زمان جديد بين جبلين
عبدالرزاق الربيعي
قرأنا كثيرا عن تواضع العلماء الذي صار مضرب الأمثال، وندرك جيدا أن السنابل الممتلئة تنحني ، لكننا في حياتنا اليومية قليلا مانصادف أمثال هذه السنابل ، مادمنا نعيش ضمن أوضاع ثقافية تسير بالمقلوب والصغار يتطاولون على الكبار، والذي يكتب بضع كلمات يمشي مختالا مثل الطاووس
غير إنني أستطيع اليوم القول التقيت مؤخرا باثنين من هذه السنابل الناضجة دفعة واحدة
ولم يكن ذلك غريبا فكلاهما عالم يقول الحكيم لقمان
لكل شيء مطية ومطية العلم التواضع الأول الدكتور وليد محمود خالص وأعرفه منذ اثني عشر عاما والثاني المفكر جورج طرابيشي وعرفته قبل أيام قليلة وكلاهما له سيرة ممتلئة بالكتب والبحوث والإنجازات العلمية، فالدكتور وليد محمود خالص عضو مجلس أمناء جائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب عمل أكثر من ربع قرن في التدريس بجامعات عدة من بينها جامعة السلطان قابوس والإمارات والجامعة الأردنية وله حوالي أربعين كتابا في التحقيق والنقد الأدبي واللغة ومجالات الفكر المختلفة. أما المفكر جورج طرابيشي فهو غني عن التعريف حيث يعد من أهم المفكرين العرب المعاصرين وقد عرفت آراؤه بالجرأة والرصانة وكلنا اطلعنا على ردوده على كتاب الدكتور محمد عابد الجابري تكوين العقل العربي التي أنفق في كتابتها حوالي ربع قرن كتب خلالها نظرية العقل و إشكاليات العقل العربي و وحدة العقل العربي الإسلامي و العقل المستقيل في الإسلام و المعجزة أو سبات العقل في الإسلام وله جهوده في الترجمة من خلال ترجماته للكثير من الكتب من بينها تاريخ الفلسفة في 8 مجلدات و الإنسان ذو البعد الواحد لهربرت ماركوز و الفوضى والعبقرية لجان بول سارتر و المدخل إلى علم الجمال لهيجل و محاضرات في تاريخ الماركسية لريازانوف ومؤلفات كثيرة لسيجموند فرويد
ذات يوم أعطاني الدكتور وليد مخطوطة كتاب جديد عنوانه مشكلة اللغة العربية بين الجابري وطرابيشي لأطلع عليها قلت له سأوصل هذه المخطوطة الى طرابيشي، سألني كيف؟ أجبت سيزور مسقط لإلقاء محاضرة في صالون سبلة عمان الثقافي، فاندهش لمعرفته أن طرابيشي يرفض تلبية الدعوات منذ سنوات عديدة، ولم يصدق لكنني أكدت عليه الخبر، وحين عاد الى عمّان اتصل بي طالبا هاتف طرابيشي فأمدني به الأخ موسى الفرعي، لكن د. وليد ظل مترددا بالإتصال به، تقديرا لمكانة طرابيشي العلمية ومهابة، فحثثته، وحين اتصل به رحّب الثاني كثيرا لمعرفته المسبقة بكتبه وأبحاثه في مجال التراث، وقبل وصول طرابيشي مسقط أبلغني د.وليد إنه حجز مقعدا في الطائرة الى مسقط، سألته هل استجد جديد؟ فقد كان بمسقط قبل أسبوع، أجاب لأستفيد من محاضرة طرابيشي
فكبر الموقف بنظري، فبالوقت الذي يتكاسل البعض عن حضور فعالية هو أحوج مايكون اليها رغم إنه يقيم في المدينة نفسها التي تقام بها تلك الفعالية بينما يأتي عالم من مكان بعيد للاستفادة من محاضرة بما يذكرنا بما كان يفعل علماؤنا العرب حين يشدون الرحال من بلد الى بلد للقاء عالم وسؤاله عن مسألة
ولم يكتف الدكتور وليد بحضوره المحاضرة بل جلب معه أوراقا وراح يدون كل كلمة يقولها طرابيشي في محاضرته، كأي تلميذ من تلامذته
وحين التقيت طرابيشي على دعوة غداء أقامها الفرعي دهشت أكثر عندما رأيت تواضع المفكر الكبير، وبساطته وإصغائه لكل كلمة تقال في الجلسة تصدر عن صغير أو كبير ، وحين يطرح رأيا يعتذر مسبقا للحاضرين ويؤكد إنه رأي شخصي، بل إنه يسأل ليستزيد علما وهو البحر المتلاطم من المعارف .
ويتجلى تواضعه في الحذر المنهجي وقد أشار الى ذلك الدكتور وليد في كتابه، فطرابيشي يقول إنني لست من الاختصاصيين باللغتين اليونانية والعبرية ولذلك لا أستطيع الحكم ولا أطالب الجابري بمعرفة اللغة اليونانية، فهذا أمر يتجاوزني أيضا ويتجاوز حال الثقافة العربية الراهن والشاهد هنا إنه لم يدع ألماما بشيء لا يعرفه، بل يثبت الأمر على نفسه ويرفع عن الجابري مطالبته بذلك.
وأنا أجلس بين هذين الجبلين متنعما بآرائهما وأفكارهما وبساطتهما استحضرت صور الكثيرين من أصحاب العربات الفارغة التي هي الأكثر ضجيجا، كما يقول المثل ، وهم ممن يصدق بهم قوله تعالى إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا .
/4/2012 Issue 4167 – Date 7 Azzaman International Newspape
جريدة الزمان الدولية العدد 4167 التاريخ 7»4»2012
AZP20
RZRB