راوي المجازات يقول شيئاً ويعني آخر

 رواية الولد الغبي

راوي المجازات يقول شيئاً ويعني آخر

ليث الصندوق

ألولد الغبي ، هي رواية القاص والروائي والإعلامي حسن العاني ، تأتي بعد تأخر نشرها قرابة عشرين عاماً ، فمحمولها النصّي الحذر منع نشرها في عام 1999 ضمن مجموعته القصصية  رقصة الموت  وهذا ما كشفه الأستاذ باسم عبد الحميد حمودي في شهادته التي قدّم بها الرواية. أنها رواية مجازية تتخذ من لعبة كرة القدم غطاء لحجب أو تمويه السياق ، فهي مونولوج يروي لاعب كرة قدم شاب يروي عبره مسيرة صعوده المبكرة والقصيرة وهبوطه السريع والمحبط في ظروف إستثنائية استحوذت فيها شخصية قامعة على حق اتخاذ قراري الصعود والهبوط للجميع. ولكن الرواية في الحقيقة تقول شيئاً وتعني شيئاً آخر ، وأن ما تعنيه هو فضاء أوسع وأشمل لا تشكل الرياضة ولعبة كرة القدم سوى إحدى حلقاته ، وكنت أتمنى لو أن الشهادة التي قدم بها الأستاذ باسم عبد الحميد حمودي الرواية والتي أماط اللثام فيها عن رمزيها الرئيسيين ، كنت أتمنى لو رُحلت إلى نهاية الرواية ، لكي لا تساهم في تقديم متعة مجانية مبكرة للقارئ قبل أن يبحث هو بنفسه عن متعة الاكتشاف وفكّ الرموز.

و  الغبي  في العنونة هي صفة الراوي المشارك كما يطلق عليه والده ، والراوي – هذا – هو الشخصية المحورية في الرواية ، وهو شخصية هلامية ، بلا إسم ، ولا ملامح  باستثناء السن  ، وبلا أوصاف  باستثناء الغبي  مع صفات أخرى كثيرة أطلقها عليه الآخرون سنأتي عليها فيما بعد. ولعل صفة الهُلامية  لا تقتصر على الراوي – البطل فحسب ، بل تشمل كل أبطال الرواية الذين لم يحظوا من المميزات الشخصية سوى بأسمائهم ، أو بأسمائهم مشفوعة بألقاب.

و  الغبي  ليست هنا توصيفاً حقيقياً لملكات الراوي العقلية ، بقدر ما هي صفة ذات وظائف تأنيبية وتحريضية أراد منها الأب ثني الإبن عن الانصياع الأعمى والخضوع المذل لسلطة القهر التي يمثلها سعيد الغني ، وسوف تتسلل صفة  الغبي  مرة أخرى من لسان الأب إلى لسان صديق الراوي المقرب حاتم جبّوري  كان عليك أن تعبر عن امتنانك للسفير وهو يضع مصيره في كف عفريت من أجل غبي مثلك. ص / 129  مع اختلاف دوافع التوصيف ما بين الصديق المقرب الذي أراد في هذا الموقف بالذات التعبير من خلال قسوة التوصيف عن ردة فعله الشخصية تجاه سوء تصرف الراوي مع السفير في البلد الأجنبي ، وما بين الأب الذي أراد التعبير عن تخاذل الأبن تجاه سطوة سعيد الغني ,

ولكن  الغبي  ليس غبياً دائماً لدى الجميع ، بل هو ليس  غبياً  فحسب ، ولأنه أكثر الشخصيات تبايناً في تقويم الأخرين ، لذلك يكاد أن يكون سيد الأوصاف بلا منازع :

–        فهو غبي لدى الأب عندما يختلي الإثنان إلى بعضهما ، أو عندما تكون معهما الأم ، وتختلف الصفة بوجود الأخرين فينقلب الغبيّ بطلاً  هذا هو البطل ، إنه إبني الذي تفوق على أقرانه في المدرسة. ص / 27 .

–        وهو لدى إمام المسجد  ولد مبارك. ص / 27 .

–        وهو لدى الأم  بطل وشاطر. ص / 30 .

