دوزنة ذاكرة علي السباعي

دوزنة ذاكرة علي السباعي
خطاب يحاول التغلب على السائد
جاسم الصافي
حين تعرج اللغة إلى مساحة التخيل وآلم التذكر، فهذا لا يعني أننا اعتصرنا الذات لإخراج المعنى منها، بل أن الواقع هو من مرر الذات على تجاربه، فتركت تصرخ بالمعنى الذي نسجته اللغة وارسلته الى حيز وعي المتلقي، وحين تنتظم الكلمات لتصبح جملة ذات دلاله في أي تجربه ادبية فهي تسعى الى جر التصور الى ما هو خارج المألوف الفردي اوالى مغايرة لرتابة التقليد في الاعمال الادبية التقليدية، لذا نجد ان اغلب الاعمال الادبية تتمركز في دالتها ومدلولها حول الرمز الملغم بطاقة التأويل والتصور مما ينبثق منها مسارين الاول هو تحرير المعنى من الجملة لغويا والثاني تحرر الخيال من التصور الواقعي، ورغم أن حالة الرمز تعطي تناقضا اثناء أو بعد التوصيل وحالة من التباين ما بين الرمز والمرموز حتى وان كان بعيدا عن المعنى الظاهر له وهذا ما يفسره بعض النقاد على انه بمثابة اجتهاد من الطرفين القارئ والكاتب في اعطاء الدلالة المعرفية المتعددة او هي حالة ارتدادا لصورة الذات بين المرسل والمرسل اليه، في حين ان بعض المتشائمين يعتبرون مثل هذه الاعمال الادبية هي تكلف من الكاتب ومحاولة متهورة منه لفك أسرار اللغة وتحريرها كي تنطق بأكثر من قصد وهو ما ينوع مخيال الكاتب والمتلقي معا، لكنه يشكل في الوقت نفسه ضياعهم في متاهات الشكلانية المتطرفة والحقيقة انها دكتاتورية من بعض المؤلفين الذين يحاولون السيطرة على جسد النص وانطاقه بما لا يحتمل، حتى تنزلق هذه المحاولات من بين ايديهم الى السطحية المعتادة في فطرة الادب الكلاسيكي، اذ أن تحالف الكاتب مع الواقع المعاصر دون ان يربط هذه الواقعية بأزمنته الثلاث الماضي الذي يتعكز على التراث الكتابي والتراث ألشفاهي اي الذاكرة والحاضر وهو ما يرتبط بالواقعي والطبيعي بكل قسوته من مجاورة الصورة بالشعور بطريقة المزج التناسقي لا الخلط الذي يفكك اجزاء وحدات البناء الادبي وصولا الى فسحة الأمل التي يأمل الكاتب في الوصول اليها، وهي الحقيقة الرومانسية التي تمدنا بالطاقة لهضم الواقع وانعاش مرارته بنسائم الذاكرة،مع هذا ربما يفشل الكاتب في محاولة استنطاق المعنى المبتغى لكن المحاولة هي الحل الحقيقية الوحيد لمغايرة التقليد في الادب المعاصر وهذا في حد ذاته نجاح لصاحب التجربة.
واليوم تشكل مثل هذه الاعمال خطابا يحاول الكاتب من خلاله أن يتغلب على السائد وخصوصا في الاعمال التجريبية للسرد القصصي والذي تعددت مستويات المتن الحكائي فيه وهذا ما يتفرد فيه كتاب القصة بشكل خاص عن باقي الاجناس الادبية، حيث نجد أن المتلقي يسقط في وادي لاثبات فيه لفهم المعروض من وحدة المعنى، فالرمز في القصة الحديثة عالم مجهول يستفز ما هو في داخل القارئ من تمني وحلم وحنين الى ما هو غير مبين أو ثابت في الكلمات والجمل النصية، اذ تكون ملغمة في مساحاتها السردية، وهذا ينبع من تجربة الكاتب مع اللغة واتساع فضاءها السيميائي مما تتشابك لديه التعابير حد الغموض ما بين المعنى الدلالي والمعنى اللغوي بعد تعمق الكاتب في حفريات جسد الذاكرة وصولا الى عمقها التراثي الشعبي أو الاسطوري او الديني وهنا لا نجد كمتلقين متسع من الوقت لفك مثل هذه الرموز المتلاحقة وحتى أن اعدنا قراءة النص لنعيش في قصدية اخرى طقوسية التذكر، ندرك حينها أن سوء الفهم الذي ينتابنا هو في الاصل لتعميق الفهم والتفسير في اعادة ربط الدلالات النصية من الكاتب مع الدلالات الكسبية من ذاكرتنا الجمعية ومن دونهما لا يكون للنص ان يفهم بعمقه وتوهجه الا بفهم سطحي كما نفهم حكايات الف ليلة وليلة، ويمكن ان نقول عن تشتت القارئ وتعقيد الحل عليه قد اوجد جسرا يمتد نحو التجارب المشتركة بين الكاتب والمتلقي بروافد متعددة يعيش فيها القارئ ويمكن وصفها انها روافد لولبية تخترق برزخ الماضي وتكشف بتحدي ما هو مخبوء في ذاكرتنا الجمعية، وفي النهاية يحرك عصب معطل بخدر النسيان ويعمق ذلك التقارب والتشابك بين النص واحاسيس المتلقي بقصدية مبتدعة، وهو ما حصل لي حين قرأت المجموعة القصصية للكاتب علي السباعي زليخات يوسف اذ يدخلنا الكاتب في توقيت اخر ومكان اخر قد سمح لي من خلاله بتسلله الى افكار المتلقي ويهيمن على منطق معقد في التعامل مع المعطيات المألوفة في الذاكرة.
