أ.د. سعد غالب ياسين
قد يبدو الحديث عن فرص التحول الى العراق الرقمي ترفا فكريا وسجالا أكاديميا وتنظيرا لايغني في شئ ولايفيد في ظل فشل الدولة بتنفيذ واجباتها( الامن والاقتصاد والخدمات) وتحكم الفساد في بنية الدولة واجهزتها وموسساتها وأنسداد الحلول وسطوة المليشيات والعجز السياسي والاقتصادي والمالي وغياب برامج الاصلاح الاداري وبرامج التنمية الشاملة والمستدامة وامور اخرى تشكل ملامح صورة قاتمة يمكن ايجازها بالعجز الذاتي للادارات والعجز الوظيفي للدولة.
ومع كل ماتقدم آنفا ليس أمام أصحاب القرار من خيار آخر ولامندوحة لنا ألا أن نركب المركب الصعب وان نسلك طريقا طويلا وشاقا يفضي الى التحول الرقمي من خلال تنمية وتطوير قطاع تكنلوجيا المعلومات والاتصالات وتطوير البنية التحتية الرقمية الجديدة
بعد ان تخلف العراق ثلاثة عقود عن دول المنطقة والعالم في هذا المضمار.
لقد تراجع العراق عن جميع دول المنطقة في مؤشرات تطور تكنلوجيا المعلومات والاتصالات والتكنلوجيا الرقمية والمنصات الحكومية الرقمية ومعدلات انتشار الانترنت والخدمات الرقمية ذات النطاق العريض. فالعراق على سبيل المثال لاالحصر يحتل المرتبة 172 من 190 في خدمات الحكومة الالكترونية والرتبة154 للخدمات الالكترونية الموجهة لدعم الاعمال وهو الان خارج تصنيف المنتدى العالمي للتنافسية الذي يهتم بالمهارات التعليمية والرقمية المطلوبة للثورة الصناعية الرابعة في الوقت الذي تتصدر دولة الامارات العربية المتحدة(الرتبة 27 عالميا) وقطر ( الرتبة30) لافضل الاقتصاديات الرقمية. أما بالنسبة لتكنلوجيا المعلومات والاتصالات وخدمات النطاق العريض الخلوية والثابتة فان لبنان والاردن يتصدران دول المنطقة كما تحظى ايران بمعدل انتشار مرتفع نسبيا لخدمات النطاق العريض.
باختصار تخلف العراق ثلاثة عقود عن دول المنطقة والعالم في حقول بناء وتطوير تكنلوجيا المعلومات والاتصالات والتحول الى اقتصاد المعرفة الرقمي الذي يتجلى بوضوح في بنية تحتية رقمية متطورة وحكومة رقمية ذكية واعمال الكترونية ومحمولة وتجارة رقمية ونظام مالي ومصرفي محوسب بالكامل بخدمات ذكية متكاملة ومهارات رقمية عالية ومدن ذكية وحوسبة رشيدة وصناعة متطورة للبرمجيات الجاهزة وانتاج مبتكر للمحتوى الرقمي وخدمات تكنلوجيا المعلومات.
نعم تخلف العراق كثيرا عن مسار التقدم التكنلوجي والابتكار الرقمي وابتعد اشواطا عن فرص اللحاق بقاطرة الاقتصاد الرقمي الجديد الذي دشنته دول العالم وبدرجات مختلفة من حيث التطور والاندماج النوعي .وبسبب السنوات العجاف الطويلة التي مربها المجتمع والاقتصاد وجدنا ان العراق يتقادم ويتلاشى ويندثر في ثرواته وموارده البشريه وطاقاته واصوله. يتلاشى امام التقدم الهائل والمتسارع في التكنلوجيا الرقمية وتقنيات الثورة الصناعية الرابعة واستحقاقاتها وتحدياتها وفرصها الثمينة.
واليوم وفي مطلع العقد الثالث من الالفية الجديدة لايزال العراق في مرحلة التاسيس لقطاع تكنلوجيا المعلومات والاتصالات والتكنلوجيا الرقمية وماتتطلبه من بنية تحتية وشبكات ونظم ومنصات رقمية وخدمات. ولتوضيح هذه الحقيقة يمكن لنا القول ان العراق يبدأ من النقطة التي بدأ بها الاردن في عام 1999 عندما أطلق الاردن أول استراتيجية وطنية لبناء وتطوير قطاع تكنلوجيا المعلومات والاتصالات التي أعقبتها برامج ومبادرات واستثمارات مهمة حتى وصلت ايرادات هذا القطاع الى 2 مليار دولار في عام 2014 والان يعتبر قطاع تكنلوجيا المعلومات من اهم القطاعات الاقتصادية وفي مقدمة الصناعات التصدرية للمنتجات والخدمات الرقمية.
