ربطة الأرجـوان

ربطة الأرجـوان

أنور عبد العزيز
فجر ذلك اليوم الثلجي المتجمّد وفي عمق زقاق قميء شاحب التقطت يدا القابلة الرأس الصغير بوجهه المضيء وزغب شعر ذهبي وعينين ما ان تفتّحتا حتى كشفتا عن زرقة صافية بدت لها أحلى من أي لون لسماء… دهشة القابلة صارت تتكامل بعد أن احتضنت وليد المرأة المطروحة الناحلة كعظم أجرد وبقبح مركّز يتوزّع ويكفي لعشر نساء من ضائعات الحظوظ… هلّلت القابلة وكبّرت وأشرقت روحها بفرح كاسح وهي تتأمّل الاعجوبة بعد أن انزلقت متسارعة من رحم المرأة الهامدة بعد طلق عنيف بدا للقابلة أن هذا الوليد قد استعجل الوصول ليديها التي ستسلمه لدنياه، وحتى بعد أن غسلته وطهرته من أوضار الدم فقد ظّلت مبهورة بجمال الجسد والوجه والعينين وذهبيات من خصلات شعر جاوزت أذنيه، وكانت فرحة منتشية وهي تقرأ وتعطّر أذنيه بآيات الله دفعاً للحسد وشر العيون، وهي وان كانت واثقة أنها ستودع المرأة المطروحة المنهكة بيدين فارغتين الا ان روحها كانت راضية ومطمئنة وأغنيات لسانها لم تكن تتوقف… بعد ان رأت أن ذلك الفجر الثلجي قد منح الدنيا أحلى هداياه… في شارع حلب بأزقّـته المحفورة الموحلة وفي يوم ثلجي معتم بغيمة ثقيلة سوداء كافرة ومع صخب نداءات الباعة المتهورة وقد تناثروا كالنمل في كل منعطفات الشارع ورؤوس أزقته وتجمّعات عربات الحمل الخشبية الصغيرة لصبية حفاة رغم زمهرير البرد وطعناته الأليمة الموجعة، وبروائح الدهن العتيق المستهلك بطبخات الليل والنهار من دكاكين طعام لا يتحسس آكلوه بذائقة طبخ وطعام، ومع محال متجاورة ومتعاكسة تبيع ما استهلك من خردوات تغلب اصوات معلنيها على أصوات أغاني المقاهي الصاخبة المتداخلة مع صوت قرقرات النارجيلة ومداخن التبغ والسجاير بتلك الرائحة العطنة المميزة لها، ومبانٍ لفنادق رخيصة تآكلت وتقشّرت جدرانها الخارجية وبمتكسرات درجاتها وماء الوحول وباصرار لوحاتها على أنها فنادق سياحية… الشارع بطوله مغطى بلوحات مستديرة أو مربعة أو مستطيلة وبخطوط فاصلة بينها تعلن ملكيتها وحقوق بائعيها لأحذية عتيقة تشم فيها رائحة أرجل وأقدام غريبة بيض وسمر وسود ومن كل أرض وكتب لها رغم تعبها وتهتكها أن تحطّ أخيراً هنا لتبدأ رحلة جديدة…
الجدران الشائخة بجصّها وسمرته المسودّة للمطاعم والمقاهي والفنادق والمحال سترتها طبقة خفيفة من ثلج مشوّه بمسيل دهون سود عطّلت حركات نمل كبير أكول بما التهمه من ذباب أسود وبعناكب رمادية كبيرة بمصائدها وشبكاتها المتحفّزة التي عطّلتها حبات الثلج الصلدة وخنقت شراهتها للقتل والأكل…
وسط هذا الجماد وموت الاحساس حتى باصابع اليدين والرجلين والأنف، احتمى كثيرون بالمقاهي رغم زحمتها وأدخنتها وهوائها الراكد، ومنهم من كانت تلهث قدماه بسرعة الهروب إلى سيارات النقل أو البيوت القريبة للخلاص من شراسة هذا البرد الوحشي، فاذا كانت النار وجهنم عقاباً وحكماً أبدياً للخطاة والآثمين أفلا يمكن أن يكون مثل هذا البرد اللعين المتيبس عقاباً ربما يبدو أشدّ قسوة وايلاماً من ألف نار… كان ملموماًً على نفسه بدشداشته الممزّقة القصيرة الكاشفة حتى لنتوء من ذلك الشيء الذي بين فخذيه… شعره لمن لا يعرفه لم يعد بصفرة الذهب… سواد بدهن مزرق تجاوز رقبته ليصل إلى الصدر، عيناه لمن عرفهما زرقاوين بلون البحر والسماء بدتا عمشاوين بدمع مرضي ليس من البكاء، بقعة الدشداشة السوداء المتهرّئة كشفت عن بطن منخسفة غائرة وبشعر كثيف أشبه ما يكون بشعر قرد…