أن السباعي يكتب بكلمات تكعيبية الرمز يحتاج لحلها مسافة ابتعاديه عن ما هو مألوف فهو لا يركن الكلمات في قالب المعنى الشائع بل يتعدى بها الى ما هو ابعد من مساحة إدراك المتلقي وقد لا اكون مبالغا لو قلت انه تصرف معي بالعقل الباطن، اذا فهو يبتكر المعنى ويراهن على التشكيك في فهم القارئ لالتقاط ومض الماضي الذي يعيش به ذلك المعنى وعدم معرفة ما هي الغاية من الحدث القصصي الذي طرحه فمثل هذا الامر يشكل عند القارئ مصدرا تهديديا وضاغطا حقيقيا على ذاكرته التي يستوقفها سؤال مهم وهو ـ ما معنى هذا ؟
لقد أجاب السباعي بطريقته عن هذا التساؤل حين حاك في متخيله القصصي ضبابية الحدث وفي اختلافات مؤتلفه كما يقول ادونيس اخضعها لقدرات العقل العملي بأدوات ومفردات المفاهيم المنطقية لتشكيل ملحمة العقل عند كاسيرر الذي سبق أن بلور لنا الرمز وجعل له أشكالا ومفاهيم وتصورات حجرت خصوبة الخيال الإبداعي وأصبح يقاس الخيال بهندسة جينية يستدل بها الكاتب من المألوف الى اللامألوف .
أن أساليب بعض الكتاب التجريبية في حفر الذاكرة واستخراج طيف الماضي المجرد من أي اعتبار واقعي وجر القصة من جدولة المنطق الرقمي الى وهم متشعب هو ما زحزح ثقة الفهم عند المتلقي للقصة المعاصرة، كون البشر بشكل عام يستقبلون الفكرة بطريقتين.. الاولى بالمفهومية التي تعتمد على قوانين العقل والبرهان والمنطق وهذا ما اعتاده الفلاسفة والعلماء، والثاني بالطريقة المجازية او الصورية والتي تعتمد على قوانين الذاكرة والخيال والتحريض وهو ما تنتهجه الكتابات الانسانية التي تسعى الى أفضل الطرق لإقناع المتلقي في هذا او ذاك العمل وهي ان يلجأ الكاتب الى العقلانية الموجهة مباشرة نحو العقل كي لا يكون العمل تحزبا وأدلجة قصدية تتيح للمتلقي وقتا للمراجعة بل يجب ان تغمس هذه الافكار بالوجدان وبكم من المشاعر الغير مقحمة لان الافكار أن جفت بالسرد والتنظير ستشغل المتلقي في النقد الدائم حتى اثناء الطرح بدل أن تشغله في حل معطيات النص، لهذا نجد السباعي قد فرق ما بين الماضي والحاضر على اساس المزج المتميز لا الخلط، والفرق ما بين الخلط والمزج هو تلاعب في ازمنة العمل الادبي، فالخلط يسجل من الماضي فعلا اسقاطيا على الحاضر يدغدغ مشاعر المتلقي ليكسب منه التأييد والبقاء اطول وقت ممكن في قراءة العمل، اما في عملية المزج التي يتبعها السباعي فهي توليفة لما ما بين الماضي وهو مشترك بين الكاتب والمتلقي والحاضر الذي يعيش تجربته الكاتب وحده، اما عن بعض التطابق ما بين المتلقي والكاتب من ناحية التجربة فهو تقويم لهيكلية القصة، وبهذه الطريقة لا يتمكن القارئ المختص او الناقد من سلخ زمانية القبل والبعد المترامية بين احشاء القصة الا بقتل الوحدة السردية بأكملها وهذا يشكل خلل في توازن قراءة النص كنص وقراءة النص كمخزون معرفي من تجارب القارئ، وما توصل اليه السباعي هو كيفية تنامي المفاهيم اللغوية بمفاهيم الاسطورة والتراث وكيف يمكن اعادة الماضي بشكل لغوي يقارب التذكر التصوري على الاقل وهو اسلوب طقسي يعتمد على المقدمات في ذاكرة كل منا ؟… ان السباعي جعل للعقل مشتركات ومتطابقات ومرتكزات ثابتة من المثالية الانية لذا كانت اللغة بهذا المنجز اللفضي منحازا الى ذاكرته
ناحت تاجية
شعدي وشخليت تنعك يا الغراب تنذكر ما تنشاف خليت الاحباب
ـ قولي للغراب سجين وملح.
