
دروس مستنبطة من معركة الموصل – سامي الزبيدي
للمعارك الكبرى والحاسمة في التاريخ دروس عديدة مستنبطة تتعلق بالخطط الموضوعة لها وطريقة تنفيذها وأسلوب قيادتها وأسباب نجاحها والتحديات التي واجهتها وتغلبت عليها وتأثيرها على معارك مشابهة قد تحدث مستقبلاً وهذه الدروس تصلح لان تكون مرجعا للمؤسسات العسكرية ولمعاهد الدراسات الإستراتيجية ومصدرا مهما من مصادر التدريس فيها يستفيد منها الدارسون وطلبة الكليات العسكرية وكليات الأركان والكليات العسكرية المتقدمة الأخرى , وليست كل الحروب والمعارك تثمر دروساً مستنبطة مهمة ومفيدة فهناك الكثير من الحروب العبثية والمعارك الخاسرة وان كانت رابحة تسببت في الكثير من الكوارث والماسي لشعوب العالم كالحربين العالميتين الأولى والثانية ومعارك البوسنة وعملية غزو العراق القذرتين اللتين لازالت تداعياتهما السلبية وإفرازاتهما المأساوية ماثلة للعيان الى أيامنا هذه وبالمقابل هناك حروب ومعارك قديمة وحديثة لها مآثر خالدة كتبها التاريخ بأحرف من نور أفرزت العديد من الدروس المهمة ومن المعاصرة منها حرب توحيد فيتنام نهاية ستينات القرن الماضي وحروب التحرير العربية والأفريقية من الاستعمارين الإنكليزي والفرنسي وحرب العرب ضد إسرائيل عام 1973 ومعركة تحرير الفاو نهاية الحرب الإيرانية العراقية عام 1988 وغيرها وتضاف معركة الموصل الى هذه المعارك والمآثر الخالدة كونها نموذجية في استحضاراتها وفي إدارتها وحاسمة في نتائجها فمعركة تحرير الموصل تعد من المعارك الكبرى في الحروب الحديثة ومن المعارك الفريدة في قتال المدن حفلت بالعديد من الدروس المستنبطة التي تفيد الدارسين والباحثين العسكريين والاستراتيجيين وستغني المؤسسات العسكرية بالعديد من المفاهيم والسياقات الجديدة في هذا النوع الصعب والمعقد من المعارك ,والدروس المستنبطة من معركة الموصل عديدة ومهمة لا تقتصر على الجانب العسكري البحت بل إنها أفرزت دروساً مستنبطةً أخرى لا تقل أهمية عن الجوانب العسكرية والتي تتعلق بالجانب الإنساني للمدنيين المحاصرين فيها وأسلوب التعامل مع مدينة مأهولة بأعداد كبيرة من السكان المدنيين ولأهمية الموضوع سأتطرق الى الدروس المستنبطة لكلا المحورين العسكري والإنساني على حده , ومن أهم الدروس المستنبطة ذات الطابع العسكري ما يلي :
- 1. الخطط المحكمة والمرنة , فقد أعدت قيادة العمليات المشتركة خططاً محكمة ودقيقة شملت تفاصيل كبيرة وعديدة أنارت الطريق للقادة والآمرين وحتى المقاتلين لمعرفة أهدافهم وواجباتهم بدقة مما سهل في عملية تنفيذها بتوقيتاتها المحددة وبتفاصيلها الدقيقة وأسهمت هذه الخطط في نجاح المعركة المؤكد ومن مميزات هذه الخطط أنها كانت مرنة وقابلة للتعديل وحتى التغيير لتوافق متطلبات المعركة على الأرض . دقة توخي الأهداف ,شملت الخطط تحديد دقيق للأهداف التي يجب أن تهاجم أولا حسب أهميتها وتأثيرها على سير المعركة وعلى العمليات اللاحقة وبما تؤمن النجاح الأكيد و السريع وما يحدثه هذا النجاح من تأثير ايجابي على معنويات مقاتلينا وتأثير سلبي على العدو ومعنويات عناصره. 3. القوة والكثافة النارية الكبيرة استخدمت في معركة الموصل كثافة نارية كبيرة أرعبت العدو وأوقعت به خسائر كبيرة جداً لم يكن يتوقعها فأربكت حساباته وأحدثت خللاً كبيرا في استعداداته واستحضاراته الدفاعية وجاءت هذه الكثافة من الاستخدام الكفوء للقوة الجوية وطيران الجيش وسلاح الصواريخ والمدفعية والدبابات مضافاً إليها أسلحة الإسناد للتشكيلات والوحدات إضافةً الى الإسناد الجوي لدول التحالف . 4. القادة والآمرين في الأمام ان وجود القادة والآمرين في الأمام ومع المقاتلين سلاح ذو حدين يمكن أن يأتي بنتائج عكسية لا سامح الله عند فقدان بعض القادة والآمرين أو إصابتهم لكن قادة وآمرو تشكيلات ووحدات معركة الموصل استثمروا هذا المبدأ خير استثمار وبطريقتهم الخاصة فأثمر ذلك نتائج كبيرة وحاسمة في العديد من المواقف الصعبة .
