زمان جديد برامج عالبال

زمان جديد برامج عالبال
فارس سعد الدين السردار
يقرأ الريموت الباحث لجهاز الستلايت على قمر النايل سات خاصتي أكثر من ثمانمائة قناة تصفحها يستغرق وقتاً ثميناً. إلا أني لا أركن إلا إلى عدد محدود جداً قياساً بالرقم المذكور أعلاه. وعلى الرغم من ذاك تبقى هذه القنوات المفروزة والمختارة غير قادرة على جذب انتباهي وامتلاك ناصية تطلعاتي بما تقدمه. فأقفز من واحدة إلى أخرى وغالباً ما أوقفها قاطعاً سيل التدفق الاليكتروني محولاً شاشته النابضة إلى لوح أسود أصم. ومتسائلاً هل بإمكان هذا السيل من البث ألتلفازي أن يؤسس لذاكرة قد نستدعيها مستقبلاً ونحاورها مستأنسين بما فيها من عطر معتق، يلطف يوماً مزعجاً أو يزيد من متعة الاسترخاء للحظة صفاء.
الآن نستطيع أن نتذكر بعض البرامج التي تركت بصمتها، وشكلت بافتقادنا إليها حنيناً ومسوغاً لعقد مقارنة. بدت غير عادلة إلا أنها ما زالت تتقدم المشهد باحترام ولكي لا أسيح بالقارئ في فضاء ألحكي أود أن اضرب مثلاً فماذا نقول في برنامج الرياضة في أسبوع للأستاذ الرائع مؤيد ألبدري الذي استأثر بالشاشة لأكثر من عقد من الزمن شد إليه جمهوراً يعتني بالرياضة بالأساس وأخر لا يعتني بها.. وعرّف بأنواع من الرياضات التي تمارسها شعوب الأرض لم تخطر على بالنا. وكم أثارت دهشتنا واستوقفت انتباهنا. وحاول بعضنا تجربتها وتبنيها. منبهاً إلى قوانينها وفوائدها الكامنة والمستترة وراء ما فيها من إبهار. وفي الوقت نفسه ماذا نقول عن برنامج عدسة الفن للسيدة خيرية حبيب التي جمعت العائلة العراقية أمام عدسة خاصة ومميزة أحاطت بالمنجز الفني وعرفت به وعمَّقت معانيه وشرحت رسالته باحترام وحرفية.
وماذا عن العلم للجميع للأستاذ كامل الدباغ الذي قدم الحراك العلمي المعاصر بكل ما فيه من اختلاجات وسلّط عليه الضوء بحرفية وموضوعية وفن وحببّه إلى الناس وكسر الحاجز الذي تفرضه مصطلحاته حتى باتت قريبة من الإنسان العادي البسيط بعد أن زرع فيه الإحساس بأن ما يجري يعنيه ويمس حياته دون قسر أو زجر.
وماذا نقول عن السيدة اعتقال الطائي وبرنامج السينما والناس التي أتاحت للمشاهد تحسس جمالية هذا الفن ورسالته وعرَّفت بما هو شرقي أو غربي فيه إضافة إلى فرز لمدارسه التي قدمت تجارب الشعوب كل وفق نكهته،بانتقائية لم تشح بوجهها عن كل ما هو جمالي، دون إغفال كل ما هو دلالي قادر على تحريك الأشياء باتجاه الارتقاء.