–        وهو لدى الباشا أحياناً  لاعبنا الماهر. ص / 29  وأحياناً  يا ولدي. ص / 15 ، 16  أو  الولد الذي يفتقر إلى البراءة. ص / 140 . وهو في أغلب الأحيان لدى الباشا مجرد ولد بلا أية صـفة  يا ولد. ص / 17 ، 19 ، 29 ، 31 ، 141

–        وهو لدى المدرب المحلي العم سعيد الكاتب أحياناً كما هو لدى الباشا  يا ولد. ص / 34 ، 35  وهذا الوصف لدى الباشا أو لدى المدرب المحلي ليس استصغاراً للموصوف أو استخافاً به بقدر ما هو نوع من التدليل المحبب من الكبار للصغار. وهو في أحيان أخرى عند المدرب نفسه  الولد النجيب ص / 32   وسيستبدل هذين التوصيفين في لحظة إحباط وغضب ب  النذل / 132 – وهو عند المدرب الأجنبي  يا صديقي العزيز. ص 118  و  يا ولدي الصغير142 .  وكما ورد سابقاً ، فمن بين كل تلك الصفات لا يتفق سوى الأب والصديق المقرب حاتم جبّوري في وصف  الغبي  بالرغم من أن ذاك الأخير قرن الوصف في لحظة غضب بوصف آخر  جبان وغبي ص / 138  .

وسوف نأتي فيما بعد على دلالات الإتفاق ما بين الأب والصديق على ذات الوصف.

وتبقى الصفة الأكثر صدى في الأحداث هي  الغبي  والتي استأثرت بالعنونة ، والتي أذعن الراوي أخيراً لها ، وأقرّ بصحتها وملاءمتها لسلوكه المشين وانصياعه مخدوعاً للباشا  ولكنني غبي ، وانتبهت إلى نفسي وأنا أكرر الكلمة من غير توقف… غبي… غبي… غبي. ص 135  أو  ولكنه حتى أنا الولد الغبي بتّ أعرف ذلك. ص / 142 .

وفي مهرجان التوصيف هذا يتفوق الراوي أو  الولد الغبي  في عدد وتباين الأوصاف على الجميع ، حتى على سالم الغني بكل سطوته وهيمنته واختلاف أراء الناس فيه ، والذي لم يحظ سوى بوصفين هما ألكابتن والباشا.

وسعيد الغني أو الكابتن أو الباشا هو شخصية مبهمة ذات ماضٍ دامٍ وحضور كلي في كل مفاصل حياة المدينة ، دون أن يحدد الراوي مصدر ذلك الحضور ومبعث تلك السطوة والهيمنة الطاغيين. ومن دون شك أن ثمة معطيات ما وراء نصية – ربما تكون هي ذاتها التي حالت دون نشر الرواية في حينها – حتمت على الكاتب القفز على تلك المعطيات أو تمويهها. ومع ذلك فالمحمولات المستترة وراء المفردات والمصطلحات والأحداث الرياضية ، كلها تشير إلى واقع سياسي معين كان مهيمناً في عراق ما قبل الإحتلال ، إضافة إلى أن المدلولات المبثوثة في النص ، كلها تُشير إلى دال واحد يعرفه العراقيون جميعاً.