وقد تخلف العراق وفق معايير موشر الانترنت عن جميع دول المنطقة تقريبا. نذكر على سبيل المثال لاالحصر ان تسلسل قطر في موشر الانترنت(37) عالميا والاولى عربيا تاتي بعدها الكويت (38) عالميا والثاني عربيا ثم السعودية (39) عالميا والثالث عربيا والاردن (52) عالميا والسادس عربيا. لذلك كلما تاخر العراق في تطبيق ستراتيجيات التنمية الرقمية وتجسير الفجوة الرقمية مع دول المنطقة والعالم كلما ازداد تخلف العراق الاقتصادي وتباطئ نموه المكبل بالايراد الريعي للنفط وازدادت معدلات الفقر الرقمي والامية الرقمية وتراجعت فرص اللحاق بقاطرة التكنلوجيا الرقمية.
والتكنلوجيا الرقمية هي قاطرة التاريخ. التكنلوجيا الرقمية بثوراتها وسلاسل القيمة فائقة التقانة العالمية هي قاطرة النمو الاقتصادي ورافعة المجتمعات والاعمال للتحول التاريخي نحو اقتصاد المعرفة والابتكار الرقمي الجديد. قاطرة التكنلوجيا الرقمية تتحرك في مسار التاريخ والمستقبل بطاقات ابتكارية متجددة لانهائية ولاتستطيع التوقف في محطات الكسالى لانها ببساطة لاتستطيع التباطئ ولايمكنها ان تقف لتنتظر المتاخرين والفاشلين.
أذن ليس لنا من خيار الان سوى أن نبدأ بجدية وحزم وارادة وطنية لتطوير وتطبيق ستراتيجيات التحول الرقمي في مرحلتين على ان تظم هذه الاسترايجيات مايلي: اولا: ستراتيجية بناء وتطوير البنية التحتية الرقمية لتفيز النمو الاقنتصادي وخلق وظائف جديدة والتركيز على تطوير شبكات الاتصال ذات النطاق العريض ذلك لان كل 10 بالمئة زيادة في معدلات الوصول الى الانترنت يحقق زيادة مابين 0.85 الى1.16 في الناتج المحلي الاجمالي وان كل وظيفة جديدة في التكنلوجيا الرقمية ستوفر وظائف غير مباشرة مابين 1.8 الى 3.42 وظيفة في قطاعات اقتصادية مترابطة اخرى.
بالنسبة لواقع قطاع الاتصالات في العراق فان خدمات الاتصالات عيضة النطاق لاتمثل سوى 17,4 بالمئة وفق بيانات البنك الدولي وان جميع مشغلي الاتصالات يستخدمون الجيل الثالث باستثناء الشركة التي تعمل في كردستان العراق وتستخدم الجيل الرابع علما ان معظم الدول المجاورة ودول الخليج العربي تستخدم الجيل الرابع والخامس كما قطعت هذه الدول شوطا متقدما في استخدام شبكة الالياف البصرية وشبكات فايبر- انترنت للمنازل.
بالاضافة الى ضعف البنية التحتية الرقمية لاتوجد في العراق جاهزية الكترونية بمعايير عالمية للحكومة الالكترونية في الوقت الذي تجاوزت دول العالم منصات الحكومة الالكترونية التقليدية لتتحول الى الحكومات الرقمية الذكية التي تتجاوز بذكاء خدماتها والتسهيلات التي تقدمها وبخصائصها الوظيفية والتقنية المهمة وغير المسبوقة الحكومة الالكترونية باجيالها الاولى . واليوم يشهد العالم المتقدم تحول الحكومات الرقمية الذكية الى حكومات رقمية وذكية ومفتوحة. اي حكومات تشارك مواطنيها باعمالها وتنشر كل بياناتها وسجلاتها وانشطتها بشفافية غير مسبوقة تاسيسا للمساءلة والمحاسبة والمسؤلية الاجتماعية والعدالة ومحاربة الفساد والتمييز بكل انواعه واشكاله.
وبسبب ضعف الجاهزية الالكترونية وغياب المبادرات الجادة يحتل العراق في التصنيف العالمي لخدمات الحكومة الالكترونية المرتبة 172 من اصل 190 دولة في العالم.