رجلان قصبيتان مدميتان بشروخ وجروح من دم متجمّد، أظفار ناتئة وسخة متكسّرة ليدين ورجلين حيوانيتين… جرح طولي عميق توسّد جبهته وانحدر كمشرط لخدّه الأيمن… فم بلا اسنان وبنصف شارب وبلسان نسي انه مخلوق للنطق والكلام… كتلة أشبه ما تكون بحيوان خرافي صامت فقد حتى الوعي بطريقة تناول طعامه… كان مقعياًَ وقد انحسرت نهايات دشداشته وانكشفت خصيتاه… فقد كان عندما يأكل من فضلات المطاعم المرمية في الزوايا يدير ظهره للآخرين وينحني على نفسه، هل كان يخشى مراقبة الآخرين أم هو الخوف على وليمته من القطط والكلاب وجائعين آخرين… غالباً ما كان يفعل ذلك وقد بدت طريقة محبّبة لنفسه… لا ادري ان كان يعي ذلك… يده الملوّثة بالسخام وبأظفارها المسودّة المتآكلة كانت تتسارع لايصال لقمة بعد لقمة متلهّفاً أن يخرس جوعه الأبدي… أذناه البضّتان البيضاوان الطريتان المنتشيتان بلحن القابلة وأغنية استقباله بآيات الله قد صمتت وخرست في أذنيه، لم يعد يسمع غير صوت الطعام وضربات النعال والشتائم لأمه التي كأنّها كانت مكلفة باعداده وارساله لشارع حلب، هي قامت بمهمتها وزلقته بدفعة وطلقة بعد طلقة لتحرر منه الرحم وتطلقه لأداء واجب طالما انتظره منه شارع حلب… كان هادئاً وادعاً أنيساً مسالماً لا يعرف ماذا يحصل له، وهذا لم يعفه من نيل حصته اليومية بل وعبر كل تلك الساعات من الضرب والشتائم… الكبار كانوا يفعلون ذلك كمتعة ونزهة يومية لشرورهم، الصغار رغم ما عرفوا به من رغبات لالحاق الاذى بأمثاله، فلم يؤذوه بشر، كانون يراقبونه فقط وبحركات أكله، ربّما بدا لهم غريباً بهيئته الوحشية مثيراً للفرجة فقط، صمت الصغار وذهولهم لمرآه يحدث في نفوس قليلة بشاعة وشناعة الاقدار الغادرة والمدمّرة لابرياء من البشر، ولكن الغالبية كانت مستأنسة باهماله وعدم الاحساس ببشريته… في البرد كان يرتجف ويهتز كورقة هائجة، لم يحظ بايواء أي مقهى أو محميّة مؤقتة تستر عنه لعنة البرد، هذا ما كان في النهار، الليل الليل أين فيه يمضي أو يركض أو يستقر، لا أحد يعرف، ناس البيوت والفنادق يعرفون كيف يؤدبون البرد بمدافئهم، وهذا وقد أتخيّل ذلك ليس غير يسرح الآن مع كلاب الليل الهائجة الضالّة ومع الغيوم السود الغاضبة ونثار الثلج المتراكم وبرد أشرس من حرّ جهنم… الثالثة بعد منتصف الليل… الطفل البهيّ الجميل وكان من اغنيات الله الساحرة العذبة في الفم العطري للقابلة الطيّبة الرحيمة، لو عرفت ان ذلك الجميل ضائع تائه حائر في هذه الساعة مع دنياه ومع قطيع كلاب الليل وجماد وسموم الصقيع وبلفحات من هواء متجلّد مسموم يحرق الجلد والعينين والجسد والروح… القابلة لو تزحزحت قليلاً في قبرها لصرخت ولطمت وأحرقت عينيها دماً وبكاءً وتذكرت من بين مئات البطون والأرحام رحم تلك الأم النحيفة المهزولة الشاحبة المنكودة التي لم تجد عسراً وقذفته بلحظات أسرع من أي صوت وضوء وزمن ليحطّ بوجوده في شارع حلب…