- 5. التنسيق والتعاون بين القطعات ,اشتركت العديد من القوات والتشكيلات في معركة الموصل ومنها جهاز مكافحة الإرهاب وقوات الجيش وفرقة المختلفة وقوات الشرطة الاتحادية وقوات الحشد الشعبي والعشائري والبيشمركة الكردية بالإضافة الى القوة الجوية وطيران الجيش والتحالف الدولي وتعدد القيادات والتشكيلات وبمستويات كبرى تتطلب مستوى عالي من التنسيق والتعاون وهذا ما حدث في معركة الموصل .
- 6. الشؤون الإدارية الجيدة وهي من مبادئ الحرب المهمة ومتى ما استخدمت بشكل فعال ومؤثر ودون خلل أو معوقات كبيرة أعطت نتائج جيدة وتشمل الشؤون الإدارية الجيدة فتح العديد من نقاط التوزيع والتموين في أماكن متقدمة و سرعة إعادة التعويض عن مواد القتال (عتاد _ أرزاق _ ماء ) والاهتمام بوصول هذه المواد في توقيتاتها وأماكنها الملائمة وسرعة معالجة وإخلاء الإصابات وتشمل كذلك الاهتمام بإجازات الضباط والمراتب وعدم تأخيرها وتكريم المتميزين من المقتلين في ساحة المعركة .
7 . الاستخبارات الجيدة كان للمعلومات الدقيقة التي حصلت عليها قواتنا سواء من الاستطلاع الجوي لدول التحالف أو لقواتنا الجوية وطيران الجيش أو الاستطلاع الأرضي أو باستخدام الطائرات المسيرة والاستخدام الأمثل لعناصر الاستطلاع وعناصر الاستخبارات أو الاستفادة من المتعاونين المدنيين وتمرير كل المعلومات عن العدو وقواته ومواضعه ومراكز قياداته وعناصره القيادية ومستودعاته ومعامله بسرعة لتصل في الوقت المناسب الأثر الكبير في حسم معركة الموصل .
- 8. استخدام التكنولوجيا الحديثة في المعركة ومنها الطائرات المسيرة القاصفة أوللتصوير و جمع المعلومات واستخدام أجهزة تنصت حديثة لاستراق مكالمات العدو ومعلوماته ومعرفة نواياه أو استخدام وسائل تحديد الأهداف وتقدير المسافات وكشف المتفجرات واستخدام وسائل الاتصال الأمينة من قبل قواتنا وغيرها الأجهزة والمعدات والأساليب المتطورة التي سهلت الكثير من متطلبات تحقيق النصر لقواتنا .
دروس مستنبطة
وهناك دروس مستنبطة أخرى لا تقل أهمية عن الجوانب العسكرية وربما فاقتها تأثيراً في بعض الأحيان استحضرتها قيادة العمليات المشتركة و القادة والآمرين والمقاتلين في سوح الوغى وأسهمت بشكل كبير في نجاح المعركة وهذه الدروس تتعلق بالتعامل مع المدنيين الأبرياء المحاصرين في الأحياء السكنية والمدنيين المغرر بهم الذين يشكلون عناصر داعش المحليين وكيفية استمالتهم الى جانب القطعات حتى بات بعضهم من المتعاونين معها من خلال تزويد قطعاتنا بسيل من المعلومات عن الدواعش وهناك دروس أخرى تتعلق بكيفية التعامل مع مدينة كبيرة بحجم الموصل ومأهولة بالسكان المدنيين الذين تتطلب التوجيهات المحافظة على حياتهم قبل كل شئ ومن هذه الدروس المهمة .