فغمزت تاجية المجنونة بعينيها الباسمتين، ولتصرخ بجنون
ـ سجين وملح… سجين وملح.
فــ تاجية المجنونة تحمل الابعاد الانسانية التي وسعت المسافة الشعورية لهذا حبلت الحكاية التقليدية بما هو جديد، وضمًن السباعي لحكاية تاجية البقاء الأزلي بعد أن خلصها مما لحقها من قيود الاستعمال وضبابية الممارسة الشفاهية الفطرية، وخصوصا أن المفردات الشعبية تجعل من هكذا قصة حية ونابضه في الوعي الجمعي فتاجية ليست من الضرورة ان تكون مقصود محدد في حكاية شعبية معينة بل هي شعور مدفون في طيات جميع المجتمعات لكن بأسماء وحكايات متعددة .
ان ذاكرة السباعي أخذت ثلاث أوتار متوازية في البحث والدلالة، الأولى حين تحدث عن الأسطورة والحكايات التراثية أي البعد الزماني، والثانية دلالات الأماكن والاسماء أي البعد المكاني، والثالثة ذاكرة الذات من جانبها النفسي، كما لم يترك الكاتب جانبها العقلي سائبا بل تركه مفتوحا في التصور لأي بعد قادم، اذا السباعي عمل على دوزنة تلك الأوتار الثلاث من خلال أفاقها المعرفية وجمعها في وتر فائق الدوزنه فهو بعد أن تخلص من المعنى الذهني والجمعي حفز المتلقي لاسترجاع المعنى المغيب الذي حاكه في بواعث القصة، ولكي نكون اكثر وضوحا في ما تقدم نتبع مفهوم نظرية الفيزيائية للأوتار الكونية الفائقة او نظرية كل شيء حيث نجد فيها ان الوتر في القصة يساوي المفردة في الجملة والوتر المدوزن يساوي امتداد المفردة لما هو ابعد من تلك الجملة ولا ابالغ ان قلت انها مفردة القصة وليست الجملة وهذا الاسلوب متبع في كتابات المقال حيث تطرق في بداية امثله او حكاية شعبية يدرك القارئ في نهايتها ثيمتها الحقيقية التي بنيت لا جلها المقالة، على الرغم من ان الفرق شاسع بين معنى المفردة داخل بنية المثل الشعبي فهو على الاغلب اسم لمكان او شخص لكنه يعطي دلالة شعورية تعظم المغزى المراد من وراء المقال ككل، كما هو الغثيان لسارتر او اللا منتمي طفيليات العقل البشري لكولن ولسن او الانتباه للبرتمورافيا ومثل هذا الفرق في المقال يساوي الفارق في القصة، ان هذا الوتر الذي يمتد في طول القصة قد يكون غير مصرح بظهوره بل هو مجرد تلميح يعطي طاقة التشويق ولذة الحيرة لحل ذلك اللغز الذي يستمر مع القارئ حتى النهاية وهذا ما يجعل الوتر ذا قدرة على استثمار الزمان واعادة تصنيع نفسه في المستهل والخاتمة بل وحتى بعد ذلك اي مع ولادة ما ينتج في وعي القارئ حين ينتهي من قراءته بفترة طويلة، انه الوتر الفائق في بعده الزماني
ويمكن القول أن ما قدمه السباعي في المجموعتين هو خزين لمنتج الاحزان التي ورثها من مآسي الحروب الغبية والمتكررة في مجتمعه، ولا ننسى أن سخونة تلك الاحداث المتلاحقة والمتلاحمة على منطقته الجنوبية بخرت كل الاماني وجعلت من ذلك الانسان الجنوبي معدم ومبتور المصير يبحث عن مخرج من مازق الحياة التي انحدرت به كسيزيف ولكن بزمن سريع فأقعدت جيلا كاملا في شيخوخة مبكرة تنذرهم بالنهاية، والموت القريب، فهم يعشون ايامهم وهم مدركون ان الزمن لا يمكن ان ينتظر او يعود بهم الى الوراء.
يمكن أن نقول أن السباعي لديه الوعي بأدبية النص، وهو ما مكنه من القبض على إمكانيات اللغة في معالجة تأويل التراث الشعبي، وجعل المعنى ينمو حتى خارج رحم الجملة، نعم انه الالم الذي يعيشه الكاتب مع جيله. يقول هردر في مقالة عن اصول اللغة حين نال الانسان شرط التامل الخاص به، وحين حقق التامل في بداية هذه اللعبة الحرة، ابتكر الانسان الكلام وهذا هو ما اريد قوله ان التأمل في مجموعتي الكاتب السباعي تكشف ابتكاره لدوزنة أوتار الذاكرة التي توغلت بجذورها نحو الذاكرة البشرية وبمجال ضيق هو الفن القصصي الذي يحلم اليوم في تصدير الشعور اللحظي لا حكاية من حكايات الف ليلة وليلة .
AZP09

مشاركة