قصة قصيرة
رجال من ورق – نصوص – موسى الهاشمي
وقف أهل المدينة منذ الصباح الباكر على باب مركز الشركة متلفعين بثياب إرتدوها على عجل، والبعض الآخر منسجماً، وأعينهم معلقة في الأفق..
متحدين البرد القارس والرعد ونث المطر، بانتظار سوق متهم إلى دائرة الشرطة، قبض متلبساً بجرم مشهود؛ فقد علم أن الرجل طوال الأعوام الأربعين المنصرمة كان مثالاً للاستقامة والكياسة والهدوء، وابتسامة مشرقة، دائمة تسبغ على محياه، كما إنه ذو فطنة وذكاء وقادين.
غير مصدقين أن يكون مثله متهماً بجريمة شائنة للغاية.
كما كبر أن يروا أحد رجال مدينتهم المتميزين بجرم يخضب الجبين ويمسي مثار ألسن القاصي والداني، من أهل المدينة والمدن الأخرى على حد سواء، وحومة للتندر، ومثلاً لسوء الخلق.
ورغم ذلك أوشك البعض تصديق الحكاية التي ما لبث أن سرت وكأن ريحاً عاصفاً تسوقها.
ما السبب؟ هل لأن الحكاية صيغت بعناية فائقة أم لأنها جاءت ضد ما عرف عنه؟
أسم المتهم، محمد مسلم.
رجل أمين أمانة مطلقة ومثال يعتد به، دمث الخلق، مثار أعجاب كل امرأة ورجل، يشار إليه بالبنان، مرحب به في كل بيت، يتلقى التحيات أينما حط. ورحل.
فما الذي حدث؟
الهمسات علت.
والجدل اوشك ان يتحول إلى صراخ.
أهل المدينة دخلوا في لغط شديد أقرب إلى الشجار منه إلى تبادل الآراء والتفاهم.
ان ما يعتمل في نفوس أهل المدينة سؤال واحد أعيتهم الاجابة عنه: هل ممكن أن ينقلب الانسان على عقبه وتنتكس سيرته وتتحول إلى الضد، خلاف ما كانت عليه؟
هذا لاشيء غير منصف حقاًّ!
لا يلامون على وجلهم.
فاذا صدق ذلك ستزول قيم عريقة وتنهار مجتمعات وتتفتت أسر.
ستكون أشبه بلغم مزروع في متنزه كبير.
بعد ساعة من الترقب جيء بالمتهم مقيداً بالأغلال.
تسوقه الشرطة كما تسوق عتاة المجرمين، وتأمر بفك الطريق.
مر محمد مسلم من بين الجمع حاسر الرأس، مبللاً بماء المطر وبملابس داخلية تخب أعضاؤه التناسلية من ورائها.
مطرق، غائر العينين.
شارد الذهن.
لا يقاوم، لا ينظر بوجه أحد..
لا يامل عطف أحد.
ولم تند عنه ايما حركة توحي بالرفض والعناد.
الشرطة تأمر ثانية بالتنحي عن الطريق إلا أن الازداحم والفضول ظلا قائمين.
رغم ذلك أو لجوه دائرة الشرطة، وأن كان ذلك بعد بذل جهد كبير.
أجلسوه في حجزة المحقق وهم يزيحون العرق المتصبب، على خلاف البرد والمطر.
جاء ضابط التحقيق وجلس خلف المنضدة بهدوء وسكينة.
المحقق برتبه مقدم، سبق أن عرف المتهم.
ورغم غطرسته وأنفته كان يسبق محمد مسلم بالتحية أينما التقيا مصادفة؛ في أسواق المدينة أو أزقتها.
هو الآن قلق، ويشاطر جمهور أهل المدينة حيرتهم ومحنتهم.
المحقق وهو يهيء أوراق التحقيق كان يامل ان تكون التهمة كيدية وباطلة اعدها أناس يناصبونه العداء.
غاظتهم المكانة المرموقة، واستحواذه على أفئدة الملأ.
بادئ ذي بدء أستبعد أن يكون مثله يقدم على عمل شائن.
فأخذ أهبته في هذا الجانب.
إلا ان ملامح جار المتهم، رغم ما علاها من اصفرار بدت جادة ومقلقة، ليس فيها ما ينبئ عن إرجاء أو تغيير.
وقد حضر مع المتهم ليدلي بشهادته.
وفي الوقت عينه كان الشاهد يقلب فكره لو لا أن الامر بات مستحيلاً؛
فزوجته وبعد ملاحظة رجل بملابس داخلية يندس إلى جانبها تحت اللحاف وهي نائمة في سريرها عارية، أثار فيها الفزع وعلا صراخها، وصوتها هز الأركان ثم ارتمت بأحضانه مغشياً عليها.
مما أفزع الجيران فهبوا هبة رجل واحد واقتحموا الباب ودخلوا حجرة النوم وشاهدوا باعينهم محمد مسلم بملابس داخلية فقط، يقف مشدوهاً.
فماذا سيخفي بعد ذلك؟
لا شك سيكون الأمر مريباً، يمس شرف الأسرة.
فهو الساعة أمام أمر لا ينبغي تجاوزه.
فكر المحقق ان يسجل القضية عن لسان الزوج أولاً.
وكان السؤال التقليدي حاضرا:
– هل شاهدت المتهم ليلة الحادث؟ كيف؟ ثم اراد المحقق أن يخيف او يحذر الزوج، عسى أن يتراجع ويفضي التحقيق إلى لا شيء.
