ديوان العتق والسوار لناظم الصرخي
صورة شعرية متفجّرة
عبد الباري المالكي
من عتق بغداد ينطلق شاعرنا (الصرخي) في رحلة الألف ميل ، وتنفجر صوره دون استغلاقٍ واستبهام ودون أحاجٍ للتكهنات التي تشيع .
ويقف بنا شاعرنا عند سوارها في أعصاب هادئة ، ومشاعر رزينة وخيال مستديم ، فيلثم أريج بغداد ويرضع من ثراها .
حركة ابوية
انها طاقةٌ لحركة أبدية يجدها (الصرخي) في مجد بغداد وعصورها حيث أن لوعة الغياب قد أشعلته وألهبت في وجدانهِ سحراً خارقا ً وفيضا ً من العتاب .
وتحت ظلال المتعبين كان (للصرخي) ثمَّة طيف بهيج واشراقة تسافر به مع عطر للأزهار ، وضحكة تتماهى ، وسحر فراشات ، هي أقرب الى دَلالٍ يتيه به طفل ٌ ، من سذاجةٍ .
تحت هذا الظل يكمن المزاج العفوي فينطلق الشعر من شفتيه بسلاسة وتروٍ وبسخونةِ تأملاتٍ ونداوةِ منطقٍ وحياةٍ جذلةٍ، وكأنّه غديرٌ يغسل أوجاعه ، وصبرٌ يماوِجهُ ، وبَرَدٌ يتساقط عند الهجير . انها محاولة منه للسباق مع الزمن ومحاولة لاجتيازه إذ يعدو شمالاً ويميناً حتى مطلع الفجر ، فكان عدْوُه امتداداً لوجدانه ، وعناقا ً دون تمرد عليه ، يجاذبه ودّاً ويرغب إليه برضاً ، مقبلاً عليه غير مدبر ، يساوره الأمل ولا يلفه السأم ، يحس إحساسا ً عارما ً بزحف الزمن
فالزمن لدى (الصرخي) قضيته الكبرى ، وأمله الذي يمنح قارئه الأمل الأخضر فيتسرب إليه فيضٌ من مشاعره دون أي وشلٍ من التشاؤم ، وقد أفلح (الصرخي) إذ شارك جمهوره لواعجَه ، اذ يمكن ان يقال أن محيط شاعرنا يتألف من مجرى واحد هو (الوجدان) يحوطه مجرىً ثانٍ هو (الزمن) . فهو ينهض عند الفجر ، يأخذ زاده ومتاعه ولا يتعبه الجري في الحياة ، بل هو يعزف بقيثارة ربيعه ورزانة عنفوانه حيث الميدان الواسع عنده ، وهو يزرع في كل ركن قطرة مستقلاً عن غيره ، فتستحيل تلك القطرة إلى ربيعٍ ذي أشجارٍ وشلالاتِ مياهٍ وأحلامٍ ورديةٍ…و …و…وأطفالٍ يلعبون . وشاعرنا .. إذ يولَد في فلك الأحجار فإنه ينظم النجوم حباتٍ يخرزها حبة حبة لتكون قلادةً في عنقه ومفخرةً على مدى العصور والأزمان، ونغمةً يلحنها في تلك السلسلة اللامتناهية التي تسبغ عليه تداعيات جميلة وإيحاءات طاهرة وأوزاناً مغناة وايقاعا يترجم لنا وجدان (الصرخي) للأذن لا للعين ، ويصحّ أن نقول أنه جرس لا يثقل المعاني وتداعياته ، فللكلمات أثرها وسحرها مما يستعصي على غيرها ذلك الأثر والتعليل، فقد يكون للجرسِ أثرٌ أكثر مما يعنيه المعنى … فالجرسَ هو في ما يثيره من نبضٍ للحياة . والمساء في نظر ( الصرخي) صورة لابد من ترجمتها والمرور عليها لنستقي نبضات تندّي الوريدَ ، ونجمة تستبيح الدجى ، وحدائق يشتهيها الربيع ، فمساؤه أشبه بمساء ازمنة الطفولة التي لا تحتاج الى ترجمةٍ تكون أقرب الى حياة أهل الريف البسيطة الغير متكلفة ، تبنى على أساس ثروة تصويرية بعيدة عن الساعات والأرقام.
