دوران عادل – عبير سلام القيسي

دوران عادل – عبير سلام القيسي

انْ كلُّ ما تقوم به سواء كان شرّاً فعلته أو خيراً سيعود عليك، أذكر هنا جيّداً تلك المرأة الجميلة ممتلئة البطن الحبلى، و هي تصارع ذكرياتها المريرة بسردها بطريقةٍ مبروزةٍ بشكلٍ مرتّب يشبه تماماً الحزن المترتّب على طيّات جفنها المبطّن.

” أروى “ ذات المنتصف من عشرينيّات وجعها تنتظر هنا مع طابور طويل من النّساء للدّخول إلى الطّبيبة النّسائيّة، أطالع إلى نظراتها الشّامخة بالعزّ رغم إنّ ما تقوم بسرده إلى النّساء ممن يسألنها شتّى أنواع الأسئلة يجعلك لا تقوى على إمساك أعصابك من الألم، حاولت بكلِّ ما أمتلك من قوّة أن اتظاهر بأنّني لست ممّن يصغين إلى حديثها لكننّي أفعل ذلك رغماً عنّي، و آبه لدرجة أنّني رجعت وقتها إلى بيتي و أنا أفكّر بها كثيراً.

” أروى “ تعاني من السّكّر المرتفع بشكل مخيف أثناء حملها لدرجة إن الطّبيبة سمحت لها بالدّخول أوّلا لاستعجال حالتها و لأنّها أيضاً في شهرها الاخير من الحمل، لذا في هي بحاجة إلى رعاية طبّيّة خاصّة، أنّها فتاة جميلة و لطيفة و شامخة مثل جمالها الّذي لم تشوههه الصّعاب، كانت قبل زواجها تسكن في بغداد و لكنّ النّصيب تدخل لتتزوّج بعيداً عن أهلها في النّاصريّة، زوجها يعمل في الجيش العراقيّ، لكنّ حظّهما لم يكن منصفا، بعد إن رزقا بطفلتين و أثناء تأدية الزّوج لواجب عمله إذا بعبوّةٍ غبيّةٍ نسفت بكلِّ السّفه الذّي تتحلّى به الزّوج مع مجموعة من العسكر، مات الجميع إلّا إن زوج ” أروى “ فقد حظي بشهامة إمرأة حملته من فم الموت إلى براحة عالم آخر، قامت بإنقاذه حيث سلّمته إلى الجيش الأمريكيّ و الّذي بدوره قام بإرساله إلى أمريكا لمدّةِ شهرين للعلاج و التّشافي هناك،

” أروى “ تروي كيف إنّ زوجها يتعذّب يوميّاً و هي كذلك و يتمنّى الموت على ما آل إليه حاله، حيث تروي بإنّ زوجها أصبح مشوّه تماماً، و بإنّه لا يستطيع المشي بشكلٍ طبيعيٍّ، ذلك لأنّهم أخذوا الكثير من الجلد لترقيع تشوّهات وجهه و جسده، ليبقى بقدم من عظام فقط دون لحم، الوصف مرير لكن هكذا اسدلّت أروى السّتائر عن واقعها، فتعاطف معها الجميع و قدّم بعضهم يد العون و ابدا البعض الآخر الاهتمام، وحاولن بعض النّسوة أن يقدّمن لها بعض المساعدة من خلال التّواصل معها لأنّها هنا شبه وحيدة فلا أهل و لا سند لها، و حينما بدأت الصّالة تتقلّص بالمراجعات الحوامل شاءت الصّدفة أن تجلس أروى الى جانبي، اخذت تغطّي وجهها بذيل غطاء رأسها المنسدل من جانبيه، و إذا بضوء يلمع من وجهها شدّني للنّظر إليها، لقد كانت تبكي حتّى إن دمعتها كانت تتلألأ جرّاء انعكاس الضّوء منها، سألتها هل تعانين من أمر، هل بأستطاعتي المساعدة ؟

أجابت بكلّ ما تحمله من عزّة نفس و أدب ” لا فدوة لعمرج “

هنا فقط انحنّت أروى و قسم الحزن ظهرها و بكت بصمت يشقعر له البدن، إلّا أن دمعتها صرخت حتّى أسمعت من به صمم، اقتربت كثيراً منها متسائلة هل آتي لك بماء، هل أنت بخير؟

فعادت ناهضة بكامل اوّجاعها و أجابت ” تسلّمين حبيبتي عندي مي “

عجزت عن المساعدة لأنّني أعلم ما تعانيه و بأن حتّى الكلام لن يخفّف عنها شيئا من ذلك الحزن الذي يتغذّى على شموخها و جمالها الآخذ، ذهبت ”أروى“ و خرجت بعدها و تمنّى الجميع لها أن تولد بالسّلامة و أن يفرّج الله عليها ما بها من ضائقة، و بعد ساعة أو أكثر بينما أنا أنتظر شعرت بالاختناق من الصّالة و من الجوّ، فأخذت اسعل بشدّة و كأنّني استنفذ كامل الأوكسجين من رئتي فإذا بفتاة جميلة و لطيفة شعرت بأنّني لست على ما يرام فقامت بسؤالي أن كنت بحاجة إلى المساعدة و هل تأتي إليّ بالماء، و فعلاً نظرت إلى والدتها وطلبت منها أن تأتي بالماء فوراً و هذا ما حصل و بعدها هدأت و ارتحّت، هنا استشعرت بأنّ كلّ ما سنقوم به سيردّ لنا عاجلاً أم آجلاً بالفعل، و هذا ما حصل معي تماماً بيّد إنّ البعض لا يعي هذا الأمر و لا يضعه نصب عينيه، فما يحكيه أهلنا في السّابق عن إنّ الدنيا دوراة فهي بالفعل كذلك، تدور علينا برد أفعالنا إلينا سواء أكانت خيراً أم كانت شرّاً، هذا الموقف جعلني أفكّر مراراً و تكراراً قبل أن أقوم بعمل ما إتجاه الآخر أو حتّى بالتّفوّه بكلمة بحقّ المقابل لأنّ ما اقوم به الآن و اقوله سيعود إليّ غداً بمثله بالضبط فدوران الدّنيا دوران عادل صائب، يعود عليك بملأ دلوك الّذي تدلّق سيله على الغير.

مشاركة