دعوات كزار – حسن النوّاب

hassan-nawab

كلام صريح

حسن النواب 

من‭ ‬خلال‭ ‬رفقتي‭ ‬الطويلة‭ ‬للحبيب‭ ‬كزار‭ ‬حنتوش،‭ ‬تعرفتُ‭ ‬على‭ ‬أسراره‭ ‬الموجعة‭ ‬وسلوكه‭ ‬النبيل‭ ‬وثقافته‭ ‬الرصينة‭ ‬وأحلامه‭ ‬التي‭ ‬أجهضت،‭ ‬مثلما‭ ‬كنتُ‭ ‬قريباً‭ ‬من‭ ‬أمنياته‭ ‬الغريبة‭ ‬والتي‭ ‬لا‭ ‬تخلو‭ ‬من‭ ‬حرج‭ ‬وفكاهة‭ ‬في‭ ‬ذات‭ ‬الوقت،‭ ‬ومن‭ ‬تلك‭ ‬الأمنيات‭ ‬كان‭ ‬يسعى‭ ‬إلى‭ ‬إقامة‭ ‬أمسية‭ ‬أدبية‭ ‬لكل‭ ‬أديب‭ ‬يحبه‭ ‬في‭ ‬مدينته‭ ‬الديوانية،‭ ‬وكثيرا‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يوجه‭ ‬الدعوة‭ ‬للأدباء‭ ‬الذي‭ ‬يحبهم‭ ‬لزيارة‭ ‬مدينته‭ ‬حين‭ ‬نجتمع‭ ‬حول‭ ‬مائدة‭ ‬ليلية‭ ‬في‭ ‬نادي‭ ‬الأدباء،‭ ‬لكنه‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬ينسى‭ ‬تلك‭ ‬الدعوات‭ ‬حين‭ ‬يطل‭ ‬الصباح،‭ ‬ذات‭ ‬ليلة‭ ‬صيفية‭ ‬رائعة‭ ‬كنا‭ ‬نجلس‭ ‬في‭ ‬حديقة‭ ‬نادي‭ ‬الأدباء،‭ ‬وسألني‭ ‬عن‭ ‬وجهة‭ ‬نظري‭ ‬بتوجيه‭ ‬دعوة‭ ‬للصديق‭ ‬الشاعر‭ ‬خزعل‭ ‬الماجدي‭ ‬لإقامة‭ ‬أمسية‭ ‬كبيرة‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬الديوانية،‭ ‬بالطبع‭ ‬تحمست‭ ‬لفكرته،‭ ‬مما‭ ‬شجعه‭ ‬للنهوض‭ ‬والتداول‭ ‬في‭ ‬الأمر‭ ‬مع‭ ‬الماجدي‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يجلس‭ ‬في‭ ‬ركن‭ ‬الحديقة‭ ‬مع‭ ‬شعراء‭ ‬آخرين،‭ ‬ثم‭ ‬عاد‭ ‬مبتهجاً‭ ‬وهو‭ ‬يخبرني‭ ‬أن‭ ‬الماجدي‭ ‬وافق‭ ‬على‭ ‬الدعوة‭ ‬التي‭ ‬إتفق‭ ‬معه‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬بعد‭ ‬إسبوع‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الليلة،‭ ‬وأخذتنا‭ ‬شوارع‭ ‬العاصمة‭ ‬بغداد‭ ‬وحاناتها‭ ‬ومقاهيها،‭ ‬ولما‭ ‬حان‭ ‬موعد‭ ‬الأمسية‭ ‬كان‭ ‬كزار‭ ‬لما‭ ‬يزل‭ ‬معي‭ ‬في‭ ‬بغداد‭ ‬بينما‭ ‬شد‭ ‬الرحال‭ ‬شاعرنا‭ ‬الماجدي‭ ‬إلى‭ ‬مدينة‭ ‬الديوانية‭ ‬إحتراما‭ ‬للوعد‭ ‬الذي‭ ‬قطعه‭ ‬أمام‭ ‬كزار‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الليلة،‭ ‬أذكر‭ ‬كنا‭ ‬نجلس‭ ‬في‭ ‬حانة‭ ‬بائسة‭ ‬عند‭ ‬الغروب‭ ‬حين‭ ‬تذكرنا‭ ‬موعد‭ ‬تلك‭ ‬الأمسية،‭ ‬فداهم‭ ‬كزار‭ ‬الاضطراب‭ ‬ونهض‭ ‬كالملدوغ‭ ‬مقررا‭ ‬السفر‭ ‬إلى‭ ‬مدينته،‭ ‬لم‭ ‬تنفع‭ ‬محاولاتي‭ ‬حتى‭ ‬يتراجع‭ ‬عن‭ ‬فكرة‭ ‬سفره‭ ‬لأن‭ ‬الوقت‭ ‬أصبح‭ ‬متأخرا‭ ‬ومن‭ ‬المحال‭ ‬أن‭ ‬نلحق‭ ‬بخزعل‭ ‬الذي‭ ‬وصل‭ ‬الديوانية‭ ‬مبكرا‭ ‬كما‭ ‬عرفنا‭ ‬ذلك‭ ‬فيما‭ ‬بعد،‭ ‬دخلنا‭ ‬إلى‭ ‬الديوانية‭ ‬ليلاً‭ ‬وقد‭ ‬أوشكت‭ ‬المحال‭ ‬التجارية‭ ‬أن‭ ‬تغلق‭ ‬أبوابها،إنطلق‭ ‬يركض‭ ‬بجنون‭ ‬إلى‭ ‬حيث‭ ‬مكان‭ ‬الأمسية‭ ‬فصادفه‭ ‬أحد‭ ‬الأدباء‭ ‬الذي‭ ‬صرخ‭ ‬محتجا‭ ‬بوجهه‭: ‬بعد‭ ‬وكت‭ ‬؟‭ ‬سأله‭ ‬كزار‭ ‬بصوت‭ ‬مرتبك‭ ‬أين‭ ‬خزعل؟‭ ‬هز‭ ‬يده‭ ‬ذلك‭ ‬الأديب‭ ‬الغر‭ ‬وأجاب‭ ‬بغضب‭: ‬لقد‭ ‬عاد‭ ‬إلى‭ ‬بغداد‭ ‬خائباً‭ ‬وهو‭ ‬يلعن‭ ‬السماوات‭ ‬واليوم‭ ‬الذي‭ ‬أصبح‭ ‬صديقا‭ ‬لكَ‭! ‬كأن‭ ‬صعقة‭ ‬عنيفة‭ ‬تلقاها‭ ‬كزار‭ ‬في‭ ‬مفاصل‭ ‬جسده‭ ‬الهزيل‭ ‬وما‭ ‬عاد‭ ‬يقوى‭ ‬على‭ ‬الوقوف،‭ ‬فجلس‭ ‬على‭ ‬حافة‭ ‬الرصيف‭ ‬مدمراً‭ ‬والسيجارة‭ ‬ترتعش‭ ‬بين‭ ‬أصابعهُ،‭ ‬مرت‭ ‬دقائق‭ ‬صمت‭ ‬حرجة‭ ‬ثم‭ ‬نظر‭ ‬نحوي‭ ‬بهلع‭ ‬وتساءل‭ ‬مع‭ ‬نفسه‭: ‬لا‭ ‬أظن‭ ‬أن‭ ‬خزعلا‭ ‬سيغفر‭ ‬لي‭ ‬؟‭ ‬لكن‭ ‬الماجدي‭ ‬حين‭ ‬إلتقاه‭ ‬في‭ ‬حديقة‭ ‬نادي‭ ‬الأدباء‭ ‬بعد‭ ‬شهر‭ ‬عاتبه‭ ‬بمحبة‭ ‬غامرة‭ ‬ودفع‭ ‬ثمن‭ ‬خمرتنا‭ ‬وطعامنا‭ ‬أيضا‭. ‬لم‭ ‬تمض‭ ‬سوى‭ ‬أسابيع‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الواقعة،‭ ‬حتى‭ ‬دخلت‭ ‬برفقته‭ ‬إلى‭ ‬مكتب‭ ‬وكيل‭ ‬وزير‭ ‬الثقافة‭ ‬صديقنا‭ ‬حميد‭ ‬سعيد‭ ‬وكنا‭ ‬نصف‭ ‬ثملين،‭ ‬وبدون‭ ‬إتفاق‭ ‬مسبق‭ ‬معي،‭ ‬عرض‭ ‬بحماس‭ ‬فكرة‭ ‬إقامة‭ ‬أمسية‭ ‬شعرية‭ ‬لأبي‭ ‬بادية‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬الديوانية،‭ ‬رحبّ‭ ‬وكيل‭ ‬وزير‭ ‬الثقافة‭ ‬بالدعوة‭ ‬المفاجئة‭ ‬وإتفق‭ ‬معه‭ ‬على‭ ‬موعدها،‭ ‬وحال‭ ‬خروجنا‭ ‬من‭ ‬مكتبه‭ ‬بدأت‭ ‬تحضيرات‭ ‬كزار‭ ‬للأمسية‭ ‬المرتقبة‭ ‬والتي‭ ‬ينتظرها‭ ‬الجميع،‭ ‬وتمكن‭ ‬من‭ ‬إكمال‭ ‬الدعاية‭ ‬الإعلانية‭ ‬ومستلزمات‭ ‬الأمسية‭ ‬قبل‭ ‬موعدها‭ ‬بثلاثة‭ ‬أيام‭ ‬بعد‭ ‬جهد‭ ‬جبار‭ ‬بذله‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تذليل‭ ‬جميع‭ ‬المعوقات‭ ‬التي‭ ‬صادفته،‭ ‬ولما‭ ‬إطمئن‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬هاتفني‭ ‬حتى‭ ‬ألتقيه‭ ‬في‭ ‬بغداد‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬نعود‭ ‬بعد‭ ‬يومين‭ ‬برفقة‭ ‬صديقنا‭ ‬حميد‭ ‬سعيد‭ ‬إلى‭ ‬الديوانية‭ ‬حيث‭ ‬موعد‭ ‬الأمسية،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬تسكعنا‭ ‬في‭ ‬شوارع‭ ‬العاصمة‭ ‬وإفراطنا‭ ‬بتناول‭ ‬إبنة‭ ‬الكروم‭ ‬جعلنا‭ ‬بدوّامة‭ ‬النسيان؟‭! ‬بينما‭ ‬كان‭ ‬صديقنا‭ ‬وكيل‭ ‬وزير‭ ‬الثقافة‭  ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ ‬يتجول‭ ‬وحيداً‭ ‬في‭ ‬شوارع‭ ‬الديوانية‭ ‬بحثاً‭ ‬عن‭ ‬كزار‭ ‬حنتوش،‭ ‬ولما‭ ‬يئس‭ ‬دخل‭ ‬إلى‭ ‬مكتبة‭ ‬في‭ ‬سوقها‭ ‬العصري‭ ‬ليكون‭ ‬في‭ ‬استقباله‭ ‬صاحبها‭ ‬الذي‭ ‬صعق‭ ‬من‭ ‬وجود‭ ‬حميد‭ ‬سعيد‭ ‬أمامه‭ ‬؛‭ ‬أيقن‭ ‬أبا‭ ‬بادية‭ ‬من‭ ‬لا‭ ‬جدوى‭ ‬السؤال‭ ‬عن‭ ‬كزار‭ ‬وإكتفى‭ ‬بشرب‭ ‬الشاي‭ ‬وعاد‭ ‬حاملا‭ ‬شعره‭ ‬الى‭ ‬بغداد‭ ‬بصمت‭ ‬جليل،‭ ‬بينما‭ ‬نزلت‭ ‬الصاعقة‭ ‬على‭ ‬رأسينا‭ ‬حين‭ ‬تذكرنا‭ ‬موعد‭ ‬الأمسية‭ ‬حين‭ ‬أفقنا‭ ‬عند‭ ‬الظهيرة‭ ‬بفندق‭ ‬رخيص،‭ ‬وقد‭ ‬إنتهى‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬مكثنا‭ ‬في‭ ‬حيرة‭ ‬من‭ ‬أمرنا‭ ‬وملايين‭ ‬السياط‭ ‬مافتئت‭ ‬تجلد‭ ‬ضميرنا‭ ‬بلا‭ ‬هوادة‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬اِقترفناه‭ ‬بحق‭ ‬صديقنا‭ ‬حميد‭ ‬سعيد،‭ ‬لذنا‭ ‬في‭ ‬عتمة‭ ‬حانة‭ ‬حزينة‭ ‬وشربنا‭ ‬بقسوة‭ ‬ثم‭ ‬قررنا‭ ‬الذهاب‭ ‬إلى‭ ‬مكتب‭ ‬وكيل‭ ‬وزير‭ ‬الثقافة‭ ‬لتقديم‭ ‬الإعتذار‭ ‬عسى‭ ‬يغفر‭ ‬لنا،‭ ‬استقبلنا‭ ‬وعلى‭ ‬وجهه‭ ‬ابتسامة‭ ‬متسامحة،‭ ‬وكلما‭ ‬هممنا‭ ‬التحدث‭ ‬عن‭ ‬الأمسية‭ ‬كان‭ ‬يغيّر‭ ‬دفة‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬الشعر‭ ‬والسؤال‭ ‬عن‭ ‬أحوالنا‭ ‬حتى‭ ‬خرجنا‭ ‬من‭ ‬مكتبه‭ ‬وفي‭ ‬جيب‭ ‬كزار‭ ‬ما‭ ‬يكفي‭ ‬لبقائنا‭ ‬في‭ ‬العاصمة‭ ‬لمدة‭ ‬إسبوع‭ ‬آخر‭.‬

 

مشاركة