ومساؤه يحتاج الى عينين فيهما الكثير من الليل يستقيه من نهري دجلة والفرات ويستطيب فيه الهوى والحنان ، ويجري فيه بزهو الرحيق وعطف الصباح . وتلكما العينان لا تغفوان اذا غفل زمانه وظن مخاتلٌ أن له القدرة على العبث في مسائه او أن ثعباناً شاء أن يزري بأحلامه لأن عينيه ترصدان الفجّار وما يتمترس به الشيطان . فمساؤه غناء مهد وملامح غد ، يركز الضوء ويختزل المشهد ، كصورة ينظر إليها من خلال زجاج موشوري وكأنه ينقذ نفسه من عالم الرؤى الشريرة . وشاعرنا (الصرخي) إذ يتهدج صوته في حزن لأزهار وأدَها الفاسدون ، وأرض ندية اقتلعوا بشرتها ، وأحلام قتلوا ألوانها، وجدران هدموا بنيانها ،وجداولَ أوقفوا جريانها، فتقطعت أوداج قلبه ليبحث قي أنفاق الليل عن طفولة تدوم ، وقوارير تبتهل بأنفاسٍ زكية، وعن فرسٍ فاحمِ السواد ، وقمر أبيض كالثلج ليبتاع تلكم الطفولة برقّتها وحنوّها ، فلم يسبق أن عاشت الطفولة بين أضلاع شاعر كما يعيشها شاعرنا ( الصرخي) ، تهمس في قلبه وتهدّئ من روعه فيشرب حين ذاك من الماء البارد ، ويخط بالقلم الأسود خطوط الشعر وموازينه . ورغم ما يشاع عن شاعرنا أن أسارير حبه قد تلاشت، وريحاً سوداء قد صبغته ، ومطرقة حممٍ قد حطمته ، وأشباحاً قاتمةَ الألوان باتت تلتحفه ، لكن ليس كل ما يشاع صحيحاً فلديه من رباطة الجأش والتماسك حتى في أصعب اللحظات قهراً ما يجعله شديد العناية بأحرفه والاعتداد بصوره والجهد بترجمة أحاسيسه ، إنه كمن كانت النار في يديه فيعلم ماتعني تلك النار فيعالجها . فلديه الروح الكافية للنجاح ، فهو لا يفتأ يحدثنا بالروح عن الروح لأنها اسطوانة عزفه التي يستمع إليها كقطعة موسيقية ، ومصدر فطرته المؤثرة التي لا يقاومها أبدا ً ، وهي الجذور المكينة الجليّة في تربته الأولى التي نعرفها عنه جميعا ، هي قوة اسلوبه ، وصراع فكره ، وأوتار حنجرته ، ودرجةٌ يصعد بها إلى برج كماله . والعشق عند شاعرنا هو حقل يضوع المسك في جميع أروقته ، فهو كيان للورد الحقيقي الذي تنبعث منه أجمل الأنغام عند رمال بحره التي تستفيق بها لؤلؤة ، وصدفة محار ، تلك الأنغام التي تعبّر عن طاقة ضخمة تحوّل التلاشي الى طبيعة زاهية ، فيغازل شاعرنا النجوم في أحلامه ، وتتساقط الأمطار على كتفيه وكأنه يملك الاسم الأعظم .
بلوغ المطاوعة
ورغم السهر والقلق الذي يعيشهما شاعرنا إلا أن عشقه قد بلغ المطاوعة نفسها التي عاشها العاشقون قبله حين عرضوا عشقاً لا يتبدل، وصوتاً لا يخفت ، وورداً لا يموت ، وجنوناً لا نظير له في الانفعال البشري . كل ذلك كان قميناً بالحفاظ على صور الرغبة لدى شاعرنا في طريق الحب الذي تجلّى في شخصيته وهو يصبّه في بئرٍ لا قرارة لها . ولم يكن ثمّةَ توقّع لتوقف في الجريان ، بل في قصائده هناك ما يوحي لرغبة دائمة تصاحب التدفق الطبيعي للعشق مصاحبة حميمية ، وهذه الرغبة هي الوسيلة الوحيدة لإدامة كل انفعال .