رواية 366 لأمير تاج السر

رواية 366 لأمير تاج السر
تناقضات العشق ودلالاته الثقافية
د. محمد سمير عبد السلام ــ القاهرة
رواية 366 للكاتب المبدع أمير تاج السر ــ الصادرة عن الدار العربية للعلوم ناشرون ببيروت 2012 ــ ثرية بالدلالات المعرفية، والثقافية، والاجتماعية، والجمالية حول تيمة العشق ، وجذورها الممتدة في الذاكرة الجمعية، وآثار الفن، وصورها المتشابكة، ودلالاتها المعقدة الجديدة التي تنبع من السياق الاجتماعي النسبي، دون أن تفقد ارتباطها بالطاقة الفكرية، والجمالية المولدة من أصالتها كنموذج في الوعي، والتاريخ الحضاري، والفني للإنسان.
و رغم التجسد المتكرر لنموذج العشق في الوعي؛ فإنه يتجلى في شكول، وحالات نسبية فريدة تنبع من الحوار الإبداعي » الثقافي مع اللحظة الحضارية الراهنة، وأبنيتها الاجتماعية المؤثرة من جهة، وتداعيات النص، وصيرورته، ومتوالياته السردية، وتشكل الصورة الجمالية لروح للشخصية فيه من جهة أخرى.
تتجسد صورة أسماء » المحبوبة في وعي البطل » المرحوم كما يصفه السارد، ويلج عوالمه الداخلية، وتجربته الخاصة في العشق، وتتجلى كصورة واقعية، وفنية تتفاعل جماليا مع الحدس المباشر للبطل؛ فتجسدت كنموذج تصويري مثالي للمرأة المعشوقة؛ وكأنها اتحدت بالنماذج التاريخية، والفنية، والأسطورية القديمة؛ مثل عشتار، وفينوس، وو صور المحبوبة لدى كل من عنترة، والأعشى، والمجنون، وغيرهم، ثم يتصاعد حضورها الافتراضي الخيالي داخل ذات البطل » العاشق؛ فيبدع لها تاريخا جديدا يتسق مع التفاعل الحدسي الجمالي الأول؛ فيسكنها في حي البستان » الراقي، ويقيم حوارية ممتدة معها حول حياته اليومية، وحضورها المستمر في وعيه، حتى لحظات النهاية، وتتجلى أسماء في هذا المستوى ذي النغمات الشعرية المتعالية كذات متخيلة يعاين فيها البطل حضوره الجمالي الآخر، وارتقاءه الاجتماعي المفقود في نغمات واقعه، أو تمتزج صورتها بذلك التاريخ المتخيل؛ لتجدد هوية البطل في عالم حلمي يتجاوز الحتميات، وعوامل النهايات؛ وكأنه يستبق النهايات المحتملة نفسها في التوحد الحدسي بالصورة الأدبية المتعالية التي تقع في مسافة ملتبسة بين الأنا، والآخر؛ فهو يسعى لملامسة أسماء الراقية ذات التاريخ الذي صنعه لها في وعيه؛ ويرتد إلى بنية العشق المجازية دائما، رغم لامعقوليتها؛ ومن ثم تطل أسماء كنقطة تحول في عالمه الداخلي، أو كهوية افتراضية.
متواليات
و أرى أن العشق يبدو هنا كمفتتح لقراءة الواقع الاجتماعي، أو كسؤال معرفي، وفلسفي ممتد، ويرتد باتجاه بنية العشق نفسها، وما تحمله من تناقض بين الإعلاء من الحب كقيمة، أو نموذج، والعبث المأساوي المصاحب لتحولاته، والطفرات الداخلية، والتمرد النفسي العميق على الواقع؛ ومن ثم الاستباق الفعلي للنهايات، والذوبان في القيمة الافتراضية للصورة المتعالية فنيا، واجتماعيا للمحبوبة » أسماء؛ فثمة فجوة بين مرح التواصل البهيج مع الصورة، والفراغ المتكرر في عمق التجربة؛ وهو ما يؤكد كلا من الشجن، والغموض الإبداعي في النص.