- 1. التعامل مع الأحياء السكنية ذات الكثافة السكانية العالية , استخدمت القوات المهاجمة أعلى درجات ضبط النفس وضبط النار عند مهاجمة الأحياء السكنية ذات الكثافة السكانية العالية حيث يستخدم داعش المدنيين كدروع بشرية يحتمي بها فآثر القادة والآمرون التأني في اقتحام هذه الأحياء وفضلوا محاصرتها لأيام وعدم استخدام القوة الشديدة الكبيرة تجاهها وإتباع أسلوب استنزاف العدو وإيقاع الخسائر الكبيرة في صفوفه ومن ثم اقتحام المنطقة والقضاء على العدو . تحرير الإنسان فبل الأرض وهذا أحد توجيهات القائد العام للقوات المسلحة المهمة لجميع القطعات وهذا التوجيه أصبح نهجا ً عاما لكل القطعات ولكل القادة والآمرين والمقاتلين الذين وضعوا نصب أعينهم إنقاذ المدنيين الذين يستخدمهم داعش دروعاً بشرية أو يحتجزهم أو يمنعهم من الخروج باتجاه قطعاتنا وهناك من عرض نفسه للخطر ومنهم من ضحى بنفسه لإنقاذ أعداداً كبيرة من المدنيين من النساء والأطفال والشيوخ وحملهم على ظهورهم واستقبالهم بالترحاب ومن ثم إيصالهم الى الخطوط الخلفية وتقديم المساعدات الإنسانية لهم وإشاعة الطمأنينة في نفوسهم والشواهد على ذلك لا تعد ولا تحصى . 3 .الممرات الآمنة للمدنيين , ومن الدروس المهمة لمعركة الموصل هي كيفية تأمين ممرات آمنة للمدنين في منطقة سكنية مكتظة يتواجد العدو فيها بكثافة وينشر قناصته عل أسطح المباني ويستهدف المدنيين الفارين من حصاره حيث تقوم القطعات الهاجمة بمشاغلة العدو من عدة اتجاهات ومن مختلف الأسلحة لأطول مدة ممكنة بحيث يصعب على مقاتلي العدو رفع رؤوسهم و التعرض للمدنيين بعد هروبهم من حصاره وبذلك تؤمن قواتنا خروجهم بأمان وسلام ثم تتم بعد ذلك مهاجمة المنطقة أو الحي الذي خرج سكانه المدنيين وتطهيره من عصابات داعش . 4.التعامل الإنساني مع المدنيين, كان للتعامل الإنساني الذي تميز به القادة والآمرون والمقاتلون مع أبناء الموصل الحدباء الأثر الكبير في كسب ود المدنيين وإزالة غشاوة القوات الطائفية عن عيون أهل المدينة والتي كانت توصف بها القوات الأمنية قبل سقوط الموصل بسبب التصرف اللامسؤول واللامهني من أغلب القادة والآمرين مع أبناء الموصل آنذاك وكان أحد أسباب نكبة الموصل , وشواهد التعامل الإنساني عديدة لا حصر لها حتى ان إحدى الصحفيات الفرنسيات أشارت الى ذلك في تقرير مفصل عن التعامل الإنساني للقادة الميدانيين مع أشقائهم وأبنائهم في الموصل وهو سابقة لم تشهدها الحروب والمعارك الحديثة ويكفي أن نذكر ان بعض المقاتلين جعلوا من أجسادهم سلام تنزل عليه حرائر الموصل وختياراتها من العجلات العسكرية وهي حالة إنسانية رائعة وكبيرة في معانيها وقبلات أبناء الموصل على جباه ووجوه القادة والمقاتلين واحتضانهم بعد تحرير مناطقهم خير دليل على ذلك ومشاركة القوات الأمنية المدنيين في أرزاقهم بل وتقديمها الى المدنيين هي حالة إيثار كبيرة و حالة إنسانية رائعة ومعالجة الجرحى والمصابين من المدنيين في وحدات الميدان الطبية العسكرية وصرف الأدوية والعلاجات المخصصة للمقاتلين لأطفال وأبناء الموصل المصابين دليل آخر على التعامل الإنساني الكبير للقوات الأمنية والشواهد عديدة وكبيرة لا يسع المجال لذكرها هنا .
5 . الجيش ليس للقتال فقط , لقد أثبتت معركة الموصل وإجراءات وأعمال القطعات العسكرية والأمنية قبل وبعد تحرير الأحياء المناطق السكنية ان واجبات الجيش والقوات الأمنية لا تقتصر على القتال وتحرير الأرض بل تحرير الإنسان أولاً وحماية المدنيين والمحافظة على ممتلكاتهم والممتلكات العامة وتقديم الخدمات الأساسية للسكان وفتح الطرق ورفع أنقاض المعارك ونقل المدنيين الى مناطق آمنة وتقديم الخدمات الضرورية لهم وطمأنتهم أن أبناء الجيش والقوات الأمنية هم إخوانهم وأبنائهم ومساعدة السكان على العودة السريعة لمناطقهم لممارسة أعمالهم وحياتهم الطبيعية بعد ثلاث سنوات من الكبت والظلم والجور والقتل والفساد وتقييد الحريات وإشاعة الفوضى والخرافات تحت مسمى الدين التي مارستها عصابات داعش في الموصل . وبعد كل هذه الدروس القيمة وبعد هذا الانتصار الرائع ستبقى معركة الموصل من المعارك النموذجية في قتال المدن وسفراً خالداً يضاق الى أسفار جيشنا الباسل المشرفة يتذكرها الأعداء قبل الأصدقاء وتستلهم منها الكليات والمعاهد العسكرية ومعاهد الدراسات الاسنراتيجية العديد من الدروس المستنبطة والمبادئ المهمة .
