لذلك يحتاج العراق لاستراتيجية مزدوجة للحكومة الرقمية والمفتوحة لتعزيز كفاءة الاداء المؤسسي والفردي وتقديم خدمات سريعة ومرنة للمستفيدين والاهم من كل هذا ضمان الشافية والمسائلة وكشف الفساد والتهرب الضريبي. هذه الحكومة تستطيع تقديم خدماتها الرقمية للمواطنين والمستثمرين والمقيمين على اساس المواطنة الرقمية وبما يعزز الانتاجية وجودة الاعمال ويكسر حلقات الفساد.
مفهوم الحكومة المفتوحة يعني ايضا تطبيق سياسات نشر بيانات المؤسسات والهيئات والاجهزة بانتظام واستخدامها ونشرها للمستفيدين بشرط ان تكون منظمة وقابلة للتحميل والخزن ومجانية ومرفقة بترخيص لاعادة استخدامها. ويمكن على سبيل المثال لا الحصر نشر العطاءات والمناقصات وسجلات العقود الحكومية لضمان العدالة والشفافية وتقليل الكلف ومنع الصفقات المشبوهة التي تجرى في الزوايا المظلمة والغرف المغلقة.
ثانيا :الاستراتيجة الثانية تتوجه نحو تنمية وتطوير المهارات الرقمية التي تتوافق مع برامج اعادة هيكلة التعليم في العراق بكل مستوياته وانماطه وبرامج التعليم المستمر والتدريب والتاهيل.
لقد خسرالعراق كل مااستثمره في عقود السبعينات والثمانينات والتسعينات عندما كان العراق يحتل قمة التعليم والصحة في منطقة الشرق الاوسط وعندما كانت موازنة التعليم تبلغ مليارين ونصف في عام 19989 وكان الانفاق لكل طالب 620 دولار وفق بيانات البنك الدولي. لكن مابين السنوات 1992-2002 انخفض متوسط الانفاق السنوي لكل طالب الى 47 دولار وخسر العراق في هذه الفترة والسنوات التي تلتها اكثر من 3000 استاذ جامعي وخبير واستشاري.
والان ومع انبثاق موجات التكنلوجيا الرقمية للثورة الصناعية الرابعة وماتقدمه من حلول ذكية للاعمال وصناعات ابتكارية جديدة للذكاء الصناعي والالات الذكية وانترنت الاشياء والاجهزة ذاتية الحركة والطابعة ثلاثية الابعاد والحوسبة السحابية والبيانات الضخمة وعلوم المادة وتخزين الطاقة وحوسبة الواقع المعزز والخدمات الذكية والحوسبة الكوانتمية وتطبيقات تعلم الالة في العالم الرقمي الجديد وخدماته من تجارة الكترونية وخدمات مصرفية رقمية على الموبايل فان المهارات المتاحة الان للعاملين في القطاعين العام والخاص لايمكنها بل لاتستطيع البتة الايفاء بمتطلبات المهارات الرقمية والتقنية الجديدة بل ان نسبة كبيرة من هولاء لاتتوافر لديهم المهارات التاسيسية ويقع هولاء ضمن فئة الامية الرقمية . ولايستطيع النظام التعليمي في العراق بجميع مراحله من تقديم مهارات التعلم والمعرفة التي تشكل راس المال البشري المنتج في الاقتصاد الرقمي الجديد. ولان التعليم الحالي في العراق مصمم على اساس المدخلات ويهتم باعداد حملة شهادات من دون النظر الجاد والعملي بنواتج التعلم وبسبب الفجوة مابين الطلب الاجتماعي على الشهادات والطلب الاقتصادي والسوقي على المهارات فان استراتيجية تنمية المهارات الرقمي يجب ان تشمل جميع العاملين وبغض النظر عن شهاداتهم وتعليمهم ودرجاتهم الوظيفية ومواقعهم في القطاع الحكومي.
ثالثا:الاستراتيجية الوطنية الثالثة تعنى بحوكمة البنك المركزي واعدة هيكلة النظام المصرفي وتطوير الخدمات الرقمية المالية من خلال الانترنت والاجهزة المحمولة( الموبايل الذكي والمحمول والاجهزة الرقمية المساعدة والحاسوب المحمول بانواعه المختلفة).
ان الميزة التنافسية المستدامة تقوم في عالم اليوم على الاستخدام الاستراتيجي ذو القيمة المضافة للتكنلوجيا الرقمية الذكية الجديدة بخدماتها وبسلاسل القيمة المتشابكة محليا واقليميا وعالميا والمتكاملة مع الاعمال الدولية والتجارة الرقمية في العالم. ويحتاج العراق لتطبيق هذه لاستراتيجية تطوير منصات المصارف العراقية على شبكة الانترنت وتحديث نظمها وشبكاتها ومنظومات اعمالها وثقافاتها التنظيمية التي يجب ان يكون محورها الزبون والمستفيد.