و يرتكز النص الروائي على مجموعة من المتواليات السردية المتشابكة التي تكشف عن مسار العشق، وأبنيته الجمالية، والثقافية، والمفارقات بين الارتقاء الروحي، والأبنية الاجتماعية، والتاريخية المشكلة لشخصية البطل؛ فثمة متوالية رئيسية تقوم على بحث البطل عن تحقق صورة أسماء التي توحد بها روحيا في زفاف أحد أقاربه، ثم إعادة إنتاج صوتها الافتراضي، وتاريخها في وعيه، وتمثيلها الجمالي في حوارية تمتد من الاندماج بها إلى الموت، وتقع تلك المتوالية في حالة من الاختلاف مع متواليات تتعلق بالسياق الثقافي، والاجتماعي للبطل؛ مثل علاقته بشخصيات الحي الفريدة؛ مثل فاروق كولمبس، وتورطه في اجتماع لجماعة متطرفة لرجل كان روائيا، وخرج عن مساره السابق يدعى ألماني ، وذكرى أخيه اليساري » بخارى، وعلاقته بصديقه الانتهازي شمس العلا الذي ارتكب جريمة من أجل المال، ونجاح حاسة التخمين لدى البطل في الكشف الذاتي عن الحادث، وكان يستخدم التخمين من قبل في البحث عن أسماء، ورسم هويتها الجمالية، أو الواقعية.
و أرى أن هذه المتواليات بما تحمله من دلالات فكرية، وفنية، وثقافية تتقاطع في نقطة انتحار البطل الرمزي، والأدبي في نهاية النص؛ فالانتحار يمثل ذروة الحزن، والتمرد في الوقت نفسه على الحدود الذاتية القديمة، ويستشرف الذوبان الكامل في قيمة الجمال التي تمثلها فنيا شخصية أسماء بعيدا عن السجون الاستعارية للذات، وعن تضخم قيم النفعية، وحتمية الموت الممثلة في المتوالية المتعلقة بحادث صديقه شمس العلا ، وكذلك السياق الاجتماعي المنتج لحضوره النسبي الهامشي، ورغبته المستمرة في الخروج باتجاه الذوبان في واقع شعري متعال.
و بصدد الالتباس الإبداعي لمدلول العشق يرصد الباحث جراسيموس سانتاس التعقيد المفاهيمي المتعلق بالأسئلة الفلسفية عن الحب، وموقف كل من فرويد، وأفلاطون منها؛ مثل كيف نحب العدالة، والحقيقة؟، وكيف دافع ستيورات مل عن قضية الحرية، والمفارقة بين الأفلاطونية، واللاوعي عند فرويد.
راجع » Gerasimos Santas / Plato, Freud: Tow Theories of love. Basil Blackwell Limited / New York 1988 p. 187 .
لقد اتحد البطل بصورة أسماء انطلاقا من قيمتها الجمالية المعادلة للمستوى الحقيقي من الحياة الفنية المتعالية، بينما تجلت في وعيه، ولا وعيه كموضوع أنثوي ذي تاريخ يقع بين تجليها الواقعي الأول، وتصاعد نغماتها الخيالية؛ ومن ثم تتجسد في صورتها القيمية، والحضور النسبي الممكن. و يمكننا تحليل النص فكريا، وفنيا انطلاقا من تيمتين جماليتين هما؛ المروي له بين الأنا، والآخر، والوعي بالمأساة، واستباق النهايات، ثم قراءة الرؤية الاجتماعية، والثقافية للعشق، ومدى ارتقاء الذات فيه كبديل جمالي عن حتميات الواقع.
أولا المروي له بين الأنا، والآخر
يمتزج صوت السارد الذي يعيد تمثيل العالم الداخلي للبطل » المرحوم، بصوت المروي له » أسماء عن طريق الرسائل التي تبدو كحوار إبداعي داخي بين هويتين قيد التشكل في صيرورة العشق، وتطورها من البروز الفريد لصورة أسماء، إلى أن تتشكل في هوية جمالية، واجتماعية نسبية، ثم تحولها إلى نموذج متعال لا يمكن الاتصال به إلا بالخروج من عوالم الواقع، وحتمياته.
لقد استمدت أسماء حضورها الآخر من وعي البطل؛ ومن ثم فصوتها المحدد في النص كمروي له هو مزيج من الأنا الحضور الأول في الحفل ، والآخر وعي البطل، وحاسة التخمين المنتجة لشخصية أسماء ؛ أما صوته الخاص فيتحول باتجاه الاتحاد الحدسي المباشر بأسماء كقيمة جمالية عليا، دون أن يهتم بالبحث عن اتجاهها العاطفي نحوه؛ ومن ثم فصورة أسماء تتحول إلى ذات شعرية متعالية داخل البطل، يحاول أن يحققها كبديل عن تاريخه الشخصي، وحضوره النسبي في الواقع.
لقد اكتسبت أسماء حضورا معينا، أو محددا بصفات أشار إليها الراوي؛ ومن ثم فهي مروي له محدد، وإن نبعت سماتها الشخصية من داخله؛ ولذلك فهي نمط فريد من المروي له من الدرجة الثانية وفق تعبير جيرالد برنس.