يستهل الكاتب روايته بجملة إستفهامية  هل بلغت يومها الثانية عشرة . ص / 10  والجملة على ما يبدو غير موجهة إلى الخارج بقدر ما هي موجهة إلى الذات بشكل يوحي بأن ثمة فاصلاً زمنياً ما بين زمن الحدث وزمن السرد ، وأن هذا الفاصل هو الذي خلخل ذاكرة الراوي المشارك وصعّب عليه تذكر عمره بذقة ، ولذلك يُجيب على استفهامه بشيء من عدم اليقين  لا أظن الأمر يتعدى هذه السن. ص / 10 . ألميزة الثانية للاستهلال الاستفهامي – إضافة إلى عدم توجيهه – هي إنه استفهام لا يتطلب ، ولا تُقصد منه الإجابة بقدر ما يُراد ترسيخه في ذاكرة السرد باعتباره نقطة البداية  زمن الحكاية الإطار = سن الثانية عشرة من عمر الراوي . وزمن الحكاية الإطار يشغل الحيز الأكبر من الرواية ، ولكن ثمة حكاية أو مروية أخرى ستبدأ بشكل يكاد يكون مستقلاً عن سابقه من الجزء الأخير من الرواية في مفارقة نقلت الأول إلى الأخير يوم كان الراوي يخوض مع صديقة طفولته خالدة السيد تجربة اللعب كعروس وعريس وهما يومئذ في التاسعة أو الثامنة من عمريهما  على هذه الصورة غير اليقينية  ، وهذه المروية الفرعية ستتداخل في الحكاية الإطار عندما يبلغ الإثنان سن الرابعة عشرة. من هذا التحديد الزمني غير اليقيني ستنطلق الأحداث باتجاهات مختلفة كلها مرتبطة أو محددة تبعاً للمسطرة الزمنية لعُمر الراوي المشارك :

–        نحن الصغار فقط ممن لم ينهوا دراسة الإبتدائية بعد. ص / 10

–        حين استدعاني المدرب عصر يوم وقد بلغت عامي الثالث عشر. ص / 32.

–        تلبستني حالة من الذكاء وأنا أستذكرها الآن أكبر من ذكاء ولد في الثالثة عشرة من عمره. ص / 37

–        أمدّني الكابتن في سن الثانية عشرة بقوة غريبة أفقدت والدي سطوة عينيه وهيـــــــــــبة لغته. ص / 39

–        أنت ما زلت في الثالثة عشرة ، ومع ذلك تنضج بصورة سريعة خارج قوانين الطبيعة. ص / 45

–        هل بلغت يومها السادسة عشرة. ص / 51

–        لم أشأ طول الطريق من قصر الكابتن إلى بيتنا وأنا أقاوم رغبة ولد لم يكمل عامه الثالث عشر. ص / 65

–        أن ثلاث عشرة سنة من العمر يجب أن تقف حائلاً من دون فهمي الواضح لما يُمليه الجميع عليّ من نصائح وملاحظات. ص / 69

–        ولكني تحاشيت تذكيرها يوم كنت في سن التاسعة ، وكانت هي دون ذلك. ص / 107

–        خالدة السيد وأنا في عمر الثامنة أو التاسعة. ص / 117

ولكن حالة عدم الاستقرار في المسطرة الزمنية للرواية الناجم عن ابتدائها – كما تبيّن سابقاً – برقمين غير يقينيين يمثلان حدي البداية وهما  ثمانية – تسعة  سيحسمها الراوي في خمسة مواقع لصالح الرقم الثاني ، وبذلك يستقر حدّ البداية عند الرقم  تسعة  :

–        ولكني تحاشيت تذكيرها يوم كنت في سن التاسعة. ص / 107

–        ولم أكن بريئاً في اختيار المكان والليلة والنوم ، مع أني إبن التاسعة أجهل كيف ينام عريس وعروس. ص / 140

–        خالدة السيد وأنا ذات ظهيرة بعيدة كنا في حالة زواج طفولي منذ عامنا التاسع. ص / 140

