ذكريات شهيد
يقولون قبل لحظة موتك بثواني شريط ذكرياتك منذ ولادتك للحظة مماتك يمر امامك . كل الاحداث والمغامرات والقصص التي عشتها تعاد عليك وكأنها حدثت الان
وكأن شريط حياتك هذا سيكون اخر فيلم ستشاهده وتعيش للمرة الاخيرة احداثة
كنت شاباً جميلاً كما تصفني امي فقير الحال مجتهد لم يعطني الوطن اقل خدماتي الا انني احببته وشغفت حباً به كما لم يحبه احد واصلي على ترابه واشعل الشموع في كل يوم جمعة ويوم احد لم اضجر منه ابداً لان امي علمتني ان حب المحبوب دائماً يكون بلا مقابل .. كنت مقاتل في سوح القتال مترباً بترابه حاملاً عتادي معي واحارب اعدائه ما استطعت
اخر ما سمعته حين صرخ صديقي عبدالرحمن باذني (علاوي كوم علاوي علاوي الله عليك لا تعوفني لا تعوف زوجتك وزينب علاوي مظل شي ونرجع لبيتنا لك علاوي فدووة لاتعوفني فدووة لاتموت لك علاوي لك حبيبي علاوي )
كان عبدالرحمن يصرخ علي ويهزني وانا متمدد في حضنه غارق بدمي بعد ان كُنتُ واقفاً ارمي الرصاص من فوق سطح احد المنازل في الفلوجة وحين اتت طلقة القناص وسط جبهتي فسقط دمي صريعاً كأول ما يخسره المحاربون .!
علاء الاسم الذي اطلقته علي امي حباً بأخيها الشهيد “علاء” الذي أعدم بتهمة العمل السياسي ابان النظام الحاكم قبل 2003 ولانني وحيدها زاد تعلقها بي
كانت تريدني كأخيها حاملا صفاته شهم، شجاع وقوي لايهاب الظلم حين كنت صغيراً كانت دائماً ما تقول لي علاء ابني الوسيم كخاله هل ستغدو مثله كنت اهز رأسي وانا انظر بعينيها وكإنهما تقولان لي هل سيأخذك ظلم هذه الأرض الملعونة كما اخذه
ذكرياتي من الطفولة كلها مرت امامي لعبي وصباي والجروح التي اصبت بها من لعبة كرة القدم وعملي في دكاكين محلتنا لكي اكسب المزيد من القوت اعود به حاملاً بعض اكياس الخضروات لامي الى حين تراودت السنين وكبرت واصبحت شهماً وشجاعاً و غيوراً كما ارادتني اكملت دراستي في هندسة الميكانيك مع الوضع المعيشي الذي كنا نعيشه كنت سعيداً وانا مبتسم فيها كابتسامة البسطاء التي تنطق رغم الالم بجميل الحياة كانت ذكريات جميلة واكثرها جمالاً ذكريات الجامعة تلك واصحابي واهم حدث حيث التقيت بالفاتنة ذات الخال الجميل على الخد
ابتسام كانت فتاة حسناء جداً و ذكية ومغرورة الى حد ما بجاهها و ثقافتها العالية
كنت محظوظاً كثيراً كما قال اصدقائي حين حظيت بشرف الوقوع في حبها
فكيف اذا طلبت يدها لن اتكلم لكم عن قصة حبي معها جل ما اقوله انها فتاه شديدة العناد والمراوغة والحيطة ولكن في الاخير اوقعتها في حبي و بموافقة والدها الذي كان اكثر عناداً منها تزوجنا بعد تخرجنا ورزقتا بفتاة تحمل حسن والدتها و لون شعري الاشقر اسميتها زينب ….
عشت مع ابتسام و طفلتي الصغيرة اجمل ايام حياتنا بالرغم من كون عائلتنا متوسطة الحال الا ان السعادة غمرتنا بشدة ونحن ننتظر مولدنا الجديد الذي لطالما كنت وابتسام نتاقش في الليل على اسمه وتتنهي مناقشتنا بالخصام من جانبها لانها لا ترغب باسمائي وتراها قديمة الطراز كما كانت تقول وانا بدوري لايسعني الا ان احرك بوجهي مستهزاً من اسمائها العصرية جداً !
ذكرياتنا كانت ممتعة ومرحة الى ان اعلن الوطن انه قد تعرض لغزوة ارادت به ايادي الشر ان تحتله ولانني ابنه ومن حبي وواجبي اتجاهه تطوعت للدفاع عنه . مضت ستة اشهر وانا اقاتل في ساحات القتال ونعلن فوزنا في كل منطقة نقاتل فيها تعرفت على الكثير من المقاتلين واصبحوا اصدقائي منهم من استشهد ومنهم من اصاب بجروح و خسرت الكثير
كل منا كان يعلم ان في لعبة الحياة و خصوصاً هذه التي تطوعنا اليها اننا مغامرون بحياتنا و زاهدون بها من اجل اطفالنا ونسائنا وكل احبابنا فما لصاحب البيت الا الدفاع عن بيته وعرضه وذويه حين يطرق غريب داره بنية الشر
الحياة قصيرة كما اراها الان امامي ربما لانني مازلت شاباً وذا عمر صغير ولم اعش الكثير بعد الا انني تيقنت شيئاً في النهاية لا شي يدوم فيها لا الفرح ولا حتى الحزن البسمة ان عُشتها فتذوق طعمهاً و تلذذ به قدر الامكان والحزن دعه يأخذ مجراه الطبيعي ثم اتركه وانسى ذكرياته ..تلك الخيمة السوداء التي تطفو على حياتنا فجأة اعطها اقل وقتها ثم لونها بالوان الحياة .
الذكريات تتوالى الواحدة تلوى الاخرى و شريطها بدأ يقل الى ان وصلت لاخيرها وانا مبتسم كما عشت زماني حيث اردت ان اختم بها مغامرتي بتلك الرسمة على وجهي …. حتى افارق الحياة
وفجأة صوت عبد الرحمن وصراخه انقطع من اذني سكون مطبق حل بي هل مت ؟ هل انا الان اصبحت ما يسمونني شهيداً
ماهذا الضوء اه اهو البرزخ كما يطلقون عليه ؟ يال الروعة ملابسي بيض ناصعة و غبار الحرب والمكان اختفى من كل جسدي حتى مكان الرصاصة اختفى واصبحت جميل المنظر كاول يوم العيد !
لحظة من هناك يا هذا “يا ولد يا ولد “انتبه علي “شلونك خوية بلا زحمة عليك وين احنا شو مجاي افهم شي “
“-والله يا خوية اني حالي حالك هم كاعد وانتظر شو الشغلة غريبة ، انتة منين خوية ؟ ” سألني
“انا انا اعتقد انني شهيد اسمي علاء وحسب ما اتذكر فانني استشهدت في معركة الفلوجة “
ثم قال “ها خوية هلا بيك هلا بيك وهنيئاً الك الشهادة اهلك فخورين بيك هسة.
سارة حاتم زرع الله – بغداد