قصة قصيرة
دعوة – نصوص- مزهر جبر الساعدي
في جلستي خلف منضدة الكتابة، أمرني عقلي بالبدء، قبل أختفاء الصورة والأصوات مني، إذ حملت مسامعي الية، نباح الكلاب وأصوات الليل من عتمة المقبرة. من بين النخيل المنتشر بين القبور، ركض في لوح خيالي ، عواء وفحيح وصرير لكائنات مختلفة، نقلني من مكاني في شقتي المطلة على المقبرة ولحظتي هذه الى هناك….. الى ما كنت فيه:ـ حيث الظلام أمامي وحولي، كبل قدميَّ، الأرض تحتي، قيدتني. ثم أخذت مجسات داخلي بتشكيل أحساسي بمجاهيل مكاني المسكون بالريبة والوحشة. لم أتحرك في الحيز الضيق، ساقاي محصورة فيه. ثم وبخت باصرتيَّ على خذلانها لي، خانتني عندما جعلتني أقع في هذا الخانق المجهول، في ظلمة مخيفة، بين نخلتين سامقتين، تحوطهما شجرتان كثتان. مما زاد في صعوبة وضعي، فحيح يرتفع بين الفينة والأخرى ، من أين؟. فتشت أذاني في الزوايا، بين الجذوع، ووسط الحشائش الكثيفة. تختلط عليَّ أمكنة الفحيح وزوا غيرها. أسأل عقلي:ــ أين أختفت الطيور والعصافير؟…. أيعقل أن لا توجد في الليل كعادتها، في قلب النخلتين وبين الأغصان، يجاوبني عقلي :ــ
ــ أبتعدت عن مكامن الخطر، خائفة، صحيح، يوضح ــــ لم يحمل الهواء نحوي خفق أجنحتهما، أوقعني تعجلي في الصعود الى السدة الترابية في هذا المكان المظلم والمحاصر… عليَّ الخروج وإلا غرست هذه الكائنات غير المرئية أنيابها في أطرافي . قبالتي رغم أنعدام الرؤية، فراغ، أرشدتني عيوني إلية، أقل سواد من عتمة مكاني، قريب مني، مسافة أقل من متر، بين النخلتين . بإدارة مني، بالقوة الكامنة في دواخلي ، قفزت بقوة من خلال الفجوة، أصطدم وجهي وصدري في تراب السدة . بعد معاناة الصعود، جلست على التراب البليل بفعل رطوبة الليل، لأرتاح ومن ثم أفكر … أين أسير؟ وفي أي جهة؟. حمل الليل صوت أمي، من أعماق الظلام، حملته أجنحة حنيني إليها . نادتني من ورائي، قبل أن أغلق الباب:ــ ( يمه لا تتأخر، الدنيا ما بيه أمان، أبني)أشعرتني كلماتها بغصه في بلعومي ، شديدة الوطأة على صدري . وقفت لدقائق ، خلالها ، أحتوتها عيوني ، متكورة على نفسها ، يغطيها السواد . كان ذلك قبل أسابيع من دعوتي لأداء خدمة الأحتياط في هذه الحرب ، حرب 1991. في هذه اللحظه ركض دماغي قبلي ، دار دورة كاملة على حياتي ، أستفز ذاكرتي لأستعيد حزن أمي وألمي وخسارتها بفقدان أبي ، لم يبقَ لها غيري.
من مفارقه الحياة معي ، في الجبهة ،على ضفاف بحيرة الجكة، قبل نقلي منها الى قاطع آخر، الى وحدة أخرى، أجازتي الدورية، تأخرت أكثر من شهرين، لأن الهجوم أستمر لأسابيع ، وقع قبل يوم من إجازتي الدورية. بعد انتهاء الهجومات، حصلت على إجازتي. في الصباح وصلت الى معسكر المرور القريب من مركز تسليم الشهداء. قبل أن أدخل، ناداني أحدهم من بعيد، في البدء لم أتعرف على صوت المنادي، بعد دقائق ، عندما ركزت على نبر الصوت ، عرفته، أنه أبن عمي. متى جاء؟ أعلم أنه في قاطع آخر، بالتأكيد استقدموا وحدتهم لتعويض الخسائر.
ــــ ضمير، ضمير، ضمير،.
وقفت أنظر بلهفة أليه، مدة طويلة لم أره، اشتقت إليه . أقترب مني، أصبح أمامي، وجه في وجهي، لا يقول شيئاً، أثار أستغرابي. في عينيه ظلال من الدمع، طير مني لهفتي إليه، حل مكانها خوفي عليه.
ـــ إلهي أسترنا
بصوت مختنق ………………………
ــ ……………………………………
ــ ……………………………………
عاود ذهني اتصالة بإذاني، أسمعني صوت أبن عمي:ــ
ــ في الفجر، في صلاة الفجر، الذين كانوا بالقرب منه، من فصيلة قالوا:ـــ كان راكع، جبينه على التربة عندما أستقرت الشظية في رأسه. وحدتهم تجحفلت بالقرب من وحدتنا، أمس في المساء . تعرفت عليه، أنه عمي قلت لآمر وحدتهم، عندما سألني قريبك نائب ضابط على، الله يرحمه. كانت الدماء تغطي التربة وسجادة الصلاة.