–        فأقسمت لي بأول ظهيرة تموزية ونحـــــــــــن في التاسعة. ص / 143

–        ونستعجل تمثيل مشهد الزوجين اللذين بكى أحدهما كطفل في التاسعة. ص / 144

وانسياقاً مع الشواهد اليقينية الخمسة السابقات سنتلافى حالة عدم اليقين التي خلخلت استقرار المسطرة الزمنية  العمرية  ونعتبر أن حد البداية فيها  بشكل يقيني  هو الرقم  تسعة  ، أما الرقم  ستة عشر  فهو حدّ النهاية فيها ، وستتوزع الأحداث بشكل مركز على الحدين المذكورين إضافة إلى الرقمين  أثنا عشر  و  ثلاثة عشر . وإن كان الراوي يعتمد في تزمين الأحداث على فواصل مسطرته الزمنية الخاصة به فحسب  سنوات عمره  إلا أن هناك فاصلاً واحداً لا ينتمي إليه بل إلى عمر جارته وصديقة طفولته خالدة السيد  الفتاة التي لم تتخطّ عامها الرابع عشر. ص / 106    وبما أن خالدة هي شريكة طفولته في لعبة العرائس على الأقل ، وهي في عمره مع فارق قليل  يوم كنت في التاسعة ، وكانت هي دون ذلك. 107  ولعل هذا الفارق القليل هو الذي جعل الراوي في مكان آخر يتجاوزه  منذ كنا في التاسعة. ص / 143  أو  ونحن في التاسعة. ص / 143 . لكل ذلك يحق لنا ربما أن نضيف الرقم  أربعة عشر  إلى سلسلة الأرقام المغطاة بالأحداث من مسطرة عمر الراوي الزمنية.

وبما أن المسطرة الزمنية  العمرية  قد بدأت بالرقم  تسعة  وانتهت بالرقم  ستة عشر  فهي إذن تضم ثمانية فواصل عمرية ، وقد استأثرت الأحداث منها بخمسة فواصل وأهملت ثلاثة. وإن كانت علاقة العريسان الطفولية البريئة لم تحظ من المسطرة الزمنية سوى بحد البداية الأول  الرقم تسعة  إلا أن الأحداث المتعلقة بعلاقة الراوي غير المتكافئة مع الباشا ستستحوذ على الأرقام  الأعمار  الأربعة الأخرى وبضمنها رقم  عُمْر  خالدة السيد ، لأن الباشا كان قد سلبها من حياة الراوي على مرحلتين ، في الأولى بالزواج منها ، وفي الثانية بقتلها ، كما سلب قبلها كل الأشياء الجميلة الأخرى منه  أباه ، وبيت الأسرة ، وسارة ، واللعب مع الفريق .

ويتلاعب الراوي في توزيع الأحداث على مسطرته الزمنية تقديماً وتأخيراً وبتراً ولصقاً دون أن يضطر دائماً إلى اعتماد محددات زمنية دقيقة ، إلا أن تلك القاعدة لا تعدم وجود بعض الاستثناءات :

–        كان يوم الثالث والعشرين من كانون الأول موعد المباراة النهائية. ص / 95

–        في الخامس والعشرين من كانون الأول ، وقد مضى عام كامل على إحراز البطولة. ص / 104

–        اليوم هو التاسع من أيلول. ص / 108

تتواتر على لسان الأب  سلمان الصالح  مروية الباشا الذي قتل أباه عبد المجيد الراعي واستحوذ على ثروته ، وقبل الباشا كان أبوه عبد المجيد قد قتل ولي نعمته عبد الله الغريب واستحوذ على ثروته ، هذه هي حقيقة العائلة القذرة والميراث المدنس التي كان يعرفها سلمان الصالح من دون الآخرين ، والتي لم يكن الراوي ، وهو إبن الصالح تحت تأثير إعجابه بالباشا ليصدقها ، بل أن ذلك الإعجاب المفرط لطالما دفعه لتكذيبها ، وتكذيب الأب أيضاً بالرغم من أن أحداثها تمتد إلى زمن أبعد بكثير من عمره ، وبالرغم من أنه لا يملك المعطيات اللازمة لهذا التكذيب. ولذلك ظل ثمة صراع خفي ما بين الأب والأبن حول مدى صحة الشائعة ، ولكن الإبن المخدوع كا قد حسم – في نفسه على الأقل – هذا الصراع لصالح الكابتن – الباشا ، فالخبر الذي يجعل من هذا الأخير قاتلاً هو مجرد شائعة لا محالة لديه ، ومن دون أن يُقحم الباشا نفسه مباشرة في هذا الصراع ، يساهم بشكل غير مباشر في ترسيخ هذا الحسم بتشكيكه في سلامة عقل الشخص الوحيد الذي يعرف الحقيقة ، وهو والد الراوي وذلك عبر خطاب موجه للراوي فيه من التلميح والإيحاء ما يغنيه عن التطرق صراحة إلى الشائعة وملابساتها  من حقك أن تعتزّ به ، فهو رجل نبيل وشجاع للولا أنه يتخيل أحياناً أشياء غريبة. ص / ويهذي بكلام غريب ، ولكن لا بأس عليه ، يقال أنه تعرض إلى أذى شديد في السجن أثر على مخيلته. ص / 36  ومن الواضح أن هناك ثمة إيحاء رابط ما بين فعلي  يتخيل ، ويهذي  ، وما بين الحقيقة التي يعرفها الأب وحده. والباشا بتلميحه هذا ضرب عصفورين بحجر – كما يُقال – ، فهو من جهة مهّد لتكذيب أية شائعة من المحتمل أنها قد تناهت لأسماع الراوي من أبيه متحوّطاً للرجل بوضع حد لكل ما يمكن قد صدر عنه ، أو سيصدر عنه. ومن جهة أخرى هو يطعن بسلامة عقل من يُعارضه ، والأب هنا هو رمز المعارضة الخفية.