كنت أحلم أن يغيب عني متمنياً بقسوة رحيمة أن ينقذه الموت، معها كان قلقي عليه يكشف تعاطفي معه بحنان ورغبة أن أفاجأ بوجوده من جديد، ما كان عدوانياً، ما كان متسوّلاً، صامت هادئ أنيس مخذول… تسيح عيناي في وجهه وجسده فترتطم بتقرحات وثقوب مدمّاة جديدة توزّعت على خارطة جسده، هل كانت وخزات بشر بنهايات عصا مدبّبة أم جروح عضّات لأسنان ومخالب كلبية وقطط شرسة ربما رأت فيه جنساً غريباً طارئاً على قمامة مآكلها الدسمة… ومع كل تلك الندوب المحمرّة الدموية، فهو لم يحظ في مبيت كل الخرائب بلدغة أفعى أو عقرب تنهي محنته، لم يحدث ذلك حتى في ليالي الأصياف الساخنة التي تهيج فيها كل حشرات وديدان الأرض والبعوض لالتهام ولو نقطة من دم… جسده كله كان وكما قدّرت يصلح ان يكون بلزوجته ودهنيته المسودّة هدفاً شهيّاً، ولكن بدا لي أن الذباب والصراصير فقط هي من استطاب الطعم المرّ لجسده الملوّث في ساعات نومه الطويلة المخدّرة بمحنة الجوع الأبدية والتي يفقد فيها أي احساس بجلده حتى مع قرصات الجرذان الهرمة ونزق وملاعبة الفئران الصغيرة العابثة بما بين فخذيه، ومع كل دبيب القمل الاسود الذي تجاوز محميته في جذور وتجاعيد شعر الرأس لينحدر صفوفاً متجاوزاً حتى شعر صدره وبطنه الضامرة المخسوفة ليداعب شعر العانة ويحيل جلدها لحمرة قانية… هي محمية هانئة لنهم القمل في تشابك شعر الرأس مع لحية كثة داكنة صفراء وقد امتزج فيها الان الشيب والعفن، هو أبداً مجرّح… تشققات وجروح أسفل رجليه وأصابعها هي فقط التي يمكن التكهّن باسبابها، فهو وربما لخفة وزنه ونحوله وخوفه من الملاحقة العدوانية للآخرين استطاب الهرولة ولم يعد يعرف طرائق البشر في المشي العادي الحذر، مطبّات الأرض وقطع الصخر والحصى والزجاج والاسمنت الصلد في عرض الطريق وارصفته وبما يتناثر من علب متجعّدة صدئة متكسّرة أو مسامير ناتئة، هي ما حفرت ثقوب قدميه وهشّمت أظافر رجليه الحادّة الطويلة كمخالب جوارح…
إذا كان احساسه بمتغيرات الطقس قد ذاب وتلاشى في ذاكرته الضائعة، فان بقية ضئيلة من راحة كانت تهبّ على روحه… أما الشتاء، ففي لياليه التي حشد له البرد كل مخفياته العدوانية المفاجئة وبعنفوان شراسة تكفي لتجميد فيل أو كركدن، تجده وقد احتاط لنفسه بجورب صوفي بسمك بطانية خنق فيها رجليه في أشهر الصيف الكاوية الحارقة، فهو يبدو ليس فقط كمن ضاعت منه الاسماء والمسمّيات والفصول ولفحات أفران الحر وزمهرير البرد، بل وقد اختلطت وتاهت وسرحت أي حدود أو استشعارات لما حلّ به وبالارض أو أيّة اشارات البرد من ثلج وغيوم أو مساقط اشعاع كاسح لشمس محرقة…