بلا وعي، رغماً عني ، أنسكب دمعي في فمي، مسحته. ثم بإرادة مني تجولت عيوني في النخيل، الى الشمال مني . كنت مشيت فيه، قبل الآن، فترة من الزمن، لا يمكنني تقدير مدتها. عندما خرجت من مستشفى الرشيد العسكري، خلسه ، بمساعدة أحد الحراس . عاونني عندما علم بما ينتظرني في حال بقاءي في سريري، داخل الردهة .
أنسللت بهدوء بعد أن أنهى جراح المفاصل والمكسور، فحوصاته للجرحى . الجراح زميلي في الإعدادية، عرفته، لحظة حطت عيوني علية، فتحتها عندما رجع عقلي من غيابه عني. فاجئني بوقفته فوق رأسي، مثل حلم بعيد، رأيته. شعرت بإرتجاف جسدي، في آذار، بعد منتصف الليل، يزداد البرد. عليَّ الإسراع فالوقت أخذ يضايقني، لم يبقَ إلا ساعتين على الفجر.ناقشت خياراتي مع نفسي، ليس أمامي سوى طريقين، اما إلى جهة الشرق او الغرب، نحيت جانباً جانب طريق الشرق، فالسيطرات كثيرة، أخترت جهة الغرب ومن هناك أعبر جسر ديالى القديم. في الليل، بين الظلام، مع وقع أقدامي على التراب السدة، حظرت أمامي صورة أمي ، هي الآن، في هذه اللحظة وحدها في البيت ، آلمني ذلك بشدة، لكن، ما العمل، ربما، لم أرها بعد الآن. هنا جف نبع عقلي، توقفَ عن التدفق. وضعت قلمي على الورقة أمامي . سرحت بإفكاري، في ليل المقبرة، فعلاً لم أرها، ولم ترَنَّي. عندما رجعت من المنفى، بعد شهر من الغزو، في نهاية الأسبوع الأول للأحتلال. قادتني قدماي من غير دليل، لم أسأل أحداً في الطريق، دخلت الزقاق الكائن بيتي فيه، في المساء ، قبل الغروب بقليل ، أمام الباب ذو الفردتين، ذات الباب قبل أكثر من عشرين عام. الفرق الوحيد، لونه الذي تحول إلى الرمادي الباهت. قبل طرقات يدي علية، جائتني من الداخل، أصوات لم أتعرف عليها، نبرتها غريبة عني . من سَكَنَ بيتي، من غير علمي، وأنا في الخارج من؟ طرقت، طرقة، طرقتين، ثلاث، عبر خصاص الفردتين، ضربت الريح وجهي وآذاني ، صدمتني، جعلتني أتراجع قليلاً الى الوراء، إلا إنها في آن واحد أسمعتني رجع صدى، ظهر لي في تلك اللحظة كأنهُ صوت غير أدمي، في اللحظة التالية، سمعت
ــ من؟…. أجبت
ـــ أنا ضمير، صاحب هذا البيت..
أطل عليَّ من الباب بعد أن فتحه على مصراعيه، رجل لم أره في حياتي قط، لم يكن وحده ، خلفه واحد أو أثنين لم أتبين العدد على وجه الدقة. أنتشلني مما أنا فيه، من تداعيات ذهني، المحرك لقلمي، رنين هاتفي الجوال الموضوع فوقَ منضدة الكتابة أمامي، لم يكن أتصال. نظرت الى الشاشة المضاءة والعريضة، قرأءت أستلام رسالة، مرسلة من الأستاذة النخلة، قرأتها على مهل، رسالة طويلة ، خرجت من نمط الرسالة النصية. تضمنت دعوتي الى مأدبة عشاء عمل، لم أكن وحدي كما شرحت، دعوة الى جميع الأصحاب، الأخوه الأصحاب، لمناقشة أمر خطير ومهم، يتعلق بطريقة أخراج الشظية من جسد الأخ والصاحب جهاد، حبيبها، مثلنا نحن، تلك هي طبيعة علاقتنا بها.
ليعود الى سابق وضعه، وقدرته على العمل والنشاط والحركة كما كان قبل الشظية اللعينة في حرب عام 1991 أمران أثارا عجبي، دعوة الجراح الذي أشرف على علاجي قبل أكثر من عقدين وشتاين التي غادرت قبل أسبوعين من الآن ستكون معنا عبر شبكة التواصل الأجتماعي، نحتاج رأيها في مناقشة الأمر. ثم في ذيل الرسالة، حددت التاريخ، بعد أسبوع من الآن مدة كافية لي لأتم ما أتنويت كتابتهِ وترجمتي قصص والدة شتاين قلت لنفسي. لملمت أوراقي ونظفت منضدتي من بقية الأوراق المزقة. ودخلت المطبخ لأعداد فطوري ومواجهة يوم آخر جديد.


