فأضاف:
– بعد ذلك سنحقق مع زوجتك ونطابق الشهادتين ثم نستمع الى دفاع المتهم.
والمسألة لن تقف عند هذا الحد.
سننتظر كشف الدلالة.
أو الكشف الموضعي ونرفع بصمات المتهم.
بعد ذلك ترفع القضية برمتها الى القاضي ونرى بماذا ستحكم المحكمة.
لكن الشاهد او الزوج مضى يقول:
– منذ البدء لاحقت عيناي رجلاً غير واضح المعالم، يسير على الجدار الفاصل بين منزلينا بتوازن مدهش وثقة عالية لا تناسب رجلاً في مثل سنه.
كان الظلام دامساً والمصباح في الحجرة يرسل ضوءاً خافتاً عبر ستارة مخملية ونافذة مغلقة.
لاحقته بنظراتي حتى عرفته.
انتابني الشك، فأزحت اللحاف وتسللت من الحجرة بهدوء وفتحت مزلاج الباب وكمنت في الخلف.
وفي لحظات دارت أكرة الباب وفتحت.
توجه الرجل الى حجرة النوم.
ولما كان لا يحمل أي نوع من السلاح، وهو في ملابس داخلية.
ولكي أقف على مرماه تركته يتوغل.
فإذا به يتجه إلى السرير مباشرة ويرفع الغطاء ويندس إلى جانب زوجتي بهدوء وثقة كما لو كان هذا فراشه المعتاد.
وقفت للحظات مفكراً بمغزى ذلك، غير ان زوجتي سرعان ما استيقظت؛ أبصرته فانتابها الهلع وانطلقت بصراخ عال ثم استجارت فأجرتها لكن سرعان ما أقتحم المنزل رجال ونساء، تدفقوا بإعداد كبيرة.
ووقفوا حياله فاغري الأفواه.
غير مصدقين ما تبصر أعينهم.
كما لاحظت ما أصاب الرجل من فزع.
فقد بدأ مشودهاً.
عيناه تحدقان في الوجوه ببلاهة وصمت.
– هل مس زوجتك سوء؟
– تمدد الى جانبها كمن يحاول أن يغفو ولا شأن لوجودها الى جانبه!
– حسن. ملاحظة طيبة. سنستمع الى اقواله ثم يعرض محمد مسلم عل طبيب ضليع بعلم النفس.
وأضاف وهو يغلق التحقيق:
– أشكرك. تستطيع أن تذهب.
أعلن الطبيب:
– يحدث ان يأتي الانسان بعمل وهو نائم، بايعاز من عقله الباطن.
بمعنى سبق وان فكر الا انه لم ينجز ذلك لاعمل.
تلقى رفض العقل الظاهر.
الرجل مصاب.
هذه حالة عرفتها البشرية الا انها نادرة جداً، حيث يمكن ان يسير الانسان وهو نائم، ويرتكب ابشع الجرائم وهو نائم.
يقتل ويسرق ويزني وهو نائم.
ثم يعود الى فراشه دون دراية.
ينجز كل ذلك من خلال العقل الباطن.
في اليوم التالي لنشر رأي الطبيب في الصحف، وقراءة أهل المدينة خبر مرض محمد مسلم الجديد من.
انقلب الحال تماماً.
شوهد الرجال والنساء يتقلبون في الشوارع بملابس داخلية فقط، ويركضون كما لو إنهم نيام.
ودخلت المدينة في فوضى عارمة، لم يعرف لها مثيل لها من قبل..
جرائم قتل ارتكبت في وضح النهار.
الشباب يمتشق بنادق الية؛
يجوبون أحياء المدينة ويطلقون الرصاص بعضهم على بعض.
الجثث ملقاة على المزابل وفوق القمامة وفي الشوارع.
حوادث زنا ترتكب في العلن بلا انقطاع.
مدير المصرف سرق مصرف المدينة.
وزير المال نهب المال العام وافرغ خزينة المدينة في جيبه.
قطاع طرق وعصابات النهب والاحتيال في كل مكان… هوجمت البيوت واختطفت الفتيات وهرب الاثرياء.
عصابات منظمة اخرى افرغت مخازن الغذاء والدواء ونهب متحف الاثار.
بعد شهر بدت المدينة مهجورة…
مدينة أشباح مخيفة. مرعبة. الخروج الى العمل بات مغامرة محفوفة بالخاطر.
كل طفل كان بــحاجة الى حــــماية خاصة مقابل اجر.
بعد ذلك انتشرت اخبار بثتها وسائل اعلام مريبة تقول ان اهل المدينة اتفقوا على تشكيل حكومة جديدة.
ستقضي على تلك الفوضى.
فمسح الناس دموعهم وتهللت اساريرهم.
وزغردت النسوة في البيوت.
وخرج الرجال العقلاء من مختلف شرائح المجتمع حتى ضاقت بهم الشوارع تأييداً وفرحاً.
وبلغوا مركز المدينة بمشقة وعناء.
ظلوا يهزجون ويهتفون ويلقون القصائد.
وهناك اعتلت ثلة من الرجال منصة عالية.
ابتسموا ولوحوا بأيديهم العارية للجماهير.
وما برح الناس ان اكتشفت ان الثلة التي لوحت لهم كانوا بملابس داخلية جميعاً؛
فكفوا عن الهتاف ونكسوا الرؤوس ثم ساد صمت مؤثر…
فقد علموا أن من ارتقى المنصة ولوح لهم رجال عصابات المدينة انفسهم!!


















