زمان جديد الدواسة وما أدراك ما الدواسة

زمان جديد الدواسة وما أدراك ما الدواسة
عبدالله البدراني
تعالوا معي نتنقل سوية الى حارة قديمة عريقة جميلة احتضنت في ارصفتها وشوارعها تاريخ مدينة يعود الى آلاف السنين المحملة بعبق الحب والزهو والفن والارادة.
انها الدواسة لنتنقل سوية اليها بهدوء الرجال الذين لاينهارون ولايتهورون عندما يحدث أمر جلل في حاراتهم ومدنهم.
تعالوا معي لنقرأ على جدرانها آخر تعويذة كان يرددها المتصوفون الزاهدون الذين غادرونا الى عوالمهم المضيئة النورانية ونحن ما زلنا نبحث عن بصيص ضوء يوصلنا الى آخر النفق.
الدواسة قلب الموصل الخضراء ذات الربيعين اللتين أخذتا على عاتقهما حمل أمانة الورود الخضر والصفر والبنفسجية منذ أن حط الربيع على أرض مدينة الانبياء.
تعالوا لنقرأ آخر درس كتبته أقلام الظرف الحالي الذي يخيم على الموصل، انه درس بليغ هذه المرة، لم تدفع نتائجه الموصل لوحدها لان أخيتها من مدن الفرات الاخرى تعرضت لنفس الدرس البليغ وربما أكثر، هذه الموصل والدواسة خصوصا، ترك هذا الدرس اعمق الاثر فيها والكارثة برمتها حدثت في صالون الحلاقة.
شارع الدواسة تستطيع ان تجتازه بخمس عشرة دقيقة اواكثر بقليل خوفا من المجهول ولكنك في سالف السنين لا يمكنك ان تقطعه بكثير من الوقت لان مفردات الحياة به توقفك سويعات عند أبوابها، كان فيها من المسارح ودور السينما ما تضاهي به مدنا اخرى في ارجاء المعمورة اشبيلية وغرناطة والأندلس وحمورابي كلهن شواهد على أقبال الناس عليها من شتى الاماكن وعلى اختلاف ديدنهم ودينهم ورؤيتهم للحياة والقيم.
لوتسألني عزيزي القارئ عن معنى الدواسة ومن أين اشتق هذا الاسم اقول لك بأن هذه المفردة جاءت من داس يدوس ويقول الاسلاف بأن اول درب تحول الى شارع مبلط في الموصل هو شارع الدواسة بعد ان هرع الناس الى الآلة الميكانيكية التي كانت تدوس التراب لتحوله الى شارع فأسموها الدواسة وهكذا كانت وكنا والان لم تزل معكم.
قبل أيام كنت كعادتي أتأرجح بين أرصفتها وأتوكأ على جدرانها ليس لان صحتي لا تسعفني ولكن لأني أرى المجهول وأشمه اكثر من غيري، ربما لان أنفي الكبير يساعدني على ذلك ويضفي على حاسة الشم صفة اخرى.
حدث انفجار بصالون حلاقة يكاد ان يلامس خطاي وخطى رجل مثلي دائمة النقش على أرصفة الدواسة، فأنا رجل ذومسار يبدو للعديد من أصدقائه أنه شبهه ثابت فإذا كانت الأمكنة عند آخرين مواطن للمرور، صوب الأيام القادمة فقط فإن الدواسة مكان ذو اتجاهين أعبر منه الى الأيام القادمة مع الآخرين، وممر أعود به الى طفولتي تلك، في ذروة الزمن الجميل تتلاقح أمنيات الطفولة في فضائه مع لافتات أفلام العيد وبسطاته التي تتطاير منها أصوات الباعة الفرحين، وفي ذلك الصالون تحديدا الذي يبعد بضع مئات من الأمتار عن صالون أديب الحلاّق الشهير، حيث يزدحم بشبان الموصل أملا في تسريحات وافدة من أفلام عبدالحليم وفريد، سعفنا في ذلك بشاشة موفق الأقرع ذي الباروكة، مشغل سينما اشبيلية، وسامي مشغل سينما الأندلس الذي يتحدث لنا وهو يقضم لفة العنبر والصمون، عن مغامراته في القاهرة خلال سنوات السبعينات، معززا اياها بصور سبقت ظهور الفوتوشوب فتحولت الحياة في صالون الحلاقة الى يباب أحمر وأسود، يا تلك الأيام التي كنا بها آمنين ببراءتنا وفرحنا ومرحنا مرتدين ثياب تلك الأعياد الباسقة، شاهقة الفرح ،.
هل خطر لنا في العهد ذاك أننا سنرتدي ثياب الحذر ونسقّف أوقاتنا بسقائف الخوف؟، هل خطر لنا أننا سنغادر أنفسنا وذواتنا، وكركراتنا في صالون أديب، ونترحل بها الى عوالم مجهولة لا حدود لها؟ هل خطر للأقدار أنها لعبت بأهليها وأصحابها لعبة لا يمكن تصورها في هذا العالم؟
هرع كل الناس القريبين والبعيدين بما فيهم اجهزة الشرطة. اما أنا فلم امتلك قواي لان احد الضحايا يستغيث فانسللت إليه وحدي وبمساعدة من يدي استطعت أن أانقذه واثنين من أصدقائه كانا يسبحان في الدم الارجواني وانتشلت جثتين من تحت الانقاض. هكذا كان الحادث وهكذا كانت دواستنا أيها الموصليون تكاتفوا لانقاذها من المجهول.
/9/2012 Issue 4304 – Date 15 Azzaman International Newspape
جريدة الزمان الدولية العدد 4304 التاريخ 15»9»2012
AZP20

مشاركة