زمان جديد القطار
يحيى صديق يحيى
ولعل القطار هو الأكثرُ من بينِ كُلِ مُبتكراتِ التكنولوجيا الحديثة الذي بقي عالقاً في أذهان الناس، خاصة بين ظهرانينا نحن أبناء العالم الثالث، مدة طويلة حتى بعد ظهور وسائطَ نقلٍ أخرى تَفوقهُ تطوراً وسُرعةً. فلطالما عبرت من على شاشات التلفزيون والسينما صور حية لمحطات القطار بساعاتها وأجراسها، ابان الحرب الكونية، المزدحمة بذوي الجنود وأصدقائهم، أطفالهم، لحظات الوداع القاسية التي تفيض باللوعة والحنين، عناق حار، تلويح بالأيادي، وركض مجنون مع القطار بمجرد أن تتحرك عجلاته ويَشرَعُ بِجَرِ عَرباتِهِ، حركة بعد حركة، حتى يتسارع وتتوارى عن المحطة آخر عربة في خيطٍ رفيعٍ يتلاشى شيئاً فشيئاً. لكم لوحت الأكفُ لأناسٍ غابوا الى الأبد، كم من القطارات الممتلئة اختفت؟ . وفي القطار هناك من اعتاد أن يخرج أوراقه ويكتب ما بدا له، قد تلهمه الأماكن والأكواخ، الأشجار، البساتين، شبابيكُ البيوت المُضاءة في الليل، وهو يراها تَمرُقُ كأطراف الأحلام حين تتلاشى عبر نافذة القطار. كل الأشياء لها طعم مختلف ورؤية مُغايرة عبر نافذة القطار، حتى الانسان يَجِدُ نَفسَهُ كائناً آخر ينظرُ الى العالم من نقطةٍ حرجة. ظلّ القطارُ يعبرُ بصفيرهِ وصوت عجلاتهِ وهيَ تَلهثُ على سكَكِهِ الحديدية سطور آدابنا وفنوننا صوتاً وصورة وأوغلَ فيها. من أبدَعِ ما كُتِبَ عن أجوائهِ قصةً قصيرةً للقاص البصري الراحل محمود عبدالوهاب بعنوان القطار الصاعد تُصوِرُ واقع الحياة وشخوصها داخلَ احدى عرباته تصويراً درامياً جميلاً أحسبُ أني لم أقرأ مثيله، وهناك أيضاً قصيدتان من أبرز ما كتب للأغنية العراقية هما الريل وحمد لمظفر النواب و المكير لزامل سعيد فتاح، مازلنا نشنف آذاننا لهما ونستحضر عند سماعهما، بصوت مغنيها المُمعِن بالحزن الشفيف ياس خضر، كل ماهو مؤلم وحتى عذب خَطفَهُ قطار الزمن في عرباته وغاب. لا مناصَ من القول بأنَ القطار ظل كائناً أسطورياً يعيش بيننا، يقاسمنا حلو الحياة ومرها كل يوم وهو يقطع البلاد طولا وعرضا، لحين توقفه لتسع سنين خلت، لكنه بقي أبدا رمزا للحزن والرحيل ونهاية مؤلمة لقصة حب لم تكتمل، يذكره الجنود بأسى وهم يغادرون أهليهم عند نهاية اجازاتهم الدورية، يَذكرونَ رفوفه المعدنية وهم يدفعون عليها حقائب الحرب، وأصحاب المعاملات الرسمية ممن يراجعون العاصمة، الأطفال وهم يصرخون راكضين صوبه كلما لمحوه يمرق من مناطقهم. هواجس شتى تحركت في خاطري عند مروري عابراً بمبنى محطة قطار الموصل، لَمحتهُ كان يقف مثل حصان هرم ينتظر حتفه. ثمة صورتان لا تفارقانني منذ أن قرأتهما، احداهما رسمها د. علي الوردي، تتحدث عن الناس في الغرب وهم ينزلون من القطارات أو المترو يحملون حقائبهم، مسرعين، لايلوون على شيء وهم يقصدون وجهاتهم، لا يخالجهم احساس من قبيل في التأني السلامة وفي العجلة الندامة كما يشير الوردي، وأخرى رسمها الشاعر الانكليزي ت. س. اليوت في قصيدته ذائعة الصيت الأرض اليباب ، وهي تصف ذات الناس وهم يغادرون محطات القطارات أو يظهرون من أنفاق المترو راكضين كحشد مذعور من الفئران. صورتان، أولاهما من الشرق لمثقف يتطلع الى التقدم وأخرى من كبرى مدن الغرب لشاعر ضاق ذرعا بإفرازات التقدم المادي الذي أحال الناس الى فئران مذعورة. رغم تناقض الصورتين، الا إننا لم نصل حتى الى منزلةٍ بين المنزلتين، فقد لبث القطار واقفاً، جامداً في مكانه، وكأن الزمن يَرُد له الكيل ويُمطِرهُ بلعنات كل الذين عبأ رغباتهم وحبيباتهم في عرباته، وكأنه يدفع ثَمنَ صَفيرهِ الذي كان وقعه كالعويل على أصحاب الآمال التي سحقتها سككه الحديدية، وكأننا لا نعرف سوى أن نتألم من القطار وحسبنا أن نرثيه كما فعلت حرامات القطار ..
/6/2012 Issue 4219 – Date 6 Azzaman International Newspape
جريدة الزمان الدولية العدد 4219 التاريخ 6»6»2012
AZP20