ديمقراطية الصندوق وخارجه
طالب سعدون
لايمكن ان تكون الانتخابات ، في أي بلد ، حرة وديمقراطية ، وتطمئن الى نتائجها ، بمجرد أن تضمن سلامة (الصندوق) فقط ، من أن تناله اليد في التزوير ، حتى مع توفر القضاء النزيه المحايد ، ومراقبة محلية وعالمية للانتخابات ، بل الديمقراطية الحقيقية التي تطمئن بها على سلامة الانتخابات ، هي خارج الصندوق ، عندما يتوفر جو عام يتمتع فيه جميع المرشحين بالمساواة في الدعاية الانتخابية ، وذلك بتحديد سقف مالي لجميع المرشحين ، مع توفر وعي جماهيري ، باهمية الانتخابات في عملية التغيير المطلوبة في اطار (الحرية المسؤولة) ..
واعني بذلك السلوك والفكر ، المطلوب توفرهما في الناخب والمرشح معا ، قبل الصندوق ،عندما يعرف الناخب قيمة صوته ، وأنه من يمنح الشرعية للحاكم ونظام الحكم ، فيكون مسؤولا عن أخطاء وحسنات مدة الولاية ، أي أن المشاركة الواعية في الانتخابات ، لا تنتهي عند الصندوق ، بل تمتد الى نهاية ولاية من يمثله ، وذلك في مراقبة أدائه وإنجازاته ، وكيف تتصرف الاحزاب المتنافسة في الانتخابات ، وكيف تعرض نفسها ، ولا أقول برامجها ، لان برامجها غالبا ما تكون واحدة وان تعددت ، عندما تكون ضمن مركب واحد ..
فالولايات المتحدة الامريكية مثلا التي تدعي (الوصاية) على الديمقراطية في العالم ، لا تجد كثير إختلاف بين برامج الحزبين (الديمقراطي والجمهوري) لأنها تدور في فلك الراسمالية (المتغولة) ، ومن اهدافها الرئيسية ، أمن اسرائيل .. ولذلك تتحكم الشركات الكبرى واللوبي اليهودي بالانتخابات ، والامر نفسه ينسحب على أي بلد ، حتى وأن تصارعت على الصندوق فيه مئات الاحزاب ، عندما تتشابه في البرامج ، والانفاق على حملاتها الانتخابية من اجل الوصول الى السلطة .
ولذلك ليست هناك غرابة في السؤال ..هل تضمن ديمقراطية سليمة ، في هذه الاختلافات الشكلية ؟ ، وهل تكون هناك عدالة ديمقراطية ، في ظل إمتلاك البعض ممن يشارك في الانتخابات ، الاعلام والمال ، وأخر لا يملكهما ؟.. وهل تصبح الديمقراطية الوسيلة الاجدى في إلاختيار الافضل ، في ظل (تهافت) و (سقوط) امام الاغراءات المالية والحسابات الضيقة ، و (تخلف) الصوت الذي لا يفرق بين الانتماء الضيق ، والولاء الاكبر ..
والتفاوت في امكانات المرشحين المادية ، يحبط الاصوات الصادقة في إعتماد الديمقراطية طريقا للتغيير ، ويدفع ذلك البعض الى العزوف عن العملية (ترشيحا وانتخابا) وحجتهم أن هذا وذاك سيفوزون ، رغما عن صوتي ، ولا داعي لأحشر نفسي في عملية محسومة النتائج سلفا.. ولذلك لا يكون (الحزب الثالث) الذي يدخل المنافسة مع الحزبين الامريكيين (الديمقراطي والجمهوري) اكثر من ديكور تجميلي لعملية محسومة مسبقا ، لواحد من الحزبين الكبيرين .. وينسحب الامر على أي حالة اخرى ممائلة في أي بلد أخر ، حتى مع تعدد وكثرة الاحزاب فيها . وفي العالم النامي ، لا تعني الديمقراطية شيئا ، اذا بقى الحال في البلاد على وضعه بعد الانتخابات ، في النواحي الاقتصادية والامنية والثقافية والسياسية .. ولهذا تكون الديمقراطية بلا مضمون ، اذا خلت برامج المرشحين من الجديد الذي يستجيب للواقع ، ويغير الحال نحو الاحسن ، وينقذ البلاد مما تعاني منه .. والديمقراطية إيمان ، قبل ان تكون صندوقا ، فلا يمكن ان تكون (ديمقراطيا) في صوتك وتختار من يمثلك حقيقة بدون (ضغوط واغراءات) ، وأنت في البيت مثلا ، تمارس أعتى اساليب الدكتاتورية ، استبدادا وعنفا ، ومصادرة للحرية. البلدان غارقة بالدم ، وغاطسة حتى الركب في الفوضى والفساد ، وتتشكل طبقة من اثرياء الفرصة ، تزيد الفقراء فقرا ، والبلاد تراجعا ، بينما تنفق (النخبة الديمقراطية) ما تشاء من الاموال ، في حلبة الصراع للفوز بصوت الفقراء ، والجلوس على كرسي السلطة ، باسم الفقراء ..