ومن الواضح أن احتضان الباشا للراوي لم يكن بدافع إنتاج اللاعب الماهر بقدر ما كان بدافع إنتاج الشبيه المستنسخ ، ولذلك تتعرض العلاقة بينهما لشرخ عنيف جراء الخلاف بينهما على أسلوب اللعب ، فالباشا يعتمد أسلوب اللعب الفردي والمهارة الشخصية وقد عوّد الراوي وشجعه على مواصلة هذا الأسلوب حتى جاء المدرب الأجنبي ليخلخل قناعة الراوي بهذا الأسلوب الذي أصبح حسب المدرب الأجنبي قديماً  ومكشوفاً ولا يحقق النصر دائماً. ولا يخفى أن الكابتن أو الباشا / وكرة القدم / وأسلوب اللعب الجماعي / وأسلوب اللعب الفردي / والمدرب الأجنبي / والمدرب المحلي / والمصطبة / ومنتخب النار المقدسة / والمسدس المطلي بالذهب / والسيكار الأجنبي / والتمثال ذا القاعدة الرخامية / وغيرها كثير  كلها شفرات تنتمي إلى حقبة سياسية غابرة يعرف العراقيون دلالاتها تماماً.

ومن بداية الرواية حتى نهايتها لم يرفع الكاتب الغطاء عن أي مسمى من مسمياته المموهة باستثناء محاولة واحدة جاءت عرضاً ضمن خطاب الباشا الذي جاء متداخلاً مع خطاب الراوي وهو يشير إلى مدينته ، وقد جاءت تلك الإشارة المموهة كاشفة عن الفضاء المكاني الذي تدور فيه الأحداث  لأن المدينة حتى بعد اختيار المنصور لموقعها ، قال لي وهو يوميء بسبابته في حركة دائرية ، يقصد الجهات الأربعة ، ظلت في أصلها وأصل سكانها قرية كبيرة. ص / 31 .

