زمان جديد الوجه الآخر
سعد سباهي
أعطيته النسخة التي كانت بيدي من الجريدة التي عُيّنتُ قبل أيام رئيساً لتحريرها. وهي من عددها الأول بعد تسنمي مهمة التحرير. راح يقلِّبها ويطل ينظره في بعض مواضيعها، ليعرب أثناء ذلك عن اعجابه بها وثنائه على خصوبة مادتها وعلى ما يؤمّله لها من مستقبل واعد.وارتأى أن ينشر نتاجه فيها مُوعداً بتحميل مجموعة من كتاباته على قرص يبقى في مكتب الجريدة لنشرها تباعاً.
وفي تلك الأثناء ونحن جالسان في مقهى فائق اقبل بائع الجرائد الذي ناداه ليشتري منه، وعلى عادته كلَّ يوم جريدة … ، ويبدو أنه كان ينتظر نشر موضوع له في عددها لذلك اليوم. استمحته للذهاب قليلاً الى بائع السجائر القريب وتركته يقلّب الجريدة والى جانبه ذلك الفتى الذي أمالت قامته أثقال الجرائد، وحين عدت سريعا لأنني لم أرَ صاحبي موجوداً. وقبل أن تقع عينيه عليَّ ليراني فوجئت بسماعه وهو يقول لحامل الجرائد هاك هذي الجريدة بيعها بربع دينار يفيدك.. وهو يدفع بتلك النسخة التي أعطيتها له بعد أن طلب قراءتها في البيت، والاستزادة منها. وما ان رآني وقد ملأت سمعي كلماته هذه،حتى راحت أمواج لسانه تتعثر بعبارات متنافرة. هكذا هو وكما اعرفه ولكن الذي لا اعرفه من ذي قبل هو لماذا لم يتحمل هذه المرة قليلاً لحين مفارقتي اياه لكي يوخز أورامه.تذكرت بعد حين أنه من هواة النشر وتعليق الصور في صدور صفحات ثقافة او في مقدمات الصفحات الأخيرة. فلم يطل مواصلة موقفه المرائي هذه المرة حين بارك لي ادارتي لتلك الجريدة انما كان منه ذلك لأنها لم تحمل صورته ولم تتبارك بشيء من لعاب قلمه فهو المهووس بالنشر ولو علم ان جريدة ما تصدر فوق سطح القمر لراح يتقصى عنوانها او بريدها الالكتروني كي يراسلها ويزينها بصورته. فأزمته هو وسواه وهو بلا شك من سلالة كبيرة في هذه الدنيا الشهرة لأنني ويشهد الله اسمع من كثيرين بالاضافة الى شعوري به ممن يقرأون ما ينشره او ما يطبعه وهم يبوحون بذلك. يقولون لا نفهم ما يقول ولا يستطيع ان يمنح متلقيه موضوعاً حتى لو لجأ ذلك المتلقي الى تغريب عقله وبصيرته جرياً وراء صاحبنا في تغريب لسانه ولغته.
أزمته..بل فايروسه المميت الشهرة بأي ثمن، ان لم يحقق له المقال شهرة وكانت السوق رائجة للشعر فهو شاعر، وان لم يحقق الشعر فهو قاص، ولن لم يحقق….. فبالرقص وهكذا. حتى لو دعته ضرورتها الى بيع شبابيك بيته لفعل، ثمناً او إرشاءً للقائمين على النشر في الصحف، او للوصول الى المحافل وهذا ما كان مألوفاً خلال التسعينيات من القرن الماضي، هو شريط وشاهد لمرضى كثيرين بهذا الداء البحث عن الشهرة .فكانوا صيداً سهلاً وسائغاً لحيتان الاعلام في ذلك العهد، ولعل تعقب هذا الموضوع قد ينسيني درجة الحذر التي توخيتها.
هذا وسواه واهمون جداً بإمكان أيٍّ ممن يجيد السباحة في موج الكتابة أن ينشر أو أن يطبع أو أن يؤلف أو أن يصل الى المحافل التي يظن البعض أن الوصول اليها قضية وغاية وخصوصا في أيامنا هذه، أيام ما بعد التغيير السياسي في العراق. فالوسائل كلها سهلة ومتاحة لا تحتاج الى تقرب أو موائد، لكن ماذا سيترك ذلك الكتاب أو هذا المنشور أو تلك الصورة من يأتي لاحقاً؟ فهل سيترك حديثاً على ألسنة الذاكرين أم أثراً في ذائقة المهتمين..؟ وهل سيجد في جهد القادمين هامشاً يذكرون فيه شيئاً مما كتب أو نظم او الَّف هذا المسكين او من كان يفكر بطريقته؟ وهل سيحصل معه كما حصل الآن وفي كلِّ زمن عند البحث عن ديوان المتنبي او عن رسالة للجاحظ ولو عن رواية لطه حسين او يستشهد المتحدثون او الباحثون ببيت او حكمة او مأثور لقائل ام يبق من عظامه شيء…..؟
AZP20