قبل ضياعه الاخير وفي غسق بارد بعصف غيمة ممطرة فوّارة كالحة اعتمت وجه المدينة والشارع وكان منقوعاً باسماله العارية، بدا لي وحشاً ضائعاً تهتكت كل روابطه وبأية مسمّيات، عندها أدركت أنها النهاية الوشيكة… أيّة نهاية غير البقاء لا بد أن تقع… في طول الشارع ومنعطفاته ومخفياته، ما عاد أحد يسأل عن أم المفجوع، لكنهم في ماضٍ من السنين وكانت قد يئست من عودة الصبي لبيته، وعندما ذكروا لها ان ولدها المعزول المتوحّد انتعل الحفاء عارياً تائهاً يلتهم القش والتراب وقشور البيض والفاكهة العفنة المهروسة ويشرب من مياه آسنة… صمتت في البداية وكأن خرساً أودى بلسانها، شحب وجهها، ثم ردّت بعصبية ظاهرة ما ناسبت طبيعتها الهادئة الأنيسة لو عرفت هذه النهاية لولدي لاستبقت يد القابلة وخنقته، ما نفع عينين زرقاوين وشعر ذهبي وجمال وجه… ضاع ولدي وضيّع أباه، ودهم عينيها دمع مُرّ…
رغم حالة التيه التي غيّبته وسلخته عن ماضيه وكل وجوده، فقد انتبهت متأخراً على حالة غريبة بدت لي قدسية وأثيرة عنده في نقطة شاحبة ظلّت تقاوم لتثبيت صورة في ذاكرته الضائعة… حرصه وعشقه أن تظل ربطة عنق حمراء حاضنة لرقبته، ربطة عنق كانت ارجوانية استحالت مع عمر السنين لخرقة طولانية سوداء احتفظت ببقع متفرقة من لون أحمر قانٍ يؤرخ للأنيق زهو أيام ضاحكة مترفة، كان مولعاً فيها بارتداء بدلات سود بقمصان أجنبية بيضاء ووردية ومع حذاء لامع مصبوغ بين يوم ويوم… غامت في عينيه وروحه وذاكرته وشحبت ملامح البدلة والحذاء، وبشعره الذهبي المصفوف بفن جمالي مثير محا وجاوز تسريحات النجوم حتى لتيرون باور وكلارك كيبل… وكانت تلك التسريحة والوجه الجميل والجسد الفارع حلماً بهر أحلى وأعتى النساء المعاندات ومن طالبات كليته… ذلك الجميل ومع لهفة أمه لحكاية الهندسة والمهندس التي انطفأت صار يتحسس وهو في منتصف المرحلة الدراسية أن قلقاً مخيفاً أخذ يفتك بأيامه، فقد توازنه مع دنيا الناس… صار يتخيّل أن الجميع يحاربونه وان عداءً دنيئاً أخذ يحيطه… لم يدرك مدى ذلك البعد الذي أوهمه بوحشية القتل، احتدّ خلافه مع عالمه واختلت في عقله وهواجسه وتمزّقت آخر الخيوط الحساسة الناقلة التي توصله بالاخرين، بات الآن بواعية منتهكة منكفئاً هارباً لدواخله المعتمة…
عندما بهتت وشحبت في روحه كلمة هندسة وكليّة وأم وبيت فصراع الروح ومشاعر الخوف من الاخرين وشرورهم دفع به في أول تيه وحفاء كانت ساحته شارع حلب… ما ان أحسّ بوجوده الضائع والمهلهل أول عاطل عارف بمستجدّات الشارع حتى أغراه بدعوة أنهته فرجة لناس الشارع والعابرين… عرف فيه الاحمق الخبيث عشقه للبطولة والنساء فدعاه لفلم سينمائي عنيف يمثل فيه الياباني جاكي شان تحديات الكونغ فو والكاراتيه وهيمنة على قلوب النساء… انتهى الفلم وعاد الضوء وخرج المشاهدون لواقعية الشارع وأحداثه مودّعين البطولة لأحلام الظلام… وصدف ان تجاوزت الشارع امرأتان خائفتان مسرعتان، ما أن لمحهما المفتون بالبطولة وأفعال جاكي شان حتى أخذ يهمهم أولاً ثم يقفز ويصرخ متشنّجاً ومرتجفاً رافعاً دشداشته… واقعة الدشداشة وفضح المستور لم تكن الوحيدة رغم ما زرعت بوجهه وجسده من كدمات ضربات شارك فيها حتى بعض الصغار لأوّل مرّة… مرت سنون أتخمتها سنون… وبعد أن تكامل موت آخر صورة في ذاكرته لرجل أو امرأة، لحجر، وجحش أو بشر، لسواد أو بياض، هدأت دشداشته ورثت ولم يميز بعدها بين امرأة وعنزة… وقيل ان سبب انسلاخه عن وعيه ودنياه وبعد كل تمنّعه عن حب أية امرأة، هو