وفي حين رصدت الشخصية المحورية  الراوي المشارك  ما حولها من الأحداث والمشاهد حسب وجهة نظرها ، وعكست صورة  ما يدخل ضمن إدراكها الخارجي بموضوعية الناقل لظاهر الأحداث والشخصيات ، دون أن تتورط في تلبس شخصية الراوي العليم ، إلا أنها أخفقت إخفاقاً تاماً في تبيّن الحقيقة التي هي جوهر الرواية ، حقيقة الباشا ، فالراوي والحالة هذه شخصية نصف مبأرة ، أو ناقصة التبئير ، بينما حظيت شخصية ثانوية أخرى ، وهي شخصية الأب بقدرة فائقة على معرفة حقيقة الباشا ، واستكناه دوافعه الخفية وراء احتضان الإبن ورعايته وإغداق المال عليه ، بل والتنبؤ بمصير العلاقة غير المتكافئة بينهما. وجاءت المفاجأة مرة أخر – بالرغم من أن مجيئها كان هذه المرة متأخراً – حين تمكنت شخصية ثانوية أخرى ، وهي الصديق المقرب حاتم جبّوري من تقديم قراءتها الخاصة الناضجة والواعية  لموقف الباشا تجاه الإبن  المعارضة – الهامش  بعد موت الأب  المعارضة – المتن  ، بل أن جبوري ضم نفسه أيضاً إلى  المعارضة – الهامش  باعتباره صديق الإبن المقرب بالرغم من أن الأحداث لم تقدم أية قرينة تؤكد صحة هذا الانتماء. ولذلك فأنه من الطبيعي أن يكون حاتم جبوري هو الآخر معرضاً لغضبة الباشا  ألكابتن أدرك أن الصالح هو وحده الذي يعرف الحقيقة ، ولأن الحقيقة ماتت بموته ، فما الذي يخشاه بعد ذلك ؟ لا شيء بالمرة ، أما أنت وأنا فقد تخيل سالم الغني اننا ورثنا بعضاً منها ، هل تفهم ؟ نحن إذن هامش على الحقيقة لا يؤذي ، ولكنه يُزعج فقط ، ولهذا كان لا بدّ بطريقة ما أن يتم إلغاء الهامش على الرغم من أنه لا معنى له من غير المتن. ص / 135  وبذلك يحق لنا أن ندّعي بأن هاتين الشخصيتين  الأب والصديق المقرب  شخصيتين مبأرتين ، أو أنهما تمتلكان وعياً تبئيرياً أنضج مما امتلكه الراوي نفسه . واللافت في الأمر أن هاتين الشخصيتين من بين كل الشخصيات الأخرى التسع والعشرين التي ضمتها الرواية ، والتي ساهمت منها سبع شخصيات في مهرجان التوصيف الذي سبقت الإشارة إليه ، أقول أن هاتين الشخصيتين هما لوحدهما كانتا قد خصتا الراوي بوصف  الغبي  ، ولهذا التوافق الذي جاء مصادفة ومن دون اتفاق دلالته ، فكلاهما معاً ومن دون الأخرين يمثلان أداة الكشف التي اتخذها الكاتب لتشخيص غياب الوعي التبئيري لدى الراوي ، أو عدم فاعليته مما جعله ينبهر حتى الانسياق الأعمى وراء الظواهر المخادعة ويضعف أمام سلطان العاطفة ويعجز عن اكتشاف الحقيقة في حين أن مفاتيحها كانت بين يديه.

ومع ذلك فأن المنطق يقضي من الراوي المشارك باعتباره الشخص الذي أوكلت إليه مهمة الإدراك أن يُبئّر الأحداث من وجهة نظره الخاصة ، وهي – كما تبيّن سابقاً – وجهة نظر مختلة وتليق بصاحبها حقاً وصمة  الغبي  ، لذلك ظل يختار من الأحداث بانتقائية ما يخدم الهدف المركزي وهو كشف الحقيقة التي مات دونها الأب ، ولكن هذا الكشف جاء بعد فوات الأوان ، وبعد أن خسر الراوي كل شيء ، ولم يبق أمامه سوى الإعتذار من الأب الميت الذي ظل حتى مماته يُجاهر أمام الأبن بالحقيقة ، وظل الإبن المخدوع يكذبها ، وهكذا خُتمت الرواية بخطاب تأنيبي من الراوي موجه لنفسه ، ثم ختم ذلك الخطاب بطريقة لمّاحة هي نوع من جلد الذات ، بالرغم من أن تلك الخاتمة لم تكن سوى سلسلتين من النقاط أعقب كل منهما الفعل  كان   بإحدى صيغتيه ، صيغة الماضي ، ثم صيغة المضارع المجزوم  أنتابني شوق لا يُقاوم لزيارة أبي والبكاء عند قبره ، وكنت في الحقيقة أتلهف رغبة في الإعتذار وطلب الصفح منه ، فقد كان… ولكني لم أكن…  ومن الواضح أن السلسلتين من النقاط تُعيدان بخجل إلى ذهن القاري أصداء الصفة التي جاءت بها العنونة والتي ظلت تتردد دائماً  ألغبي  ، ولكنها هذه المرة تلمّح إلى الصفة النقيض ، صفة  الذكي  التي حظي بها الأب ، بينما الإبن لم يكن كذلك.

{ الولد الغبي – رواية – حسن العاني – مطبعة المعين – بغداد / 2016

مشاركة