
فاتح عبد السلام
حين وضعتُ يدي في جيبي لأدفع ثمن قدح الشاي في المقهى اكتشفت انّ الموبايل ليس معي، حاولت أن اجده في جيب اخر لكن من دون جدوى، فقال لي نادل المقهى: هل فقدت شيئاً، فأجبته: لا شيء مهماً، الموبايل فقط.
امتقع وجه النادل، كأنه هو الذي فقدَ هاتفه وقال:
كيف انه شيء غير مهم، هو كل شيء في هذه الحياة.
في هذه اللحظة شعرت بجسامة انّ تكون الحياة مصنوعة بالتكنولوجيا ومصممة لتدخل في هاتف صغير تحمله معك ويحمل هو كل شيء عنك، وإذا ضاع ستشعر أنك فقدت كل شيء وضعت معه.
لحظات مرّت عليّ، وقلت إذا لم أجده في مكان ما لاحقاً، فلن أعود للموبايل مرة أخرى وسأكون أول متمرد على نظام كوني يحكم كل شيء، وهو أمر لن يكون مسموحاً به، حتى لو أنا، افتراضاً، استطعت التخلي عن الهاتف.
هذه الحياة لن تحياها كما انت تريد، مهما أوهمت نفسك، حتى لو كنت فقيراً معدماً كأطفال غزة أو فاحش الثراء كزعماء الأحزاب ومقاوليهم في العراق. التكنولوجيا التي تخدمك تنغّص حياتك أيضا، وتكون مدخلاً لمراقبتك بشكل رسمي أو من خلال المتسللين الذين يريدون العبث مع بياناتك وصورك.
التكنولوجيا التي تفرح بها مع كل منجز يدخل منها في حياتك، تكبلك من دون ان تشعر حتى تقع في موقف لا تحسد عليه.
قبل أيام سألت عاملة برازيلية أعرفها: هل صحيح انّ هناك قبائل تعيش عندكم على ضفاف الامازون منقطعون عن العالم وليس هناك لهم أي اتصال بما يجري في بلادكم.
قالت: نعم انهم موجودون فعلاً، ليس لهم أي هواتف او وسائل تكنولوجية، ولا يريدونها أصلا، واعدادهم لا تزال قليلة او نحن نجهل حقيقة وجودهم حقاً، يكاد العالم ينسى وجودهم فليس لهم تأثير على أحد.
فقلت لها: وفي نفس الوقت ليس لأحد تأثير عليهم.
قالت: بالفعل، نحن كبرازيليين نسمع عنهم ولا نعلم الكثير.
حين خرجت من المقهى، تحسست جيوبي في حركة غير إرادية بحثاً عن الهاتف الذي أعلم انني فقدته، وقلت في نفسي، ليكن ما يكون، لعلها ساعة حرية لن تتكرر، ثم قلت أيضاً، لكنها قد تكون كابوساً، كما حصل مع صديقي الذي ذهب الى الجامع ليصلي، ونسي هاتفه في المنزل، فوقع بيد زوجته التي تلقت نيابة عنه رسالة من ذكريات أيام الجامعة التي عمرها أربعون سنة، وتلقى الرجل “وعده” حين عاد. فقالت له زوجته: ذهبت للعبادة ونسيت ذيلك في البيت؟ فاندهش الرجل كأي غافل وقال: أيّ ذيل؟
فقالت له بكل ثقة: ذيلك الذي تلعب به من ورائي.
رئيس التحرير-الطبعة الدولية


















