم عن ازدهار الحياة وذهبيتها في سنوات الخمسينيات، فقد كتب على أهل العراق أن يتحولوا من كدرالى آخر يفوقه في مقداره من الهم والتعاسة، واذكرني برتابة الحياة واستيلاء الملل والسآمة وامتلاكهما للنفوس جراء حرمانها وتجريدها من حقها في القيام بأية مبادرة تنويرية ينجم عنها امتلاؤها بالزهووالفرح والتفاؤل.
AZP20