لم تكن تنقصنا الافكار لنكون ديمقراطيين ، فقد كان الاسلام اشتراكيا قبل إشتراكيي اليوم باكثر من 1400 عام ، ورحم الله ام كلثوم وهي تصدح (والاشتراكيون أنت امامهم) وسبقنا الديمقراطيين ، بالعمل (بالشورى والمشاورة) (وأمرهم شورى بينهم) وسبقنا غيرنا في القانون ، ومسلة حمورابي نظمت الحياة بقانون منه ما يعد صالحا الى اليوم ، لكن نصر على أن نحتكم الى قوانين غيرنا .. فلماذا تستهوينا المصطلحات الاجنبية ، والافكار الغربية ، وتتجه أنظارنا شرقا وغربا في السياسة ، ونعتبر ذلك طريق التقدم الامثل ، في حين اعتبرت المحكمة الدستورية الامريكية ، وهي أعلى سلطة تشريع في الولايات المتحدة أعتبرت الرسول الكريم محمد (ص) من أعظم المشرعين في العالم .. ونقشت كلية القانون في جامعة هارفرد الامريكية على حائط بمدخلها الرئيس الاية 135 من سورة النساء ووصفتها بانها من أعظم عبارات العدالة في العالم والتاريخ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ). فإذا كانت الديمقراطية عدالة وقانون ، كما يقولون ، فالاسلام ، باعتراف الغرب يعد رائد العدالة ، التي لا تميز بين الغني والفقير ، وقول الحق حتى على النفس ، وذلك هو جوهر الديمقراطية في تطبيق العدالة وسيادة القانون على الجميع ، حكاما ومحكومين … والديمقراطية التي ينشدها المواطن ويحتاجها الوطن .. ليست التي تحقق العدالة في توزيع المقاعد على الاحزاب ، واستعارة الافكار التي تحقق ذلك الهدف . . والديمقراطية ليست في تطبيق قانون هوندت أو قانون سانت ليغو أو سانت ليغو المعدل … الديمقراطية في تحقيق العدالة بإزالة الفوارق الكبيرة بين الاغنياء والفقراء ، وتحقيق العدالة الاقتصادية والاجتماعية للشعوب .. انها تتلخص بالقضاء على الفقر ، الذي يسلب حرية الانسان وانسانيته ، وحياته ..
لا تحتاج الديمقراطية غير صوت ، لا يباع ولا يشترى .. صوت بوزن الوطن ، وحجم تطلعاته .. صوت يعرف قوته وتأثيره في عملية يعتقد باهميتها الجوهرية ، في تغيير الحياة نحو الاحسن ، وفي تخليص الشعب من معاناته ، وتكون طريقا للنهوض في جميع مناحي الحياة ..
فليذهب الصوت لمستحقه .. لمن يتعامل مع الموقع بروح وطنية ، ويعده مسؤولية وواجبا لخدمة الوطن والمواطن ، وليس لتحقيق مكسب ذاتي .. يذهب لمن يمتلك برنامجا يستجيب للواقع ، وينقذ البلاد مما هي عليه .
عندها تكون للصوت قيمة ، وللديمقراطية جدوى ، وللصندوق معنى.