عشق مفاجئ جامح اجتاحه وهدر في روحه جرفه لعينين خضراوين قاسيتين دحرتا ارادته… وقيل لا… هو رعب وحشي انتهك عقله وروحه وهو يرى وكحلم معتم ثقيل مقتل أخيه بوخزة من عصا حديدية مدببة… وقيل وقال…. والقولة الوحيدة الثابتة الصادمة المؤسية الآن هو هذا الغياب الابدي الذي وصل به حدّ عدم الاحساس حتى بجلده وومضات عينيه وحركات يديه ورجليه السائبة وبمذاق أي طعام وشربة ما وقضاء حاجاته الطبيعية وبهذه الراحة البليدة التي رست به بقاع هذا الشارع في ذاكرة السنين وبمصفوفات من بيوت منخورة لأزقّة حلزونية أرست تاريخ عهر لهذا الشارع ومنذ أن نخرت فيه روائح الجيفة والعفن وقد استعصت على الذوبان رغم جري لهاث السنين المتسارعة وتبدّل الوجوه والازمان…
سنة بعد سنة… كلما عمرت وتطاولت السنون زاد إهمال الناس له وحتى من أقرب المعايشين له في الشارع العتيد… أهو طبع الناس هكذا؟ أغرائبية أنهم لم يروا فيه غير كائن حيواني تخلت عنه انسانيته؟ ألم يتحسس أحد منهم روح هذا المخلوق وكينونته بينهم، كلّهم كلّهم، ما عاد احد منتبهاً لحركات مساره ووقوفه وأكله ونومه وعرائه الفاضح… هو الآن ليس غير ربطة عنق حمراء استطاعت مواجهة ومصابرة كل عمره وسنينه… ربطة كانت حمراء وهي الآن مسودّة بدهن مزرق الاّ من نقط حمر صغيرة متناثرة على طول الرباط الخانق لرقبته والممتد حتى نهاية بطنه العارية… أهي قسوة موروثة من الناس وهم يرون انساناً مثلهم أودعته الحياة لهذه النهاية الأليمة؟ لا أدري أهو العجز في فهم ناس الأرض لمثل هذه الحالات المشابهة؟ لا أدري أهي أنانية وذاتية مزروعة في أنفس البشر تجعلهم حياديين عن أرواح وأنفس ووجود الآخرين؟ لا أدري ذلك المخلوق الملوّثة معدته ودمه لسنين بمآكل القمامة وفضلات المطاعم ومع قذارات جسده الذي لم يلمس الماء ومع البرد والحرّ والعراء، كيف استطاع أن يظلّ حيّاً لم يلمسه الموت الرحيم، كيف استطاع أن يتآلف مع الحياة ويتحصّن ضد الموت؟ لا أدري وما حكاية ربطة العنق التي لم يستهن بها ويتنازل عنها وهو الذي تنازل وتجرّد أو جرّدته الحياة حتى من لباسه الداخلي الساتر لعورته؟ لا أدري الرباط أكان بقية لنقطة تائهة في ذاكرته الضائعة لزمن شاب كان معروفاً باناقته مع البدلات السود والأحذية اللامعة والقمصان المبهرة وبعد اختصار ذلك الزمن الغادر؟ لا أدري… ربّما الذي أدريه فقط هو أن الشارع ضاع منه ولأشهر كثيرة شبح ذلك المخلوق المشوّه… أين صار؟ لا أدري ولم يدرِ أو يهتم بغيابه آخرون… الذي أدريه فقط تيه وضبابية ذلك الفجر البارد والبعيد لامرأة منكودة بصقه رحمها بدقائق مستعجلة، ولو عسرت به ومات وماتت لكان الأفضل للاثنين، وعرفت أخيراً أن النغمة والأغنية الملائكية المحتفلة بمولد الطفل الاستثنائي الجميل زرقة العينين وشعر ذهبي وجسد ممتلئ وزناً وعافية… ان أغنية القابلة للفرح الواعد قد سهت وغاب عنها البرد والجوع وليالي الكلاب المرعبة للطفل الأثير، وإنّ أغنيتها كانت قصيرة العمر…
/6/2012 Issue 4219 – Date 6 Azzaman International Newspape
جريدة الزمان الدولية العدد 4219 التاريخ 6»6»2012
AZP09

مشاركة