هذه البرامج جميعها توقفت منذ سنوات، وجميعها أُعيد استنساخها بمقدمين ومعدّين أخر. إلا أنها لم تستطع أن تصمد أمام وهج البرامج الأم التي حفرت أسماء مقدميها ومعديها ومحرجيها في ذاكرة أجيال. بعد أن استأثرت بالمشهد الذي تناولته لأكثر من عقد من الزمن. ترى لماذا؟
ولو يسمح لي القارئ أن أشاركه متوغلاً في عقد المقارنات فأقول إن كل البرامج التي ذكرتها. ارتبطت بقاسم مشترك تمثل بأن المقدم والمعد والمخرج كانوا على مستوى عال من الثقافة في تخصصهم إضافة إلى غير التخصص وكان واضحا ًمن خلال إدارتهم للحلقات وللحوارات مع ضيوفهم الذين كانوا لا يقلّون رصانة وامتلاءً عن مضيفيهم مما كان قادرا على ترك انطباع لدى المشاهد بأنه أمام مشهد يعتني به من كل النواحي ويحرص على أن يكون هو بؤرة أساسية في معادلة الضخ والتلقي، هذا إضافة إلى احترام ذائقة المشاهد بعدم خدش مسامعه بلغة ركيكة أو مشوهة أو لاحنة. على الرغم من أن اغلب هؤلاء المقدمين لم يكونوا مبهرين أو ملمعين وغير ممتلكين لما يسمى اللوك الذي كثيرا ما يعول عليه اليوم. ما اقصده أن الوسامة لم تكن هي الصفة الحاسمة والمبرزة بالموضوع. بل كان ثمة ما هو أكثر أهمية من الوسامة. ذلك هو القدرة على التواصل والإحساس بإنشداد متبادل يحدد أهمية أطراف المعادلة المقدم والمشاهد والموضوع . وكان الصدق والإخلاص والثقافة الواسعة. عصا توازن خفي لا يظهر بسهولة وكنا ندرك أثناء المشاهدة لأي من هذه النماذج التي تطرقنا إليها حجم ما بذله المعد والمقدم من جهد وعرق على مدى أسبوع من الإعداد والانتخاب والتشذيب والجمع والانتقاء للمادة التي ستكون جرعة الحلقة الجديدة من برنامجه. حتى أن المشاهد بات يدرك أن أربعين دقيقة تعني فائدة بما يتجاوز قيمتها الزمنية وبما هو أكثر بكثير حقاً.
هكذا توطدت العلاقة وتأسست الرغبة بالتواصل وحيكت الخيوط غير المرئية لتبقى مثل هكذا برامج تومض بالذاكرة على الرغم من انتهاء العرض المؤسف، ليس بسبب توقف تدفق سيل الاليكترونات وهيمنة الشاشة السوداء. بل بسبب نضوب ما. فالأعمال الجيدة لا ترتجل، بل يخطط لها، والتخطيط لأي أمر يحتاج إلى دراية وبحث وجهد وعرق. وهذا ما يفتقده الغالبية.
استسهال الأمور يعني فيما يعنيه عدم الامتلاء. وكذلك الإخفاق في قراءة أفق المتلقي، وعدم القدرة على كبح جموح الظهور على الشاشة دون القدرة على مَلئها وإبهار المشاهد. كل هذا سيقود إلى الاستخفاف بالمشاهد وتأسيس للقطيعة وعدم الاهتمام.وأسباب كل هذا الذي ذكر معروفة وواضحة وهو ما اعزوه للإستراتيجية الساعية لتسطيح المعاني والأفكار وتحويل الإعلام والثقافة إلى سلعة رخيصة تتراصف في حوانيت العرض الفضائية مع الدعارة والشعوذة والدجل والمراباة.
محاكية ومثورة لكل ما يجذب الانتباه ويثير، مجرداً من أي معنى سوى تحريك الغرائز والعوم في فضاء ضيق واستهلاكي بحت.
إذن استطيع أن أقول أن كامل الدباغ ومؤيد ألبدري وخيرية حبيب وابتسام عبد الله واعتقال الطائي كانوا علامات بارزة من علامات الثقافة العراقية والعربية وكانوا مرسخين حقيقيين لكل ما هو مفيد وممتع وأنهم مسخوا كل البرامج المستنسخة قبل أن تولد على الرغم مما فيها من بذخ مسرف، لأن بدلائهم الجدد لا يمتلكون ما كانت تمتلكه تلك النجوم من اشعاع.
/6/2012 Issue 4236 – Date 27 Azzaman International Newspape
جريدة الزمان الدولية العدد 4236 التاريخ 27»6»2012
AZP20