و يرى جيرالد برنس أن المروي عليه من الدرجة الثانية يحدد من خلال كلمات يوجهها إليه السارد، أو من خلال سمات شخصية تعطينا معلومات عنه راجع » جيرالد برنس » مقدمة لدراسة المروي عليه » ترجمة علي عفيفي » فصول م 12 ع 2 سنة 1993 ص 81 .
و يمكننا استنطاق النمط الإبداعي المختلف للمروي عليه في رواية 366 من قراءة هذا المقطع؛ يقول السارد 366 رسالتي التي لن تصل إليك يوما، وفقط أكتبها؛ لأن واجبي كعاشق، يحتم علي أن أكتبها، ولأن الكتابة في حد ذاتها، تمنحني دروسا في الصبر، أحتاجها بشدة؛ لأكون العاشق المثالي في كل الأزمان، الموظف المعنوي عندك ص152. و تدل الإشارات الممنوحة لأسماء هنا على أمرين الأول ثمة حضور داخلي لأسماء يلتحم بنموذج العشق في الذاكرة الجمعية، كما ينمو تاريخها من خلال عملية الكتابة نفسها، ومن الارتقاء الذاتي للبطل، وتحقيقه لهويته الجمالية كموظف معنوي، أو طيفي لدى أسماء التي تقع بين الواقع، وما يتجاوزه في آن. الثاني يكتسب البطل » السارد وجودا جماليا مضافا لهويته الذاتية الأولى من اتحاده الروحي بأسماء » المروي له؛ ولذلك ينفصل عن نمط القيم النفعية في الواقع، ويتجه إلى تقدير الجمال لذاته من خلال عبوره لذاتيته، واندماج صوته بالصوت المتخيل لأسماء.
ثانيا الوعي بالمأساة، واستباق النهايات
تنطوي الحالة الفنية النسبية للعشق في 366 على تناقض رئيسي بين اللذة الروحية المولدة عن التواصل مع نموذج أسماء المتعالي للأنوثة، وكذلك الارتقاء الذاتي، والاجتماعي في العوالم الافتراضية، والانخراط الواعي في مأساة الفقدان، وتصاعد نغمة الحزن التي تصل إلى الكآبة، والتخلي عن بهجة الحياة اليومية، والحياة بمدلولها النسبي بالكامل.
و قد تطور الوعي بالمأساة في النص من خلال مجموعة من النغمات الجمالية التي بدأت بنغمة المرح، والبهجة التي صاحبت صورة أسماء الأولى، وأخيلتها في الوعي، وإمكانية العثور عليها، ثم نغمة الوعي بالمأساة حين استمر البطل في عشقه بشكل واع، وغير واع، مع علمه بلامعقولية تحققه في الواقع، ثم هيمنة الكآبة والحزن، واللامبالاة، أو العزوف السلبي عن الحياة؛ ومن ثم المواجهة المباشرة للنهايات التي استبقها البطل في رسائله التي وقعها باسم المرحوم.
و يتماس ذلك الشكل المأساوي الجمالي مع تحولات التراجيديا القديمة، أو قد يشير إلى الخروج الرمزي من عالم الحتميات، والسجون، والقيم النفعية.
و يكتب الناقد كليفرد ليج عن فكرة انقلاب الحال في التراجيديا؛ إذ يشير إلى اكتشاف المرء أن أفعاله تؤدي إلى نتائج هي على النقيض المباشر مما قصد، أو توقع؛ ويمثل لذلك باستطراد ل ف. ل. لوكاس حول رؤية عطيل لنفسه كمتوحش ساذج يقذف بالجوهرة التي فيها سعادته. راجع » كليفرد ليج، وجون. د. جمب، وآخرون » موسوعة المصطلح النقدي » ت عبد الواحد لؤلؤة » م1 » المؤسسة العربية للدراسات، والنشر ببيروت ط2 » سنة 1983 ص 118، و119 .