كما يجب ان تدرك ستراتيجية التول الى النظام المصرفي والمالي الرقمي الفجوة المتزايدة بين الواقع التكنلوجي والاداء الموسسي وتنافسية هذه المصارف والتحولات الجذرية النوعية وحجم الاستثمار الهائل للمصارف العالمية في دول العالم والمنطقة في تكنلوجيا البيانات الضخمة والحوسبة السحابية والخدمات المصرفية الذكية على الموبايل وانترنت الاشياء وغير ذلك من تطبيقات الثورة الصناعية الرابعة.
فاذا اخذنا انترنت الاشياء على سبيل المثال نشير فقط الى ان هذه الشبكة بالذات(تربط الاجهزة والمعدات وتتصل بالانترنت مباشرة )تمثل اهم مصادر التميز والنافس في الاداء المصرفي بالاضافة الى تطبيقاتها الثمينة في صناعات الطاقة والكهرباء والبيئة والامن والدفاع( وفي حالة العراق وعند توافر بنية تحتية رقمية يمكن نصب عدادات ذكية لقياس وضبط صادرات العراق النفطية او معدلات استهلاك الكهرباء والمياه مرتبطة بانترنت الاشياء مباشرة).
رابعا:الاستراتيجية الوطنية الرابعة تعنى بتطوير شبكات ومنصات رقمية جديدة التي تستطيع تقديم حلولا مبتكرة وفي الوقت الحقيقي لمشاكل الدولة المزمنة في التعليم والصحة والطاقة والحماية الاجتماعية والاستثمار والنقل والمياه والخدمات اللوجستية.وجود منصات رقمية ومواقع خدمة شاملة للمؤسسات
والمنظمات والهيئات الحكومية وغيرها سيحفز النمو الاقتصادي والاستثمار ويعزز الشفافية والمسائلة ويزيد من فرص
هذا الاساس يمكن القول ان الحديث عن النمو الاقتصادي والتنويع الاقتصادي والشراكة مع القطاع الخاص وجذب الاستثمارات وبناء كتلة امنية متراصة وقوية لمواجهة الارهاب ومافيات الفساد لايمكن ان يتحقق أذا لم تبدا الدولة بمشروع وطني شامل للتحول الى الاقتصاد الرقمي والريادية الرقمية بصورة متوازية مع اصلاح اقتصادي طويل المدى لان الاستثمار في العراق الرقمي هو المدخل الوحيد لكفاءة الاداء المؤسسي والفردي وتحسين الانتاجية وجودة الخدمات وايقاف الهدر المالي ومواجهة الفساد والبطالة ونقص الوظائف وضعف الحوكمة.
الاستثمار في العراق الرقمي يؤسس قاعدة قوية للمبادرات الريادية وتحفيز الاعمال الخاصة وبناء نظام وطني مؤسسي للابتكار ونقل التكنلوجيا وتطويرها وتبيئتها في البنية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية.
العراق الرقمي هو فرصة علمية وحضارية لانشاء مراكز البحوث المتخصصة ومراكز النخب المتميزة لدعم الصناعة والزراعة والتعليم والصحة وتطوير حاضنات التقانة وحاضنات الاعمال التي تساعد المستثمرين على بناء الشراكات الجديدة ذات القيمة المضافة. العراق الرقمي سيكون حاضنة معرفية وتكنلوجية لخلق الوظائف والاستثمار في أفضل الممارسات الناجحة للحوكمة الرشيدة على مستوى الدولة والاعمال. وأما بعد هل لنا من خيار أخر؟ بل هل سيبقى لنا خيار أصلا؟ وهل الاندثارخيار؟
يقول الفيلسوف العظيم ايمانويل كانت في مقالة ماالتنوير؟”
التنوير هو ان تتجرأ وتستعمل عقلك. ولان الاستثمار في العراق الرقمي هو ببساطة تنوير وحداثة فعلى الحكومة العراقية ان تتجرأ وتبدا بمشروع وطني للتحول الى العراق الرقمي لان التخلف لايسرق انسانيتنا ومستقبل اجيالنا حسب وانما يصادر هويتنا وتاريخنا وانجازات بلدنا وثقافتنا ودوره الحضاري ورسالة العراق لاترتضي كما نعرف الا تغيير ايقاع التاريخ.