الرؤية الاجتماعية
و مثلما يتجه عطيل إلى مأساته الخاصة، نجد البطل يدرك غرابة وضعه كعاشق لامرأة قد لا تشعر به أبدا، ثم يستقيل من عمله كمعلم للكيمياء؛ ليخبر رئيسه أنه سيعمل في مدرسة أسماء، وينصحه الأخير أن يعالج نفسيا، ونجده يصر أن يعايش التجربة الافتراضية، ويستبق نهاياتها في الذوبان في العوالم الخيالية المفقودة لصورة المحبوبة » أسماء، ثم يعاين شكلا من شكول المأساة الاجتماعية حين يخدعه صديقه شمس العلا ، ويقتل ثلاثة قرويين بشقته؛ لأجل المال، والوصول الانتهازي إلى الطبقة العليا، ويعاين تجربة السجن حتى يخرج من الإدانة، وينجح في تخمين ما حدث في وعيه، وتبلغ المأساة ذروتها حين يعلم بخبر زفاف والي شقيق زوجة الوزير على أسماء مجهولة؛ ومن ثم تعلو نغمة الفقد، رغم لذة البحث، والتخمين بداخله، وتتحول أسماء مرة أخرى إلى صورة داخلية مجردة لا يمكن بلوغها في السياق الاجتماعي الراهن، أو في الحياة الواقعية؛ فيستسلم البطل للانتحار بأقراص المنوم؛ وأرى أن لحظة الانتحار تفجر التناقض الإبداعي الأول للعشق بصورة فلسفية دائرية؛ فالموت يستنزف بنيته الخاصة، ويفكك حتميته باتجاه التمرد على الفقدان نفسه، والاتحاد الرمزي بأسماء كنموذج. الرؤية الاجتماعية للعشق من آلية الحضور إلى الارتقاء الروحي المتعالي ثمة توافق جمالي بين هيمنة العشق كنموذج كوني متعال في الذاكرة الجمعية على البطل، وانسحاقه في واقع تسوده حالات التهميش، والفقدان، والوحدة؛ فالبطل يخاطب أسماء حول عشقها الذي اختاره، وجرجره من حبال القلب، ومرغه في الوحل؛ مما يدل على علوه عن الحضور النسبي » الشخصي، ورغبة البطل في الارتقاء من خلاله، ومن ارتباطه بالرقي الاجتماعي الحلمي، أو المحتمل.
و يمكننا قراءة الأبنية الاجتماعية المشكلة للوعي القائم للبطل من خلال إيماءات المكان، وأصواته؛ فهو يعيش في حي المساكن الشعبي، ويعمل معلما للكيمياء، ويعيش وحيدا، ويعاين فقدان الأم التي تطل عليه من إطار مترب، وتشاهد تخبطاته، ومن الشخصيات التي تعيش حوله فاروق الممرض بالمستشفى، والذي يقص المغامرات، والحكايات العجيبة، ويتناول المخدر، وهو صاحب صوت رنان يملأ الصمت، أما حليمو فهو محار أوقف عن العمل، و شلال مجنون يتحرك كراقص باليه، ويتورط البطل في علاقته بكل من الروائي الذي اتجه إلى التطرف ألماني ، وصديقه الانتهازي المخادع شمس العلا .
يتشكل الوعي القائم ــ إذا ــ من داخل الإحساس بالفقد، أو السلب المرتبط بالمعاناة؛ ومن ثم آلية الحضور الشخصي، والتخلي عن الارتقاء، والفاعلية الاجتماعية، وقد تجلت صورة أسماء في الزمن كوسيط روحي، واجتماعي تذوب فيه الذات الأخرى المتخيلة للبطل؛ إذ حقق في حواريته الافتراضية مع الصورة وجوده الاجتماعي الحلمي في حي البستان الذي خمن أنها تعيش فيه، وتعالى على وظيفته، وأصوات المكان القديم في لحظات العزلة؛ ليعايش ارتقاءه الاجتماعي، والجمالي الجديد في رسائله إلى أسماء، والتي انتهت بذلك الموت الرمزي، أو التوحد بالذات الأخرى. و يربط د. الطاهر لبيب بين الغزل العذري، والأبنية الاجتماعية المشكلة للوعي؛ فالعفة، وفقدان الحبيبة، ومتواليات الإخفاق المتلاحقة، ترتبط بغياب كل استمتاع بالتملك، كما يقترن الحرمان الاقتصادي بمسألة عدم الإشباع. راجع » د. الطاهر لبيب » سوسيولوجية الغزل العربي » ترجمة مصطفى المسناوي » دار الطليعة بالدار البيضاء سنة 1987 ص 153 . لقد كانت صورة أسماء نموذجا لحضور آخر للبطل في سياق الوعي الممكن ؛ إذ تجلى فيه كشخص محب يخرج أسماء من بيت فخم، ويدخلها في آخر، ويجعلها تشتري سلعا كثيرة من البقالة الواسعة، ويرى وجهها خلف نماذج راقية من النساء.
لقد تحولت أبنية الفقدان في تداعيات النص، وحواريته الإبداعية إلى تشكيل سياق اجتماعي بديل، ومختلف، ومنشق عن السكون، أو الخضوع السابق للآلية، والصمت.
/8/2013 Issue 4484 – Date 17 Azzaman International Newspape
جريدة الزمان الدولية العدد 4484 التاريخ 17»8»2013
AZP09